ملخص
هل يمكن الحديث اليوم في تونس عن تصحر سياسي؟ أم أن غياب الأحزاب والمنظمات عن المشهد العام هو علامة صحية؟ وهل يؤثر غيابها في رسم السياسات العمومية وتنفيذ الإصلاحات الكبرى في البلاد؟
لعبت الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والجمعيات دوراً مهماً في تونس بعد 2011، حتى إن عدد الأحزاب تجاوز الـ200، بينما بلغ عدد الجمعيات أكثر من 25 ألف جمعية ومنظمة، وتغلغلت هذه الأحزاب والمنظمات في المجتمع، وباتت رقماً صعباً في المعادلة السياسية بالبلاد.
أما اليوم فتواجه الأحزاب صعوبات في نشاطها بعد تراجع دورها السياسي إثر تعديل القانون الانتخابي من تصويت على القوائم إلى تصويت على الأفراد، وعدم تعويل السلطة الحالية في تونس على الأحزاب. كما تضاءل دور المنظمات المدنية التي باتت تحت مجهر السلطة بخاصة في كل ما يتعلق بالتمويلات.
فهل يمكن الحديث اليوم في تونس عن تصحر سياسي؟ أم أن غياب الأحزاب والمنظمات عن المشهد العام هو علامة صحية؟ وهل يؤثر غيابها في رسم السياسات العمومية وتنفيذ الإصلاحات الكبرى في البلاد؟
لا فائدة
تهدف الأحزاب السياسية للوصول إلى السلطة، بينما تعمل الجمعيات والمنظمات على تلبية حاجات مجتمعية من دون غايات ربحية، وتلعب هذه الأجسام دور الوساطة بين المواطن والسلطة من خلال قوة الاقتراح أو التعبير عن الرفض.
يؤكد الباحث والمتخصص في مجال القانون العام في الجامعة التونسية ناجح سالم لـ"اندبندنت عربية"، أن "تونس عرفت قبل 2011 تصحراً في الأحزاب السياسية والمنظمات، وبعد 2011 شهدت البلاد تخمة في أعدادها، وما بين التصحر والتخمة لم يعد المواطن التونسي يثق لا في الأحزاب ولا في المنظمات".
يشير سالم إلى أنه "بعد لحظة الـ25 من يوليو (تموز) 2021، لاذ عدد من قادة الأحزاب بالفرار إلى دول أخرى بعد أن تعلقت بهم شبهات فساد وتمويلات أجنبية، مما يعني أن هذه الأحزاب وجدت فقط لخدمة أجندات ومصالح أجنبية وليس المواطن التونسي، وأستبعد بالطبع بعض المنظمات التي سعت إلى خدمة المواطن، لكن معظمها كانت له ارتباطات خارجية".
ولا ينكر المتخصص في مجال القانون دور الأحزاب والمنظمات لكنه يرى أنها "ما لم تكن في خدمة المواطن والمصلحة الوطنية فلا فائدة ترجى منها"، مشيراً إلى أن "تونس اليوم في وضع طبيعي بغياب الأحزاب والمنظمات، بل إن التونسيين انتخبوا رئيساً من خارج المنظومة السياسية، ومن كانت وراءه أحزاب سياسية فشل في نيل ثقة التونسيين".
ويستطرد سالم قائلاً "ما وقع في تونس مباشرة بعد 2011 جعل التونسيين يعزفون عن المشاركة السياسية والانخراط في الأحزاب نظراً إلى ممارساتها السياسية غير المقبولة، وهو ما وسع الهوة بينها وبين المواطن التونسي وعزز أزمة الثقة في النخب السياسية".
عفن سياسي
يقر الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي، محسن النابتي، بأن "المواطن التونسي باتت لديه قناعة بأن الأحزاب والمنظمات هي نوع من المافيا والغنيمة والفساد، لأن تونس عاشت بعد 2011، فترة من التعفن السياسي الذي لم يسبق له مثيل".
