يطرح الكتاب الذي أعدته الشاعرة الفلسطينية ريم غنايم بعنوان "كتاب الوصايا" الصادر حديثاً عن دار مرفأ (2024)، مسألة إنسانية تمس وجود الكائن، ومقدار الرهان على اللغة بعامة، والأدب بخاصة، لديمومة حياة الكائن وإنقاذه من غفلية الموت المحتم، وسط تهديد الحروب والفتن، مع اعتبارنا أن كل حرب ظالمة لكونها هادرة حياة المنخرط فيها وضحيتها على حد سواء. إذاً، الكتاب هو كناية عن "شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت"، قدم له الأديب الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل (1948) في نص بعنوان "بيان ضد الموت"، وفيه ينطلق من واقعة مقتل الأديب سليم نفار، وهو شاعر "ارتقى مع أفراد عائلته في قصف وقع بعد وقت وجيز من كتابة وصيته"، إلى جانب وصية لفتاة في الـ17، وهي "ابنة لكاتبة معروفة من غزة توجد في ألمانيا منذ العام الماضي"، (ص:7).كنع
ولئن كانت الوصايا تستوقف الأديب مانغويل باعتبارها جوهرية في مواجهة سؤال "ما الذي يجعلنا بشراً... بل يجعلنا أكثر وعياً بعالميتنا وحاجتنا إلى الآخرين من أجل البقاء". (ص:8)، فإن ما استوقفنا في هذه الوصايا يقين العرب في غزة بحصول الفاجعة أو بموتهم المحقق، على يد دولة لا تتورع عن اختيار ضحاياها بدم بارد، وبأحدث الوسائل والصواريخ الموجهة، ما دامت أوكلت إلى غلاة المتطرفين المتشبعين بصور المجازر والإبادات في حق الفلسطينيين، أعدائهم الذين افترضوهم كذلك، لكونهم يقاسمونهم الأرض القديمة عينها، على ما تلقنهم إياها التوراة التاريخية لا الرمزية، الانتقام لقتلاهم في هجمة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على يد "حماس".
وإن صح أن "مأساة الشعب الفلسطيني الحديثة لا يمكن وصفها بالكلمات، على حد ما يقول مانغويل، باعتبار الضحايا وحدهم يمتلكون القدرة على نقل الظروف التي يعيشونها إلى من يشهدون هذه المأساة"، فإن الشعراء والشاعرات والكتاب والكاتبات وسائر من امتلك المقدرة على التعبير عن فزعهم من الموت المحدق بهم من كل جانب في غزة المحاصرة وهم يخطون وصاياهم، لربما كانوا يأملون في مواجهة الموت، بل في تحديه، بإنفاذ أثر منهم يقيهم من الاندثار والفناء والسحق، على ما طالما تمنى عزرائيل إله الموت، أو إسرائيل.
بمَ تختلف هذه الوصايا؟
ولكن، بمَ تختلف هذه الوصايا التي تضمنها الكتاب عن سائر الوصايا، ولا سيما تلك الأمنيات الأخيرة التي كان يخطها الجنود، قبيل اندفاعهم لمواجهة الموت المحتوم، والارتماء في أحضان النيران التي ستهلك أعمارهم الصغيرة غالباً، وتضع حداً نهائياً لأحلامهم، وتنهي كل نبض في وجودهم الحي؟ للإجابة نقول إن عديداً من المؤسسات الثقافية والفكرية، في الغرب، عازمة على نبش هذا الإرث من الوصايا التي ترك بعضاً منها الجنود على جبهات القتال، في أوروبا، إبان الحرب العالمية الأولى، ما بين العامين (1914-1922)، على نحو ما قام به مركز جان مابيون الذي عني بجمع وصايا المجندين الفرنسيين الشعرانيين، أي الجنود الشباب، وذلك لمحاولة إدراك الحالة النفسية التي كان عليها هؤلاء قبيل انطفاء حياتهم، وما سطروه من أمنيات أخيرة لعيالهم، أو لمن يكنون لهم بمشاعر الحب والأخوة والصداقة.
ولكن مهلاً. ثمة فارق جوهري بين وصايا أولئك المجندين، ووصايا الشاعرات والشعراء، والأديبات والأدباء، وكل ذي حس بالفاجعة المقبلة عليه من الغزاويين، أن الأولى صادرة عن أشخاص أحرار نسبياً، منتمين لمؤسسة عسكرية ومدركين لدرجات الأخطار التي يتعرضون لها تباعاً، في حين أن وصايا الغزاويين صادرة عن يقين جماعي لديهم بوشك الموت قتلاً، ذلك أنهم واقعون جميعهم في ما يشبه المصيدة الكبرى، بل هم الشعب الطريد الذي لا يحق لبعض من أفراده أن ينأى بنفسه عن الاستهداف، وإنما لسان حال كل فرد منه: "متى يحين دوري؟"، و"ماذا يبقى مني، حتى يتعرف الأحياء إليَّ؟".
