ملخص
الرأي العام في مصر لا يميل إلى الرضا عن الأداء الحكومي في ملف الكهرباء ولا سيما مع تصاعد الموجات الحارة لدرجات يصعب تحملها ولا يتوقع أن يختلف الأداء الحكومي في هذا الملف حتى في حال رحيل وزير الكهرباء والطاقة المتجددة الحالي.
لدى كثير من دول العالم مؤسسات وشركات تدير "سمعة" الحكومات وتزين إجراءاتها وتجمل سياساتها، وتقدم النصح والإرشاد لمسؤوليها حول كيفية التطرق إلى تبرير أفعالها بطرق مختلفة وأدوات متنوعة.
ووسط هذه التنويعات المختلفة لإدارة سمعة الحكومات وشعبيتها دول وحكومات وشعوب لا تملك رفاهية التفكير في كيفية الإدارة أو طاقة التدبير للتعبير عن سوء الإدارة أو حسنها، وعلى مدى نحو 10 أعوام تمكن أكاديميون وخبراء من التأسيس لعلوم باتت راسخة، مثل الإدارة العامة وإدارة الحكومات وغيرها، بل تطور الأمر إلى وضع قواعد وأسس لإدارة السُمع والأداءات وحساب التوقيتات المناسبة لإعلان سياسة ما هنا أو تعديل قرار ما هناك، وهناك من بين آلاف الدراسات والكتب التي تدرّس في الجامعات والمعاهد ما يشير إلى أن عدم الرضا الشعبي عن أداء المؤسسات الرسمية أمر قديم قدم الشعوب والحكومات، فعلى سبيل المثال لا الحصر تشير دراسة عنوانها "منظمات القطاع العام وإدارة السمعة" الصادرة عن "جامعة أوسلو" (2012) إلى أن "صورة المسؤولين والبيروقراطيين المعتلة ممن يحاولون باستمرار كيفية إحكام مزيد من القبضة على المواطنين، وفي الوقت نفسه يوسعون نفوذهم الخبيث أو يمعنون بأدائهم البيروقراطي الكسول أو المماطل غير المبالي طلبات وحاجات الجمهور، ضمن الصورة العامة للحكومات".
الصورة العامة للحكومات
ويبدو أن الصورة العامة للحكومات تحكمها آراء وتقييمات الشعوب، وتضعها في خانة سلبية دائماً وأبداً وإن اختلفت درجات السلبية، وتقول الدراسة إن "الصورة العامة للحكومات محاطة بضباب متشائم من عدم الثقة والسخرية والازدراء، حتى كلمة بيروقراطية، وهي في الأصل تعني الإجراءات الإدارية المعقدة، أصبحت مصطلحاً مهيناً بدلاً من أن ترمز إلى تحسين أداء الخدمات واللجوء إلى العقل والمنطق لدى سنّ السياسات وكفاءة التنفيذ".
هذه الأيام الشعب في مصر واقع في قبضة موجة شديدة الحرارة يصفها بعض خبراء الأرصاد بـ"شديدة الخطورة" تارة و"غير مسبوقة في هذا الوقت من العام" تارة أخرى، لكنها في نهاية اليوم تبقى حرارة مستعرة وشمساً قائظة وطقساً لا يحتمل حتى في ساعات الليل، والمشكلة أن الطقس ليس وحده الذي أحكم قبضته على المصريين بل انضمت إليه الكهرباء وجداول تخفيف الأحمال ومراجعات التخفيف، مع قدر لا يستهان به من تضارب التصريحات لتضيف هماً خانقاً لا يحتمل.
موجات حرارة متلاحقة
"الحالية تنتهي غداً والجديدة تبدأ بعد غد"، عنوان اختاره موقع إخباري غير معروف ليلخص إلى أن توقعات الطقس حيث الموجة الحالية تنتهي، لتبدأ موجة جديدة أشد حرارة وأعلى رطوبة، وبالصدفة تتزامن نهاية هذه الموجة وبداية تلك مع تواتر تصريحات رسمية عن جداول تخفيف الأحمال، والإعلان عن تعديلات فيها والتأكيد على أن التخفيف إلى زوال في يوم ما، مع الإشارة إلى أن التخفيف شر لا بد منه أو خير لو تدرون.
بات المصريون على دراية تامة بمعنى "تخفيف الأحمال"، وانضمت أسئلة مثل "تخفيفكم إمتى؟" أو "الجدول عندكم ماشي كما المعلن أم مختلف؟" وغيرهما إلى الحوارات المعتادة بين المواطنين وذلك عقب "إزاي الصحة؟"، "إزاي الحال؟"، لكن حال تخفيف الأحمال أبى أن يلتزم المعلن أو ينتهي كما وعدت الحكومة من قبل.
