ملخص
بعد الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل، وتعرض الحزب لخسائر عسكرية ومالية كبيرة، شملت فقدان قادة بارزين، مستودعات أسلحة، ومصادر تمويل رئيسية، لا يزال يحتفظ بنفوذ سياسي كبير داخل الحكومة والمؤسسات الرسمية، في حين أظهرت تدابير أمنية جديدة تقدمًا للدولة في ضبط المرافق الحيوية مثل المطار والمرفأ، لكن تحديات مثل المعابر غير الشرعية واستمرار بعض الأنشطة المالية للحزب تعيق استعادة الدولة سيادتها الكاملة.
منذ اندلاع الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل، تصاعدت التساؤلات حول ما إذا كان الحزب لا يزال يحتفظ بقدراته العسكرية السابقة، وقدرته على التأثير في القرار السياسي اللبناني ناهيك عن استمرار إحكام سيطرته على المؤسسات الحكومية والبنية التحتية المدنية، بما في ذلك مرفأ بيروت، مطار بيروت، الحدود اللبنانية-السورية والمعابر الشرعية بين البلدين.
وهنا يسأل كثيرون: هل بدأ نفوذه بالتراجع تدريجياً، ليتمكن لبنان استعادة سيادته كاملة في ظل هذه التحولات، أم أن الحزب سيجد طرقاً جديدة لترميم نفسه وتعزيز نفوذه وتوسيع سيطرته مرة جديدة أقله في الداخل اللبناني وليس على جبهة الجنوب؟
تجمع التقارير على الخسائر العسكرية الضخمة التي تعرض لها "حزب الله في الحرب، لناحية فقدانه قادته الاستراتيجيين والبارزين، وأبرزهم أمين عامه السابق حسن نصرالله، ونخبة كبيرة من عناصره وكوادره، ومستودعات الأسلحة والذخائر، وكذلك مواقعه العسكرية، عبر الاستهداف الدقيق من قبل إسرائيل، باستخدام تقنيات متطورة، وهو ما أدى إلى تدمير بنى تحتية عسكرية للحزب، مثل الأنفاق ومواقع الصواريخ.
كذلك طالت خسائر الحزب جزءً كبيراً من مصادر تمويله، ولاسيما لناحية ما قيل عبر وسائل إعلام محلية وإسرائيلية عن استهداف مصرفه المركزي في أحد المخابئ الكبرى والمحصنة تحت الأرض في الضاحية الجنوبية في ضربة نفذت في نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وكذلك فروع مصرفه "القرض الحسن". وهنا تتحدث تقديرات غير رسمية عن أن الخسائر المالية المباشرة التي تكبدها الحزب تجاوزت ملياري دولار.
استعادة المبادرة
الحديث عن الخسائر التي مني بها الحزب خلال الحرب الأخيرة يطرح بشكل تلقائي السؤال عن قدرته على الاستمرار وعدم خسارته سيطرته الداخلية، سياسياً كما على مرافق الدولة اللبنانية.
في هذا السياق، يكشف مصدر دبلوماسي أوروبي عن قراءة معمّقة لتحركات "حزب الله" الأخيرة على الساحتين السياسية والعسكرية في لبنان. ويؤكد أن الحزب يسعى لاستعادة زمام المبادرة بعد سلسلة من الانتكاسات، مستغلاً مرحلة الفراغ الرئاسي والتطورات الإقليمية.
على المستوى السياسي، يرى المصدر أن تأكيد رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري أن سليمان فرنجية لا يزال "عماد المرشحين" لرئاسة الجمهورية يعكس إصرار الحزب على فرض رئيس ينسجم مع مصالحه. كما يجري ضخ معلومات مفادها بأن تمديد ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون، بموافقة الحزب، يهدف إلى إبعاده عن الرئاسة، مع احتمالية إقالته فور انتخاب رئيس جديد. هذا التوجه، وفق المصدر، يُظهر رغبة الحزب في محاولة السيطرة على قرار المؤسسة العسكرية للحد من تعاونها مع الولايات المتحدة وفرنسا، بخاصة أنه سيكون هو الحاضر على الأرض في الجنوب.
