ملخص
تتطور الفئران بالطريقة نفسها التي يتطور بها البشر، إذ تمتلك أعضاء مماثلة مثل القلب والرئة والدماغ والكلى إضافة إلى أنظمة هضمية ودورانية وإنجابية وعصبية مماثلة.
من الناحية الفزيولوجية، تشبه الفئران البشر إلى حد كبير، وإن كانت أصغر حجماً بنحو 3000 مرة ولكنها تتمتع بوظائف أساس مماثلة في الجسم
تلعب الفئران دوراً خاصاً ومهماً في البحث الطبي، ومثل البشر تعد الفئران من الثدييات وتخضع أجسامها لعديد من العمليات المتشابهة مثل الشيخوخة والاستجابات المناعية للعدوى والمرض، كما أن أنظمتها الهرمونية تشبه أنظمتنا كثيراً ويضاف ذلك إلى حقيقة أنها تشترك معنا في نحو 80 في المئة من جيناتها.
وقد لا يعرف كثر أن عديداً من الاختراقات المهمة في العلوم الطبية جاءت من الدراسات التي أجريت على الفئران، وتشمل هذه العلاجات على سبيل المثال لا الحصر علاج سرطان الدم النقوي الحاد، وهو صورة من صور سرطان الدم الذي يصيب الشباب إلى جانب ابتكار بروتوكولات نقل الجينات للتليف الكيسي والتي تخضع للتجارب السريرية حالياً.
والفئران مفيدة بصورة خاصة في الدراسات الجينية إذ يمكن للباحثين بسهولة التلاعب بجينومها أو حمضها النووي، لدراسة آثار الاختلافات الجينية المحددة. ويمكن للدراسات التي أجريت على الفئران أن تساعد العلماء على فهم الآليات الأساس للأمراض، وكيف تنتقل إلى النسل وفعالية العلاجات المحتملة إلى جانب فعالية التدخلات العلاجية الجديدة.
والحال أن الإنجازات العلمية الحائزة جائزة نوبل مثل اكتشاف فيتامين (ك) وتطوير لقاح شلل الأطفال، واختراع تكنولوجيا الأجسام المضادة وحيدة النسيلة المستخدمة الآن في علاج السرطان، وكشف كيفية تواصل الخلايا العصبية مع بعضها بعضاً في الدماغ، كلها لم تكن لتحدث لولا التجارب الطبية على الفئران.
لماذا الفئران؟
من الناحية الفزيولوجية، تشبه الفئران البشر إلى حد كبير وإن كانت أصغر حجماً بنحو 3000 مرة ولكنها تتمتع بوظائف أساس مماثلة في الجسم مثل إنتاج خلايا الدم (تكوين الدم) والهضم والتنفس والجهاز القلبي الوعائي. وعلى رغم وجود بعض الاختلافات فإن الفئران تستجيب بصورة مماثلة للبشر عندما يمرضون أو يخضعون للعلاج.
وتشترك الفئران في سمات وراثية مع البشر وعلى هذا النحو يمكن للعلماء التلاعب بجينومها، ونمذجة أمراض محددة واختبار عقاقير جديدة، والتحقيق في جينات الأمراض قبل تجربتها على النماذج البشرية.
وتشير البحوث الطبية إلى أن نظام الأعضاء في الفئران يشبه نظام البشر في الشكل والبنية وعلم وظائف الأعضاء، لذا تتطور الفئران بالطريقة نفسها التي يتطور بها البشر، إذ تمتلك أعضاء مماثلة مثل القلب والرئة والدماغ والكلى إضافة إلى أنظمة هضمية ودورانية وإنجابية وعصبية مماثلة.
ونضيف إلى ما تقدم أن الفئران حجمها صغير ولها عمر قصير (2-3 سنوات)، وهذا ما يجعلها مثالية لدراسة تطور الأمراض التي تستغرق أعواماً لتتطور لدى البشر، كما أنها تتحمل التعامل البشري جيداً وتعيش وتتكاثر بسرعة في مناطق صغيرة مقارنة بنماذج الحيوانات الأخرى. بالتالي يعد حجمها الصغير وفعاليتها من حيث الكلفة ونظامها الغذائي المرن أموراً حاسمة لنجاحها كنظام نموذجي للتجارب الطبية.
التعديل الجيني
ونظراً إلى أن الفئران تشترك في نحو 80 في المئة من جيناتها مع البشر، فإن تعديل حمضها النووي يعد طريقة قوية لإنشاء نماذج حيوانية للأمراض البشرية. وبذلك تسمح أداة تحرير الجينات "كريسبر" للباحثين بحذف أو تنشيط أو إصلاح الجينات، بالتالي إعادة إنشاء مرض بشري في الفئران أو فحص ما يحدث عندما يصححون طفرة.