ويشار أن عدم القدرة على توفير الطلب المحلي من الكهرباء لا يعود للأمس القريب وربط المشكلة بحرب غزة، وتوقف ثم نقص كميات الغاز الواردة من الخارج، أو وقت اعتبر ملايين المصريين جماعة "الإخوان المسلمين" التي حكمت مصر بين عامي 2012 و2013 المسؤول الأول عن تكرار انقطاع التيار بشكل متكرر، والتسبب في أضرار صحية ومعنوية وعملية لا حصر لها للمواطنين.
جذور الأزمة
تعود جذور الأزمة لعام 2009 عندما انخفضت قدرة الحكومة على تلبية الطلب المحلي وبدأ تخفيف الأحمال فعلياً من دون الإعلان أو المجاهرة بـ "خطة تخفيف أحمال"، ومضت الأعوام بين الإعلان عن تعطل مولد أو إصلاح محطة تغذية أو إجراء صيانة، والطريف أن الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في أغسطس (آب) فاجأ وزير الكهرباء والطاقة آنذاك حسن يونس بسؤال "عايز أعرف ليه التيار الكهربائي بيقطع خصوصاً إن عندنا إنتاج كبير من الكهرباء؟".
وبعد سرد من الوزير لمعدلات الاستهلاك وشرح لزيادة الاستهلاك نهاراً حين يستيقظ المواطنون وانخفاضها ليلاً حين ينامون، يبدو أن الرئيس مبارك أراد إجابة مباشرة فعاود السؤال "إحنا عندنا إنتاج يكفي أم لا؟ هل المحولات لا تتحمل الضغط؟" هنا اضطر الوزير إلى الإجابة من دون سرد أو شرح، "نعم لدينا إنتاج لكن القدرات الحالية لا تكفي وقت الذروة، ونحن لسنا ضد استخدام الناس للتكييف لكن أن يستخدموه فقط في الأماكن التي يوجدون فيها، وكذلك إنارة الأماكن التي يجلسون فيها فقط".
خانة كهربائية واحترارية صعبة
اليوم وبعد مرور 15 عاماً على هذا الحوار يجد المصريون أنفسهم في خانة كهربائية أصعب وحرارية أقسى، بحسب دراسة أجراها علماء من "هيئة الأرصاد الجوية المصرية" و"المركز القومي للبحوث" عام 2019، وقد سجلت درجات الحرارة اليومية في مصر ارتفاعاً بنحو 1.5 درجة مئوية منذ عام 1960.
دراسات أخرى وثقت ما أسمته "المعدلات الأعلى للاحترار" في مصر، حيث زيادة متوسط 0.53 درجة مئوية لكل عقد، وهي زيادة كبيرة وخطرة،
لكن خطورة من نوع آخر تلوح في الأفق هذه الأيام، وهي خطورة الاحترار الشعبي الناجم عن درجات حرارة مع احترار معدلات الجو، مضافاً إليهما ما يراه بعضهم سوءاً أو تعثراً أو تعرقلاً أو زللاً يصفه الواقفون على أقصى اليسار بـ "الإخفاق الكبير" أو "الفشل الذريع"، في حين لا يعتبره أهل اليمين إلا "تعثراً بسيطاً" أو "مشكلة عالمية كان يمكن معالجتها محلياً بشكل أفضل نسبياً".
للنسبية استناءات
كثير من الأمور في الدنيا نسبية، لكن كسر درجات الحرارة حاجز الـ 50 قبل أيام، وتحديداً 50.9 درجة مئوية، لم يترك مجالاً لنسبية التفسير في شؤون التخفيف أو التعليل في أمور انقطاع التيار خارج سياق الجداول المعلنة، ما تم تحديثه قبل أسابيع وما بقي على حاله من دون تعديل معلن.