مالياً، وفي محاولة لتعزيز نفوذه التنظيمي، أعلن "حزب الله" قبل يومين عودة مؤسسة "القرض الحسن" للعمل بشكل طبيعي، إعلان شكل رسالة إلى الداخل والخارج بأن بنيته المالية لم تتأثر بالغارات الإسرائيلية الأخيرة. كما أطلق الحزب خطة شاملة لإعادة الإعمار، متجاوزًا المؤسسات الرسمية، وسط مساعيه لتقديم تعويضات مباشرة للمتضررين، في خطوة تؤكد قدرته على الاستمرار كدولة داخل الدولة.
وفي قراءة للتطورات الميدانية قبل ساعات وإطلاق الحزب صاروخين باتجاه إسرائيل، يقرأ المصدر في هذه الخطوة أن الحزب يسعى للالتفاف على قرار وقف النار وتحويل لجنة المراقبة إلى أداة تشبه "تفاهم نيسان" الذي أنهى الحرب بين الحزب وإسرائيل عام 1996، مما يعكس نيته رفض تفكيك بنيته العسكرية، والمراهنة على عنصر الوقت كما حصل في السابق، للإبقاء على سلاحه بحجة محاربة تل أبيب.
المعادلة السياسية
على رغم الخسائر العسكرية والمالية، إلا أن بعض الأوساط السياسية تعتبر أن الحزب لا يزال يمتلك قدرة كبيرة على التأثير في المؤسسات الرسمية والإدارية في لبنان، لاسيما القضاء والأجهزة الأمنية، حيث كان له دور في تعيين عشرات القضاة والأمنيين ضمن المحاصصة السياسية والطائفية المعمول بها في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، والكثير من الشخصيات التي كان الحزب وراء تعيينها في مواقع "حساسة" ومؤثرة، لناحية فعاليتها وقدرتها على الوصول الى المعلومات واتخاذ القرارات وتأمين مصالحه عبر إجراءات رسمية.
وكذلك لم يتغير الواقع السياسي بانتهاء الحرب، إذ لا تزال التركيبة السياسية هي نفسها في البلاد، سواء لناحية الحكومة وتوازناتها الداخلية، أو داخل السلطة التشريعية عبر تحالف الحزب مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وقوى سياسية أخرى.
المطار والحدود
عند الحديث عن سيطرة الحزب في الداخل اللبناني، لعل أول ما يتبادر إلى الأذهان المرافق الكبرى التابعة للدولة.
وهنا تكشف معلومات عسكرية لبنانية، أن الجيش اللبناني استطاع فرض سيطرته الأمنية على مطار رفيق الحريري الدولي، الذي بات يخضع لإجراءات أمنية استثنائية لسد جميع الثغرات الأمنية السابقة، سواء من ناحية التشدد في مراقبة جميع البضائع الداخلة والخارجة وخضوعها لتفتيش دقيق عبر أجهزة "السكانير" وكذلك التأكد من عدم وجود ممرات سرية لا تخضع للإجراءات الأمنية.
وليس ذلك فقط، بل لم يعد الحزب "الحاكم بأمره" في مطار لبنان الوحيد، ولعل الدليل الأكبر هو خضوع الوفد المرافق لكبير مستشاري المرشد الإيراني علي لاريجاني في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للتفتيش من قبل الجيش اللبناني، في سابقة لم تحدث من قبل مع وفد إيراني رسمي في المطار.
وكانت غالبية التقارير أجمعت على أن تغيير الوضع في المطار هو الذي أبقى هذا المرفق المهم بعيداً عن القصف الإسرائيلي، وتغيير الوضع أتى بإشراف أميركي غير مباشر وضمانة أميركية لإسرائيل بأن لا يكون محطة عبور يستفيد منها الحزب.