وصايا الشهداء
وبالفعل، يتولى الجيش الإسرائيلي مهمة القتل الاعتباطي، وينجح في ذلك، كما حصل مع الأكاديمي والشاعر الفلسطيني رفعت العرعير (1979-2023) الذي قتل مع أفراد عائلته في قصف جوي إسرائيلي، طاول منزل شقيقته شمال غزة، في السادس من ديسمبر (كانون الأول) 2023. وكان كتب في قصيدته الأخيرة بعنوان "إذا كان الموت لزاماً عليَّ"، الآتي: "إذا كان الموت لزاماً عليَّ/ لا بد أن تحيوا أنتم/ لترووا حكايتي/ لتبيعوا أغراضي/ لتقتنوا قطعة من الملابس/ وبعض الخيوط.../ حتى يرى طفل، في مكان ما في غزة/ وهو يتأمل السماء/ ينتظر والده الذي رحل في انفجار/ ولم يودع أحداً/ ولا حتى لحمه/ ولا حتى نفسه"، (ص:21).
أما سليم النفار (1963-2023) الشاعر الفلسطيني المولود في غزة، وصاحب الدواوين الشعرية المنشورة، والذي قتل في السابع من ديسمبر 2023 في غارة إسرائيلية، فيعلن في وصيته يأسه لانعدام نجدة غزة الجريحة وأهلها. ولا يمكننا هنا نسيان الشاعرة والروائية الشابة هبة أبو ندى التي قتلت تحت القصف، وكانت كتبت على الفيسبوك وصية مؤثرة جداً.
ولئن خان الفنانة الفلسطينية هبة زقوت (1984-2023) التعبير عن دنو خطر الموت منها، فإنها شاءت أن تجسد الحياة الفلسطينية وشخوص الفلسطينيين في حياتهم اليومية، عبر أعمالها الفنية الجميلة، خير وصية تتركها تعبيراً عن إيمانها برسوخ الإنسان الفلسطيني في أرضه وانتمائه الحضاري النير، قبيل مقتلها مع طفلها في الـ13 من أكتوبر 2023. وقد زينت لوحاتها الجميلة والمعبرة عدداً من صفحات الكتيب.
لم يخالف الكاتب الفلسطيني الشاب نور الدين حجاج (1996-2023) صاحب الروايتين (غريب وغريبة، وأجنحة لا تطير) حدسه، بل توقعه بدنو أجله، إذ نقل عنه كلام أخير، بل رسالة أخيرة متناقلة عبر الإنترنت، يقول فيها: "إن غزة اليوم تباد، والحياة تغيب عنها كل يوم دون أن تشرق في اليوم التالي، وربما خبر موتي سيصدر في النسخة القادمة. سنموت بصمت دون أن يعرف العالم عنا شيئاً، حتى إننا نستطيع الصراخ ولا توثيق لحظاتنا، أو كلماتنا الأخيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ينطوي الكتيب أيضاً على عديد من الوصايا لأدباء وأديبات فلسطينيين، لا يزالون على قيد الحياة، يناضلون في سبيل بقائهم، ومن أجل الدفاع عن أهل غزة، من مثل وصية الروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول (1980) صاحب عديد من الأعمال القصصية والروائية، إذ يقول: "ولأن اليد من لحم ودم، أوصي المجانين أمثالي، الغارقين في الخيال، أن يتحول بعضهم إلى زمار يأخذ الأطفال إلى مغارة بعيدة، يعزف كل رجل فيهم مقطوعته الموسيقية عند الفجر ليذهب الملائكة الصغار إلى مغارة لا مكان فيها للموت، وأن يلبس البقية قناع زوربا، ليسرقوا الطعام والألعاب من بيوت الأغنياء"، (ص:18).
ومثله الأديب والكاتب سعيد عبدالعزيز أبو غزة (1973) صاحب عديد من الأعمال الشعرية والقصصية، يصوغ وصيته على هذا النحو: "أوصي، أنا الروائي الفلسطيني سعيد عبدالعزيز أبو غزة، أقطن في مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، بأن تطبع مخطوطات رواياتي ونصوصي الأدبية، والتي أصبحت في مكان آمن في مدينة رام الله، وأن يرصد ريعها لتأسيس معهد أدبي لتعليم الفتية والصغار على الكتابة الأدبية"، (ص:29).
وفي نبرة ملؤها الأسى واليأس، تتحسر الشاعرة والروائية الفلسطينية أمل أبو عاصي اليازجي (1984) ذات الأربع مجموعات شعرية ورواية، على حال العرب والمسلمين من بعد رحيل الفلسطينيين - إن رحلوا بالقوة من غزة - قائلة: "إياكم أن تنظروا إلى مراياكم، لأنكم إذا فعلتم فسترون دماءنا على وجوهكم، وأشلاءنا بين أيديكم، وصراخنا في ملامحكم، وأصواتنا دخاناً ينقش خريطة فلسطين على صدوركم..."، (ص:33).
وعلى هذا النحو، خط كل من علي أبو ياسين (1970) الممثل والفنان الفلسطيني، ونجوى غانم (1980)، والشابة الفلسطينية ليان أسامة أبو القمصان (2006)، والشاعر الفلسطيني حسين حرز الله، والشاعر والصحافي الفلسطيني حسام معروف، والشاعر والكاتب الفلسطيني مصعب أبو توهة، الذي يقول: "إن كنت سأموت/ فليكن موتاً نظيفاً/ لا ركام فوق رفاتي/ لا جروح في رأسي أو صدري، لا دمار في مخدعي"، (ص:61). فمتى يصغي العالم لهذه النداءات المجروحة، ويكف عن الشعب الفلسطيني بعضاً من سلاسل نكباته على مدى أجياله المتعاقبة؟!