وأعلن على مدى الأسبوع الماضي أن "وزارة الكهرباء تقرر زيادة مدة تخفيف الأحمال وزيادة فترة تخفيف الأحمال ساعة إضافية، والكهرباء تتراجع عن زيادة مدة تخفيف الأحمال، وكذلك وزارتا الكهرباء والبترول تعلنان انتهاء تخفيف الأحمال ساعة إضافية"، و"تخفيف الأحمال شر لا بد منه" و"تخفيف الأحمال أفضل من تعريض الشبكة القومية لأخطار قصوى"، ووداعاً تخفيف الأحمال ومرحباً تخفيف الأحمال"، والمصريون محاطون بحديث تخفيف الأحمال الذي ينتابه بعض اللغط ولا يخلو، منذ أصبح أمراً واقعاً، من قدر وافر من التصريح والتصريح المضاد، فما بالك بردود الفعل ورود الفعل المضاد؟
المجمع يقر "تخفيف الأحمال"
المضمون الحقيقي لأزمة تخفيف الأحمال في طورها الحالي والمتزامن وموجة ارتفاع حرارة مريعة، ليس في التخفيف لكنه في طريقة إدارة الأزمة، وقبل نحو شهرين تناول الكاتب الصحافي حمدي رزق في مقالة عنوانها "تخفيف الأحمال لغوياً وسياسياً"، مربط فرس الأزمة قبل أن تتفاقم، وكتب بعد ما أثنى على اعتماد مجمع اللغة العربية مصطلح "تخفيف الأحمال" بعد درسه من لجنة الألفاظ، مضيفاً على المصطلح "المشروعية اللغوية"، "الحكومة مكرهة على انتهاج خطة تخفيف الأحمال، والطيبون مكرهون على تحمل أعباء تخفيف الأحمال، والحكمة تقول نستحمل بعضنا ونخفف على بعض، الحكومة تجتهد في تخفيف أعباء التخفيف، والناس تتقبل التخفيف بصدر رحب، شدة وتزول".
وأضاف رزق، "فقط التخفيف يراعي الأولويات ويحقق الموازنات وبجداول زمنية مقررة صارمة، ليتكيف معها عموم الناس ويجدولوا يومياتهم وفق مواعيد التخفيف المقررة سلفاً، ولا داعي للمفاجآت غير السارة وحوادث التخفيف المؤلمة".
التخفيف المؤلم
القصة المؤلمة التي تحكيها طبيبة شابة ليست الوحيدة لكنها نموذج يعايشه ويكابده مصريون يومياً، فقد أبلغتها مدرسة ابنها البالغ من العمر تسع سنوات أن درجة حرارته مرتفعة ويتقيأ ويعاني آلاماً في البطن تحول دون أدائه امتحان نهاية العام، وهرعت الأم إلى المدرسة لتفاجأ أن مروحة السقف في الفصل الدراسي لا تعمل لانقطاع التيار، "بحسب جدول التخفيف في المنطقة التي تقع فيها المدرسة"، واصطحبت ابنها إلى البيت فوصلت في توقيت انقطاع التيار عن المنطقة التي يقع فيها بيتها، وصعدا السلم حتى الطابق التاسع وانتظرت بفارغ الصبر موعد عيادة الطبيب المعالج للصغير، وحان الوقت فنزلا السلم مرة أخرى، وما أن وصلا العيادة حتى فوجئا بانقطاع التيار، بحسب جدول تخفيف الأحمال في المنطقة التي تقع فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كثير يعايشون تجارب ويتناقلون قصصاً مؤلمة بعضها يصل درجة المأساة، ليس فقط جراء تخفيف الأحمال بل بسبب "الخروج على الجدول"، وبعضهم يعاني عدم التزام الجهات المختصة بقطع التيار، أي تخفيف الأحمال بحسب الجدول المعلن، والساعات أطول والقطع عشوائي، وتزامن القطع مع الموجة شديدة الحرارة وامتحانات نهاية العام لبعض الفرق الدراسية في الجامعات والمدارس، ولا سيما الثانوية العامة، والمحصلة النهائية غضب شعبي كبير.
"لا تقلقوا"
وعلى ذكر "الثانوية العامة" إذ إنها تحظى بمكانة نفسية وعصبية متفردة في كل بيت مبتلى بها، وكأن مكامن الخوف ودواعي الوجل المرتبطة بها لا تكفي، تفجرت ينابيع التصريحات الرسمية حول طلاب الثانوية العامة وجداول محدثة لتخفيف الأحمال، وأولياء أمور تمنوا أن تنظر الحكومة بعين الاعتبار لضحايا الثانوية العامة، آملين في وقف العمل بنظام التخفيف وقت الامتحانات، والمثير والمؤلم أن جدول العام الحالي هو الأطول خلال الأعوام الـ10 الماضية، لكن القرارات الرسمية أتت بما لا تشتهي الآمال الشعبية، وأعلن عن جدول مبتكر لتخفيف الأحمال ليناسب طلاب الثانوية العامة، وأعلنت وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة أنها بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني قررت تخفيف أحمال الكهرباء أثناء امتحانات الثانوية العامة بين الساعة الثالثة مساء والسابعة مساءً فقط، وكانت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني طمأنت أولياء الأمور قبل نحو أسبوع، مؤكدة أنها تنسق بشكل كامل مع وزارة الكهرباء لـ"عدم قطع الكهرباء أثناء الامتحانات"، وقال الوزير لأولياء الأمور "لا تقلقوا".