أما لناحية الحدود الشرقية والشمالية فلا يزال الوضع هناك ضبابياً، وعلى رغم تحسن وضع الرقابة على المعابر الشرعية أبرزها معبر المصنع، إلا أن وجود عشرات المعابر غير الشرعية وإمكانية وجود أنفاق عابرة للحدود، لا يزال يتطلب إجراءات إضافية وانتشار إضافي للجيش اللبناني وتحسين في أبراج المراقبة.
مرفأ بيروت
في السياق يوضح رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لمرفأ بيروت عمر عيتاني في حديث خاص لـ "اندبندنت عربية"، أن إدارة المرفأ ملتزمة بتأمين جميع المستلزمات اللازمة للأجهزة الأمنية العاملة في هذا المرفق، بما في ذلك المباني والمعدات الضرورية، وفقاً للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء. وأكد عيتاني أن المرفأ يعمل حالياً على تطبيق المدونة الدولية لأمن (ISPS Code) أي ضمان الامتثال للمعايير الدولية للأمن.
يكشف عيتاني عن خطة جديدة تهدف إلى تعزيز إجراءات الرقابة والتفتيش على البضائع الواردة، من خلال تركيب ماسحات ضوئية متطورة بالتعاون مع شركة "سي إم آي". وأوضح أن المشروع جاهز للتنفيذ وقد تم رفعه إلى الجهات الرسمية لاتخاذ الإجراءات اللازمة، داعياً إدارة الجمارك التابعة لوزارة المالية إلى الإسراع في تنفيذه.
وأشار إلى أن الملف الأمني في المرفأ ينقسم إلى ثلاثة محاور رئيسية:
أمن الأفراد وتصاريح الدخول بإشراف المديرية العامة للأمن العام.
تفتيش البضائع تحت مسؤولية جهاز الجمارك.
أمن المرفأ بشكل عام، بما يشمل الرقابة على عمل الأجهزة الأخرى، تحت إشراف مخابرات الجيش اللبناني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضيف عيتاني أن الرقابة قد تم تشديدها أخيراً لضمان الالتزام الكامل بالإجراءات الأمنية، نافياً وجود أي تدابير جديدة قيد التنفيذ حالياً، مع تأكيده على أن العمليات الأمنية والإدارية تسير وفق الآليات القائمة.
وأشار إلى أن إدارة المرفأ وفرت جميع الأجهزة اللازمة لتنفيذ المشروع الرقابي الجديد، مع بقاء مهمة المراقبة تحت إشراف الجهات الأمنية المختصة. كما لفت إلى أن الإجراءات الرقابية المشددة التي فُرضت منذ بداية الحرب تهدف إلى تعزيز الأمن والحد من التهديدات المحتملة، وفقاً للمعايير العالمية.
قوة لا يمكن تجاوزها
يعتبر المحلل السياسي علي سبيتي في المقابل أن "حزب الله" لم يهزم في هذه الحرب كما يحاول خصومه الإشاعة، معتبراً أن الأزمة اللبنانية ترتبط بشكل وثيق بالتوازنات الإقليمية والدولية، حيث بات لبنان ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى. وأكد أن الوضع الداخلي اللبناني لن يشهد استقراراً إلا من خلال توافق دولي وإقليمي، مشيراً إلى أن الاصطفافات الحادة والانقسام السياسي العميق ضد الحزب يعمقان الأزمة ويعيقان أي حلول.
كما تحدث سبيتي عن دور الحزب في المعادلة اللبنانية وكذلك في الحضور الداخلي في السياسة كما على الأرض، موضحاً أن الحزب يُمثل قوة كبيرة في لبنان لا يمكن تجاوزها، وأنه قادر على إعادة هيكلة نفسه وربما ترسانته وهيكليته العسكرية. ولفت إلى أن وجود "حزب الله" مرتبط بالنفوذ الإيراني في المنطقة، مما يجعله طرفاً أساسياً في التوازنات الإقليمية.
