Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

3 نظرات استثنائية على كافكا في مئويته: تحرر أورسون ويلز (3)

هل أراد المخرج الإنجليزي عبر فيلم "المحاكمة" الخروج من طغيان شكسبير أم التأمل في ذلك الطغيان؟

مشهد من فيلم "المحاكمة" (1962) لويلز (موقع الفيلم)

ملخص

هناك انقسام كبير لدى الشكسبيريين والكافكاويين بصدد الإجابات الأكثر عن تساؤلات العلاقة التي بناها المخرج أورسون ويلز بين مجدد المسرح التاريخي في إنجلترا الإليزابيثية عند بدايات القرن السابع عشر وليم شكسبير، وأبرز طارحي وجودية الشرط الإنساني عند بدايات القرن العشرين فرانتز كافكا

بعد نظرة "استثنائية" أولى في هذه النظرات الثلاث على كافكا، ألقاها في حلقة أولى كاتب سيرته الألماني راينر ستاخ، وثانية ألقاها عليه "وريثه" عند نهايات القرن العشرين الروائي فيليب روث، ها نحن نستعرض هنا النظرة الثالثة والأخيرة، وهي تلك التي ألقاها السينمائي أورسون ويلز المعروف بشكسبيريته المطلقة من خلال أفلمته رواية "المحاكمة" خلال عام 1962، الرواية التي تعد حتى اليوم من أفضل ما اقتبست السينما من نصوص لكافكا على مدى القرن العشرين. وبهذه النظرة السينمائية تكتمل هذه الثلاثية التي شئناها هنا مساهمة على حدة في الاحتفال بالمئوية الأولى لرحيل الكاتب التشيكي فرانتز كافكا (1883 – 1924)، الذي يرى مؤرخو الأدب ونقاده أنه كان مفتتح الحداثة في القرن العشرين، بل المبدع الذي التقط في عدد قليل من النصوص الروائية والقصصية، كما في يومياته الحميمية وحكايته مع أبيه وعائلته ومع النساء عموماً، كل ضروب القلق الوجودي التي ستسود الشرط الإنساني، خصوصاً بعد رحيله المبكر (أكثر قليلاً من 41 سنة) مما يجعله بصورة أو بأخرى واحداً من الآباء الشرعيين لوجودية الأزمنة الحديثة. وفي الحال التي ندنو منها هنا، أي من طريق أورسون ويلز في "المحاكمة"، الأب الأكثر شرعية لما يمكن اعتباره "السينما الوجودية".

من شكسبير إلى كافكا

ومع ذلك لا مفر من الإشارة أولاً إلى أن ويلز، وقبل أن يخوض التجربة الوجودية من خلال فيلمه الكافكاوي هذا، كان معروفاً بشكسبيريته وليس فقط في الفيلمين الروائيين الطويلين الوحيدين اللذين اقتبسهما عن الكاتب الكبير، "عطيل" و"ماكبث"، وليس فقط وطبعاً من خلال فيلمه الرائع "فالستاف" الذي استمده من شخصية حضرت لدى شكسبير في أربع من مسرحياته الكبرى من دون أن تكون لها مسرحية خاصة بها، أي شخصية فالستاف. ولكن بالتأكيد ليس فقط من خلال فيلم "تصوير عطيل" الشكسبيري بصورة مواربة و"المغربي" بصورة أكثر مواربة وحققه ويلز بعد زمن طويل من تحقيقه فيلميه الشكسبيريين الرئيسين. وبالتالي بعد ما ينوف عن عقدين على تحقيق ذلك الخرق الكافكاوي في سينماه، أي "المحاكمة" الذي بقدر ما كان مستمداً من الكاتب التشيكي، كان وبحسب المخرج نفسه نظرة ألقتها السينما على حياة كافكا وأدبه. ففي نهاية الأمر، ليس ثمة ما هو عشوائي أو مجاني في سينما أورسون ويلز ولا طبعاً في علاقة هذا الأخير بـ"معلمه الأكبر" سيد الشعر والمسرح الإنجليزيين. ومن هنا يأتي سؤال لا بد من طرحه: لماذا كافكا في تلك المرحلة من حياة مخرج "المواطن كين" بعد أعوام من "انكشاف" شكسبيريته التي تكاد تكون لديه، في "عبوديته" لذلك المعلم الكبير، تفسيراً لكتاب الفرنسي لابويسي "العبودية الطوعية"؟ وهل صحيح بالتالي أن ويلز كما يرى البعض، إنما استخدم كافكا للتخلص من شبح شكسبير الرابض ثقيلاً عليه وعلى إبداعه؟ أم تراه استخدمه لتأكيد ارتباطه الروحي بصاحب "عطيل" و"ماكبث"؟