يعيب النابتي على بعض الأحزاب التي "ارتهنت إلى رجال الأعمال والسفارات الأجنبية، ودنست نفسها بالتمويل الخارجي، وهي اليوم تدفع ثمن تلك الممارسات، ومن ذلك اهتراء رصيدها الشعبي وعزوف التونسيين عنها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعترف الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي بوجود "وهن سياسي كبير وغير مسبوق داخل التنظيمات السياسية، وهو نتيجة حتمية لما وقع في السنوات الفارطة من اختلالات في العمل السياسي"، مشيراً إلى أن "استعادة الحياة السياسية ديناميكيتها يتطلب جرأة". وداعياً النخب الوطنية إلى العمل على رسم ملامح مرحلة سياسية جديدة تبنى على أفكار وبرامج تتماشى وحاجات التونسيين اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
كما دعا النابتي إلى "مراجعة جذرية لمختلف أشكال التنظيم داخل الأحزاب والمنظمات، لأن القوانين التي وضعت في السابق كانت على المقاس من أجل تبييض جرائم الأحزاب الموجودة وقتها، علاوة على تحصين الحياة السياسية من التدخل الخارجي والمال الأجنبي"، مشيراً إلى أن "تونس تتوفر على تراث سياسي عريق وعائلات سياسية متنوعة يمكنها أن تثري الحياة السياسية وتستقطب إليها التونسيين ببرامج واقعية تتماشى وحاجاتهم".
ويرى المسؤول الحزبي أن "البرامج والإصلاحات الكبرى لا تتطلب رأي الأحزاب التي يقتصر دورها على تقييم العمل الحكومي أو البرلماني علاوة على تأطير الجماهير، وأيضاً كقوة اقتراح لحل مشكلات البلاد"، معتبراً أن "الأولوية اليوم في تونس سياسياً هي إعادة النظر في النظام السياسي وطريقة الاقتراع ومرسوم الجمعيات وقانون الأحزاب، وذلك من أجل حياة سياسية جديدة تكون فيها الأحزاب تعبيراً حقيقياً عن القوى الاجتماعية".
اغتيالات رمزية
في المقابل، يرى بعض المتابعين أن تونس تحتاج إلى تقييم فعلي للسنوات العشر التي لم تكن كلها سوداء، بل كانت تجربة ديمقراطية على رغم الإخفاقات التي شابتها، ولا يمكن التنكر لتلك التجربة تاريخياً مقابل التسليم بوجاهة الوضع الراهن.
يقول الناشط السياسي وأستاذ الإنثروبولوجيا الثقافية في الجامعة التونسية الأمين البوعزيزي، إن "النظام الرئاسي الواسع الصلاحيات الذي تعتمده تونس اليوم قتل الديمقراطية وألغى الفعل السياسي واغتال السياسيين والنقابيين رمزياً، لذلك فتونس اليوم تعيش تصحراً سياسياً حقيقياً".
ويضيف البوعزيزي "في المجتمعات التقليدية ينتظم الناس في القبيلة والمذهب والطائفة، أما في المجتمعات المعاصرة فالتنظيم السياسي يكون بالانتماء الطوعي للأحزاب والمنظمات، ولا يمكن الحديث عن السياسة من دون تنظيم مواطني حر ومستقل عن السلطة".
ويستحضر البوعزيزي حقبة الديكتاتورية زمن حكم زين العابدين بن علي، ويقول "وقتها لم تلغ السياسة، بل اعتمد النظام أساليب التخويف والمضايقات، أما الأنظمة الشعبوية فهي تلغي السياسة تماماً من خلال تخوين كل من لا يبايع السلطة"، ويضيف أن "ما حصل في تونس هو شيطنة الأحزاب والنخب السياسية، والمزايدة على السياسة من خلال مؤسسات منتخبة موالية تماماً للسلطة نظراً إلى غياب أحزاب المعارضة، أما الأحزاب الموالية لمسار الـ25 من يوليو 2021 فهي تنظيمات تحت رقابة أجهزة الدولة وتدور في فلك السلطة، وهي أحزاب انتهازية تفكر فقط في مصلحتها الضيقة".
ويخلص البوعزيزي إلى أن "السياسات العمومية للدولة تتطلب مشاركة تنظيمات سياسية ومدنية تدافع عن الدولة الاجتماعية، وتحمي قدرة المواطن الشرائية، وتحافظ على التوازنات داخل المجتمع، وعلى أسس السلم الاجتماعية".
لعب الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات وطنية أخرى دور الوسيط في الأزمات السياسية والاجتماعية التي شهدتها تونس من أجل الحفاظ على الدولة ومكاسبها، لكن لم يغفر التونسيون للأحزاب وبعض المنظمات ما واجهوه من صعوبات في ظل عدم الاستجابة لمطالبهم في التنمية والشغل والكرامة، لذا فهم يثأرون لأنفسهم منها اليوم، ويعولون على منظومة حكم من خارج دوائر السياسة والمنظمات، بينما يتخوف بعض المتابعين من هذا التصحر السياسي، ومن نتائجه على السلم الاجتماعي، ويدعون السلطة إلى حوار مجتمعي من أجل مرحلة سياسية جديدة في تونس.