بروتوكولات أمنية وعسكرية
يعرب الأمين العام لـ "المؤتمر الدائم للفدرالية" ألفرد رياشي، عن ثقته بأن الخطوات الأمنية الأخيرة التي نفذتها الأجهزة الأمنية في مطار بيروت الدولي تعكس جدية وحزماً في معالجة ملف الأمن، مما يعزز ثقة المجتمع الدولي بلبنان. وأوضح أن هذه التدابير تظهر موقفاً واضحاً ضد النفوذ الإيراني، مشدداً على أن الانتقاد يستهدف النظام الإيراني ونفوذه، وليس الشعب الإيراني كدولة أو ثقافة.
وأضاف أن "المطلوب أكثر شجاعة وجدية" من الأجهزة الأمنية، بخاصة بعد الحادثة الأخيرة التي شهدت انتشار صور لقادة تابعين لـ "حزب الله" على طريق المطار، واعتبر ذلك تجاوزًا خطيرًا لا يمكن التغاضي عنه، قائلاً "هذه طريق دولية ويجب أن تكون الأمور فيها أكثر دقة ووضوحاً في تطبيق القوانين".
وفي سياق متصل، طالب بضرورة تشغيل مطارات إضافية في لبنان. كما انتقد إعادة فتح فروع لمؤسسة "القرض الحسن"، معتبرًا أن وجودها يشكل تهديدًا على حياة اللبنانيين بسبب استهدافها المحتمل من قبل إسرائيل. ودعا قيادة الجيش، باعتبارها الجهة الضامنة للأمن الوطني والتوافقات الدولية، إلى اتخاذ خطوات حاسمة تجاه هذا الملف.
وأشار إلى أن التعاون بين الأجهزة الأمنية المختلفة، بما في ذلك الأمن العام، قوى الأمن الداخلي، الجمارك، وقيادة الجيش، يظهر تحسناً لحوظاً في بسط الأمن في المرافق الحيوية، لكن الحفاظ على هذا التقدم يتطلب استمرارية الجهود ومزيداً من التنسيق. واعتبر أن الوقت كفيل في الكشف عن محافظة هذه الأجهزة على الأمن والاستقرار وأكد أن المطلوب هو الاستمرار في ذلك وبوتيرة تصاعدية.
توازن سياسي
وفي السياق يشير الكاتب السياسي أسعد بشارة، الى أن المنافذ البحرية والبرية والجوية في لبنان بدأت تخضع تدريجياً للضبط بشكل "صارم" وفق آلية شاملة، مشيراً إلى أن ذلك يمثل جزءاً لا يتجزأ من اتفاق الهدنة المكتوب و"غير قابل للتنازل عنه"، موضحاً أنه على رغم قبول "حزب الله" بنود الاتفاق مع إسرائيل لضمان نفوذه الداخلي، لا يزال متمسكاً بمعادلة "جيش، شعب، مقاومة"، التي تُعتبر رمزاً لتثبيت سيطرته وسلاحه على القرار اللبناني.
وأضاف أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أبدى مرونة في أخذ مساحات استقلالية في علاقته مع الحزب، مما يشير إلى بدايات توازنات جديدة قد تترجم باستقلالية أكبر لقرارات الحكومة، في انتظار انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة.
ولفت بشارة إلى أن إيران، التي دعمت الحزب لعقود بالمال والسلاح، قبلت بهذا الاتفاق الذي وصفه بأنه أقرب إلى "الاستسلام". كما أكد أن المرحلة المقبلة ستشهد محاولات من الحزب لترميم نفوذه داخل لبنان، في مواجهة زخم عربي ودولي يضغط لاستعادة لبنان مؤسساته السيادية بعيدًا عن الوصاية الخارجية.