ويمكن للعلماء إنشاء حيوانات معدلة وراثياً من طريق جعل الفئران تعبر عن جينات بشرية أو تحمل خلايا أو حتى أنسجة بشرية، وهكذا يستطيعون إنشاء فئران "مؤنسنة" تستجيب فزيولوجياً تقريباً مثلنا، مما يسمح للباحثين بالنظر في الطريقة التي يتغير بها المرض داخل جسم الإنسان وكيف يستجيب للعلاج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأمراض المعدية
كانت الفئران محورية في دراسة عديد من الأمراض المعدية، بما في ذلك الأنفلونزا والتهاب الكبد والإيبولا. ومن هنا فإن دراستها مفيدة بصورة خاصة في تقييم مدى تعرض الناس لبعض الأمراض المعدية والتحقيق في سبب عدم قدرة البعض على تطوير المناعة. وفي حين يستطيع الباحثون التحقيق في هذه الأسئلة في الخلايا البشرية داخل المختبر، فإن هذه الدراسات لا تستطيع نمذجة التفاعلات المعقدة التي تحدث أثناء العدوى بدقة كما هي الحال في الكائنات الحية.
ويجري العلماء حالياً دراسات كثيرة على البشر ولكن ليس إلى الحد الذي يمكن إجراؤه على الفئران، إذ يمكن إطعام الفئران وجبات غذائية متطابقة وخاضعة لرقابة صارمة، أو يمكن تهجينها وهي أمور قد تعد غير مقبولة عند الاستعانة بالبشر في التجارب الطبية. كما أن اختبار المركبات والأدوية على الناس من دون معرفة التأثيرات والأخطار المحتملة أولاً سيكون خطراً للغاية، لذا فإن الفئران مطلوبة للوفاء بهذا الدور الحاسم في اختبارات السمية والسلامة.
السرطان
خلال العقد الماضي، كان هناك تحسن كبير في معدلات البقاء على قيد الحياة لعديد من أنواع السرطان، وكانت الدراسات على الفئران من بين الأدوات المستخدمة الأكثر قيمة.
وأسفرت البحوث الأولية في الفئران عن تقدم كبير تجسد بأول علاج معتمد لسرطان الثدي عبر الأجسام المضادة أحادية النسيلة. ووضعت هذه الدراسات الأساس لاكتشاف وفهم بروتين HER2، والذي يمكن استهدافه للحد من نمو الورم، وأظهرت أن إضافة الأجسام المضادة أحادية النسيلة إلى العلاج الكيماوي يحسن البقاء على قيد الحياة، ويبقي السرطان تحت السيطرة لفترة أطول مقارنة بالعلاج الكيماوي وحده.
وفي سياق متصل تشمل بعض الاختراقات في علاج السرطان التي نتجت من البحوث على الفئران، تطوير نوع من العلاج المناعي للسرطان، والذي يستخدم الجهاز المناعي للجسم لمهاجمة وقتل الخلايا السرطانية. وقد فاز الباحثان اللذان ابتكرا هذا العلاج جيمس أليسون وتاسوكو هونجو بجائزة نوبل في الطب عام 2018.
ومن ناحية ثانية تستخدم بحوث السرطان الجارية الفئران للمساعدة في مجموعة واسعة من المجالات، فمثلاً كشف بحث في "المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا" عن طريقة جديدة لمنع أورام سرطان الرئة من أن تصبح مقاومة للعلاج، فيما استخدمت جامعة "بريستول" في المملكة المتحدة الفئران لإظهار إمكانية إعادة استخدام عقار للسرطان للمساعدة في التعافي من النوبات القلبية.
مكافحة كورونا
طورت لقاحات كورونا بسرعة استثنائية وكانت الدراسات التي أجريت باستخدام الفئران حيوية في هذه العملية. وعلى رغم أن الفئران لا تصاب بفيروس كورونا بصورة طبيعية فإنها يمكن أن تصاب بفيروس "سارس كوف 2"، من طريق إنشاء فئران معدلة وراثياً والتي يمكن استخدامها بعد ذلك لفحص المرض بالتفصيل.
وقبل أعوام من جائحة كورونا كانت الفئران استخدمت بالفعل لاكتساب رؤى مهمة حول أمراض أخرى ذات صلة مثل "السارس"، الذي تسبب في تفشيات مميتة وواسعة النطاق خلال أوائل العقد الأول من القرن الـ21، و"متلازمة الشرق الأوسط التنفسية" التي ظهرت للمرة الأولى عام 2012. وبفضل هذه الدراسات السابقة تمكن الباحثون من دراسة كيفية إصابة فيروس "سارس كوف 2" للخلايا البشرية، من دون الحاجة إلى البدء من الصفر بنماذج فئران جديدة كان من شأنها أن تبطئ حتماً وتيرة بحوث كورونا.
وتسمح الفئران المعدلة وراثياً للباحثين بالإجابة عن أسئلة رئيسة حول فيروس كورونا نفسه، مثل كيفية بدء إصابة الكائنات الحية به وانتقاله من جسم إلى آخر، وكيف تتفاعل الاستجابة المناعية للمستضيف المصاب، فضلاً عن التأثير قصير وطويل الأمد للعلاجات المختلفة واللقاحات التجريبية. وكل هذه الجوانب ضرورية لإلقاء الضوء على كيفية عمل المرض من أجل تطوير أدوية وتدابير فعالة ضده.