وظن البسطاء أن العمل بمبدأ تخفيف الأحمال سيتوقف خلال الـ40 يوماً، أي طوال أيام الامتحانات وما بينها من فواصل، لكن اتضح أن المقصود هو عدم قطع التيار الكهربائي عن اللجان أثناء تأدية الامتحانات فقط لا غير.
فضاءات المصريين
وتعج فضاءات الرأي العام والإلكترونية، إضافة إلى فضاءات المقاهي وباصات النقل العام وجلسات النوادي الراقية وتجمعات رجال ونساء المناطق الشعبية بكثير من المندرج تحت عنوان "تخفيف الأحمال"، واللافت أن نبرة الغضب متصاعدة وملامح الضجر ظاهرة، لكن على رغم ذلك فأمارات تفهّم أسباب التخفيف واضحة، بل بقايا قبولها وهضمها لا تزال باقية.
أحاديث الشارع المصري وكذلك قدر من الأثير العنكبوتي يعكسان درجة واضحة من فهم أسباب الأزمة، فبين أوضاع محلية تتعلق بالاقتصاد وأخرى عالمية وإقليمية ذات صلة بالحروب والصراعات، يمتلك المواطن البسيط قدراً ولو أدنى من الفهم والقبول للأسباب التي جعلت "تخفيف الأحمال" جزءاً من تفاصيل حياته اليومية، لكن حياة المواطن أيضاً تكالبت عليها تفاصيل إضافية أثرت سلباً في سعته الاستيعابية للمشكلات والهموم، بما فيها الاحترار والمبالغة في الاحتراز.
ارتفاع الفواتير
واحترازاً من زيادة فواتير الكهرباء باتت غالبية الأسر المصرية تطبق إجراءات صارمة في البيوت، فهي تشغل مبردات الهواء بحساب وتترك أضواء الغرف والمراوح والتلفزيون من دون حرص بحساب أيضاً ولكن عسيراً، وقد تفاقمت الإجراءات الاحترازية الشعبية خلال الأيام القليلة الماضية، ولا سيما مع سيناريوهات يجري طرحها وتصورات يدور عرضها حول زيادة أسعار الكهرباء مجدداً، وقد زادت حدة الإجراءات الاحترازية حين فاجأ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل أيام الجميع بقوله إنه في الإمكان وقف تخفيف الأحمال الذي يزعج المواطنين "شرط مضاعفة فاتورة الكهرباء ثلاثة أضعاف، بمعنى أن المواطن الذي يدفع 100 جنيه سيدفع 300 جنيه مصري"، وتساءل: "نخفف أحمال؟ أم نضاعف فاتورة الكهرباء ثلاثة أضعاف؟".
خيار التخفيف
الإجابة الشعبية دارت في عقول وقلوب الملايين من دون شرط النطق بها، "نخفف طبعاً"، وعلى رغم خيار التخفيف إلا أن مطالبات الشفافية في المواعيد والدقة في مواعيد القطع والإعادة والالتزام بالجداول المعلنة من دون زيادة، وترك هامش للطوارئ مثل بلوغ درجة الحرارة 50 درجة مئوية، تبدو منطقية.
منطق الإدارة العامة وقواعد اتخاذ السياسات وبديهيات اختيار التوقيت وسبل تمرير الإجراءات وغيرها، يطرحها خبراء وكتاب يقفون في جزيرة منعزلة ترفع راية "المنطق في اتخاذ القرار والعقلانية في التنفيذ"، فالاقتصادي المصري أحمد جلال كتب تحت عنوان "المنطق واللامنطق في قرار قطع الكهرباء" قبل أيام، مفنداً الأسباب الاقتصادية المتسببة في قرار تخفيف الأحمال، ومشيراً إلى أن الأسباب التي قدمتها الحكومة لقطع الكهرباء "تبدو منطقية"، وقد سرد جلال الأسباب التي "تبدو منطقية" في ثلاثة عناوين رئيسة، وهي "أن ما توفر من عملات أجنبية استخدم في استيفاء أولويات أساس للمواطن، مثل الغذاء والدواء ومستلزمات الإنتاج وتخفيف الضغط على الجنيه، وأن البديل لعدم قطع الكهرباء هو رفع أسعارها، وفي هذا زيادة في الأعباء الملقاة على عاتق المواطن في وقت يعاني ارتفاعاً شديداً في الأسعار، أو أن تتحمل الموازنة العامة أعباء إضافية لتغطية دعم الوقود في وقت تلتزم الحكومة فيه سقفاً لهذا العجز أمام المؤسسات الدولية".
والعنوان الثالث هو أن "هذه مرحلة موقتة وأن النية معقودة على التخلي عن هذا القرار في الخريف المقبل، ربما لأن الطلب على الكهرباء سينخفض بعد فصل الصيف وربما أملًا في تحسن أحوال الاقتصاد وتوفر العملة الصعبة".
خطاب الدولار
ولأنه من الصعب مخاطبة المواطن الذي يعاني احتراراً غير مسبوق في ظل عدم الاكتفاء بتخفيف الأحمال، كما كان معلناً، بل صار أكثير قليلاً حيناً وفي غير المواعيد المحددة حيناً آخر، وخطاب الدولار والجنيه وحرب القطاع والصراع في أوكرانيا إلى آخر القائمة، فإن الحاجة هنا إلى تجديد الخطاب الرسمي وتطهيره من التناقضات وربما إضافة بعض المحسنات.
نسمة هواء وخبر يقين
يبحث المصريون عن نسمة هواء في صيف قائظ صعب، ومعها ينقبون عن الخبر اليقين وحبذا لو أسلوب إدارة بث الأخبار وإعلان السياسات والكشف عن الإجراءات، مع مراعاة ظروف المواطنين وأحوالهم ومستجدات الساحة، وتشير دراسة عنوانها "ما هي العلاقات العامة الحكومية؟" للباحثة في مجال العلاقات العامة والتسويق الحكومي مارتينا برانيتش إلى أن أحد أهم مكونات العلاقات العامة الحكومية هو إدارة الأزمات وإدراك حقيقة أن التحديات والأزمات تحدث من دون سابق إنذار، فما بالك لو كان هناك إنذار؟
وينتظر من الحكومات القدرة على الاستجابة السريعة في أوقات الأزمات، وهذه القدرة تتضمن التواصل الواضح والشفاف مع المواطنين والقدرة على التعامل مع مواطن القلق وتقليل الخسائر المتوقعة وإعادة بناء الثقة مع المواطنين، وتشير برانيتش إلى أنه كلما كانت الحكومة متسلحة بخطط مسبقة للتواصل في الأزمات، كلما تمكنت من المضي قدماً في الأوقات الصعبة مستخدمة نهجاً إستراتيجياً ومدروساً يأخذ عاملي التوقيت والأحوال المعيشية للمواطنين في الحسبان، كلما قللت من خسائرها في ما يتعلق بشعبيتها وموقف الرأي العام منها.
الرأي العام في مصر لا يميل إلى الرضا عن الأداء الحكومي في ملف الكهرباء، ولا سيما مع تصاعد الموجات الحارة لدرجات يصعب تحملها، والحكومة المنصرفة لا يتوقع أن تختلف كثيراً عن الحكومة المقبلة، وحتى في حال رحيل وزير الكهرباء والطاقة المتجددة الحالي محمد شاكر، وهو الذي طلب غير مرة الإعفاء من منصبه "ليحظى بقدر من الراحة"، فإن خطط التخفيف ومآل الجداول ومصير الطلاب ووضع المحافظات الأكثر سخونة وطوارئ ارتفاع درجات الحرارة لمستويات تعرض فئات عدة لأخطار جسيمة، لن تتغير بشكل جذري لكن الأرجح أن تتناول بطريقة أفضل مع هامش تناقض في التصريحات أصغر، ومقدار أقل من "البشريات السارة" التي يجري زفها إليهم.
أما توقف العمل بمنظومة تخفيف الأحمال والعودة لما كان من حياة طبيعية من قبل، حيث انقطاع التيار بين وقت وآخر، يتحمله "فأر السبتية" حيناً ومبررات إصلاح محول ومحطة وبرج تقوية حيناً آخر، فلم يعد أحد يطالب به.
باتت المطالب مقتصرة على عودة الانقطاع لجداوله الطبيعية، أما شعبية الحكومة المنصرفة وعلى الأرجح المقبلة فقيد العودة لـ "الانقطاع الطبيعي" بشكل منتظم، مع مراعاة التوقيت والنظر إلى الأمور الطارئة والأزمات المفاجئة بعين الاعتبار.