انقسام عميق؟

وفي الحقيقة، أن ثمة انقساماً كبيراً لدى الشكسبيريين والكافكاويين بصدد الإجابات الأكثر عن تساؤلات تلك العلاقة التي بناها ويلز بين مجدد المسرح التاريخي في إنجلترا الإليزابيثية عند بدايات القرن السابع عشر، وأبرز طارحي وجودية الشرط الإنساني عند بدايات القرن العشرين. ولئن كان ويلز نفسه قد حاول الكشف عن موقعه الخاص في تلك العلاقة، فإن أسلوبه الموارب في شرح مكنوناته لم يفعل أكثر من أنه زاد الغموض غموضاً. ولكنه في الوقت نفسه عرف كيف يقيم علاقة قد تبدو ثانوية من خلال الفيلم الكافكاوي بينه هو نفسه، سيرة وأفكاراً ومساراً فنياً، وبين كافكا بحيث إنه في وقت رأى فيه في فيلمه نوعاً من التصحيح لمسار وفكرانية صاحب الرواية، رأى في الوقت نفسه أنه تمكن في الاقتباس من أن يستحوذ على تلك السيرة التي تمثل شخصية "ك." المتهم بما لا يعرف ولا نعرف ماذا في "المحاكمة"، ويستحوذ عليها ليعبر من خلالها عن ذاته هو، الذي ربما قدم في هذا الفيلم أكثر صورة حميمية لذاته أمام محكمة السينما، وذلك على خطى كافكا الذي يمكن دائماً الافتراض أنه هو الآخر، في الرواية نفسها، قدم أكثر صور ذاته حميمية وصولاً إلى لعبة جلد الذات من خلال جلده بطله "ك."، وذلك استباقاً لويلز الذي إذ يجلد ذاته هو الآخر من خلال "ك." في الفيلم، إنما يسأل نفسه السؤال البسيط العميق: لماذا استنكف "ك." هذا عن المقاومة؟ لماذا استسلم أمام الشرط الإنساني المكبل له عبر محاكمة غامضة وستنتهي بدماره؟

بين الشرح والتشخيص

يقيناً أن كافكا لم يطرح هذا السؤال. كل ما في الأمر أنه بدا فقط وكأنه يشخص معضلة "ك.". ولكن يقيناً أيضاً أن ويلز بمجرد طرحه هذا السؤال – عند مختتم الفيلم ولكن أيضاً من خلال الخصوصية في تضخيم الحجم التي أسبغها على المكان خصوصاً على ما صوره لنا منذ مفتتح الفيلم بكونه المدخل العملاق لـ"قصر العدل" في ضخامة تشي بأن توازن القوى – الذي يرمز إليه هنا بالتأكيد من خلال التفاوت المريع في الحجم بين "ك." والبوابة الهائلة التي سيعجز هولها "ك." عن الدخول لعرض حالته واستقصاء أسباب "الظلم" الذي يحيق به – توازن القوى هو نفسه ذلك الشرط الإنساني الذي تستحيل مقاومته في زمن سيادة الطغيان في شمولية لن يفوت الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني، حنة آرندت، وفي نصوصها العديدة عن كافكا نفسه، أن توسعها لاحقاً في كتابها الضخم عن "جذور التوتاليتارية". ومن هنا إلى القول إن كافكا كما فسره أورسون ويلز في "المحاكمة" لا مفر من اعتباره قد وصل إليه من طريق حنة آرندت في نصوصها عن كافكا، ولكن أيضاً في إشاراتها إلى التاريخ كما صوره شكسبير في مسرحياته. وبهذا يمكننا أن نقول إن ثمة هنا دائرة تدور من حول العلاقة بين شكسبير وكافكا وجد أورسون ويلز نفسه، يدور في رحاها بعد أن قادته إلى ذلك الاهتمام بـ"المحاكمة" وصولاً إلى أفلمتها في ذلك الفيلم، الذي سيقول عنه إنه "أفضل فيلم حققته في حياتي" مدمدماً أنه "الفيلم الأكثر شكسبيرية الذي قيض لي أن أحققه. بل لعلي قدمت فيه الصورة الأكثر اكتمالاً لما أردت دائماً أن أقوله من خلال اهتمامي السينمائي، وربما المسرحي أيضاً بنتاج شكسبير ومن خلال ذلك بالشرط الإنساني، وحرصت على تصويره في كل ما أبدعت حتى اليوم. ذلك الشرط الذي عماده السؤال الحارق عن ذلك السقوط غير المفسر والمبرر الذي ينتهي إليه مصير الإنسان..."

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غرابة من خلال الواقع المادي

ولئن كان روجيه غارودي قد كتب في خير كتبه "واقعية بلا ضفاف" يقول إن "عظمة كافكا تكمن في كونه قد عرف كيف يخلق عالماً أسطورياً لا ينفصل أي انفصال عن العالم الحقيقي، فإن قوته تكمن في أنه خلق ذلك العالم الغرائبي باستخدامه مواد تنتمي إلى العالم الحقيقي نفسه، لكنه عرف كيف يوالف بينها تبعاً لقوانين أخرى"، فلا شك أن ذلك ما فعله أورسون ويلز في فيلم "المحاكمة" قاصداً من الفيلم أن يكون، لا نظرة على "ك." تلك الشخصية التي يتمثل فيها الشرط الإنساني بكل جبروته وطغيانه، ولكن نظرة على كافكا نفسه كمستوعب للشرط الإنساني ناقم عليه محذراً منه ولو من خلال جملة تساؤلات تتعلق تحديداً باستنكاف "ك." عن المقاومة، طارحاً سؤالاً بديهياً من المدهش، في نظر ويلز أن كافكا لم يطرحه لا على لسان بطله ولا من خلال نظرات أية شخصية من شخصيات الرواية التي التقاها المتهم خلال بحثه عن "أسباب" التهمة الموجهة إليه، غير دار أن ما كان يجب أن يسعى إليه إنما هو أمر آخر تماماً: الوسيلة الفضلى للمقاومة، وهو ما كان يمكن أن يتضمنه ذلك السؤال المحدد الذي يطرحه أورسون ويلز على فيلمه، وفي باله كل أولئك الأبطال الشكسبيريين الذين تكمن فضيلتهم وقوتهم في كونهم قد قاوموا في نهاية الأمر فاتخذ التاريخ من خلالهم أبعاداً أخرى: "ماذا لو قاوم السيد ك.؟"

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة