ملخص
الأوراق الثبوتية والمستندات التي قضى عليها دمار الحروب، كيف يمكن التحرك من دونها؟ وكيف يمكن الاستحصال على نسخ منها؟
مع اندلاع الأزمات في العالم، راجت فكرة الحقيبة التي تحوي الأوراق الثبوتية والتي توثق وتثبت هوية الأشخاص وإنجازاتهم وملفاتهم الطبية وشهاداتهم وممتلكاتهم من بيوت وأراضٍ وأملاك أخرى والمقتنيات والأموال. تلك الحقيبة رافقت الشعب اللبناني منذ الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا ولبنان قبل نحو عامين.
حقيبة الطوارىء
"الحقيبة الخزنة" التي طوت في جيوبها كل ما يعرّف عنا والتي دارت حولها الأحاديث، وأسئلة "هل نفرغ الحقيبة، أم نتركها؟" بحسب القاعدة الكشفية "دوماً مستعد"، ظلت بانتظار هروب ما، ولكن بعضهم أفرغها ليفرغ قلقه القابع فيها.
وما إن اندلعت الحرب في غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، عاد هاجس حقيبة الطوارئ يدور في أذهان اللبنانيين، بدءاً بأبناء الجنوب، وبعدهم أهل البقاع وبيروت، وتكرس عندما أصبحت الغارات الإسرائيلية وكأنها فصل شتاء دموي. فبعضهم لملم أوراقه ومستنداته قبل الرحيل، بينما دهم القصف آخرين فنجوا بأرواحهم، أو لم ينجوا، وتركوا وراءهم كل ما كان يثبت بصورة رسمية أن لهم أسماء وهويات وممتلكات.
في الحرب، لا تضيع فقط البيوت، بل تضيع معها حياة كاملة مدونة على أوراق، فتحت ركام المنازل المدمرة هناك قصص مكتوبة وأحلام موثقة وهوية غزلت بخيوط الورق. الأوراق الثبوتية مثل سندات البيوت وشهادات الميلاد والعقود الخاصة… كلها تتحول إلى رماد تحت وطأة الانفجارات وأصوات المدافع. فلا تكتفي الحرب بسلب المأوى، بل تسلب أوراقنا التي تثبت أننا كنا هنا وكان لدينا بيت وذكريات وحقوق. تلك الأوراق لم تكُن مجرد مستندات رسمية، بل كانت جدراننا الأخرى التي تحمينا، وسجلنا الذي يحفظ حكايتنا للأجيال.
حين نبحث تحت الأنقاض عن بقايا ما كنا نحمله من هوية، نكتشف أن ما ضاع ليس مجرد ورق، بل هو أمان كنا نعيش في ظله. وسند البيت كان أكثر من عقد، كان شهادة بأن لدينا مكاناً في هذا العالم. وجواز السفر كان نافذتنا إلى الحلم، بطاقة الهوية كانت صوتنا الذي يؤكد وجودنا.
وتحت الركام قد لا تجد سوى الغبار وصور ممزقة وبقايا كلمات محترقة وأشباه أسماء...
رسائل أبي لا يعوضها شيء
تقول إسراء إنها خرجت من منزلها في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد سماع أحد الإنذرات بقصف المبنى القريب منها، وتضيف "عدنا في اليوم الثاني ووجدنا شققاً بكل ما فيها من أثاث وحجارة تقبع داخل منزلنا. حاولنا الدخول وكان الأمر صعباً للغاية بوجود الطائرات الحربية الإسرائيلية في الجو من جهة، والخوف من انهيار المبنى من جهة أخرى. كل أوراق أولادي وشهاداتهم الجامعية وميدالياتهم وإجازة السوق وسند البيت وكل أوراقنا الخاصة دفنت تحت الركام، والأرجح أنها احترقت أو احترق معظمها. بقيت أتردد إلى المكان علّني أستطيع أن أجد ما هو أثمن من كل هذه الأوراق، وهي رسائل المرحوم أبي التي أعتبرها كنزي، وبكيت كثيراً وشعرت بأن أبي مات مرة أخرى. أما الأوراق الباقية فقد أستطيع إصدار نسخ منها، ولكن رسائل أبي ضاعت مني إلى الأبد".
مستندات في كل الأماكن
ويذكر عبدلله نور الدين أنه كثيراً ما انتبه لفكرة الأوراق والمستندات بعد أن أضاع مرة هويته، ويقول إنها "كانت فترة متعبة جداً، بخاصة مع إقفال الدوائر الرسمية، وحتى الآن ليست لدي بطاقة هوية. لذلك جهزت أهم الأوراق وصورت نسخاً منها على هاتفي وهاتف زوجتي، وعلى الكمبيوتر الخاص بي. كما وضعت نسخاً منها في منزل أخي. وعندما نزحنا كانت كل المستندات في حوزتي مثلها مثل أموالي ومقتنياتي الثمينة، مما خف حمله وغلا ثمنه".
الإشكالات القانونية
يواجه النازحون اليوم تحديات قانونية معقدة مع انتهاء الحرب وبدء مرحلة إعادة الإعمار، إذ هناك أوراق ثبوتية مفقودة ومستندات رسمية تلاشت تحت أنقاض المنازل المدمرة وعقارات اختفت وشقق تلاشت من دون أثر، إضافة إلى بلديات فقدت وثائقها وسقوط ضحايا لم يتم شطب أسمائهم من سجلات النفوس، إلى جانب عدد من المفقودين ما زالت مصائرهم مجهولة، وهكذا يجد لبنان نفسه في خضم أزمة قانونية عميقة تهدد بنيته الحقوقية وتستدعي حلولاً عاجلة وشاملة.
وتناولت المحامية اللبنانية نائلة نحلة التحديات المرتبطة بإعادة إصدار الوثائق الرسمية والمستندات بعد فقدانها نتيجة الأحداث الأخيرة من وجهة قانونية، ففي ما يخص استصدار الأوراق الثبوتية أوضحت أن "الوثائق الرسمية من قبيل الهوية وأوراق السيارة ورخصة القيادة يمكن الاستعاضة عنها عبر آلية واضحة تبدأ بتقديم شكوى فقدان للنيابة العامة، تُحال إلى المخفر لإعداد محضر، ثم يتم التوجه بالملف إلى الجهة المعنية، أي دائرة النفوس لإصدار هوية جديدة، أو مصلحة تسجيل السيارات لاستصدار دفتر سيارة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ما يتعلق بسندات الملكية والعقارات، فللحصول على بدل عن ضائع، يجب مراجعة الدوائر العقارية المختصة بحسب مكان العقار، لكن الصعوبة تكمن في تراكم الأعمال السابقة داخل الدوائر العقارية، كما هي الحال في دوائر بعبدا التي تعمل فقط يومين أسبوعياً، مما يزيد من فترات الانتظار، خصوصاً في ظل وجود كثير من المعاملات المتراكمة منذ أعوام سابقة.
أما بالنسبة إلى الرخص والشهادات التعليمية، فأشارت نحلة إلى أن "الحصول على نسخ من الرخص (مثل رخص المطاعم)، أو الشهادات التعليمية، مسائل أقل تعقيداً، نظراً إلى أن الملفات غالباً ما تكون محفوظة لدى الجهات المعنية مثل وزارتي السياحة والصحة أو وزارة التربية، ويمكن استخراج نسخ طبق الأصل بسهولة نسبية".
وتحدثت عن الإجراءات القانونية الخاصة بالضحايا والمفقودين، لا سيما بالنسبة إلى من تم التعرف إلى أشلائهم عبر فحص الحمض النووي (DNA)، لتُثبت وفاتهم بصورة رسمية. أما المفقودون، فتتطلب حالهم رفع دعوى فقدان التي تستغرق وقتاً يختلف بحسب الظروف (طبيعية أو قاهرة) لإعلان الوفاة.
التعويضات وإصلاح الأضرار
وشرحت المحامية نحلة أن "التعويض عن المباني المدمرة يتطلب آلية كشف دقيق. ففي المباني المهدمة كلياً، الإجراءات ليست واضحة بعد، إذ يعتقد بأن شركة ما تتولى هذا الأمر. وعام 2006 مثلاً شيدت الأبنية كما كانت على الخرائط العقارية"، مضيفة "أما للمباني المتضررة، فهناك نوعان من لجان الكشف التابعة لـ'حزب الله'، واحدة للإنشاءات وواحدة للأضرار. وتكشف لجان الإنشاءات على وضع المبنى هندسياً، إذا كان يجب أن يهدم، أو إذا كان آيلاً للسقوط، فيذهب لفرز آخر لاحقاً. وإذا كان المبنى صالحاً ويحتاج إلى ترميم يبدأ الكشف على الأضرار، وتخمّن نسبتها وتدفع التعويضات. وإذا كان هناك من بدأ بالتصليح قبل الكشف فيجب أن تكون لديه صور كدليل يظهر الأضرار، ويزودهم بها وبالفواتير التي سددها للتصليح. وهذا ما حصل مع عائلتي".
أما بدلات الإيجار فقصة أخرى، وتقول نحلة إن "كثراً اضطروا إلى ترك بيوتهم واستأجروا في أماكن آمنة. فمن الناحية القانونية عقد الإيجار يبقى مستمراً وواجب المستأجر أن يدفع بدل الإيجار. في المقابل إذا تخلف المستأجر عن الدفع لشهرين أو ثلاثة، فيحق للمالك أن يفسخ العقد، بالتالي يسترجع شقته. وهنا يعود الأمر لرؤية القاضي وتقديره للأمر، فإذا كان التخلف عن دفع البدلات بسبب قوة قاهرة، فلا يفسخ العقد، وإذا لم يفسخ العقد فهل تستحق البدلات القديمة ويلزم المستأجر دفعها أم لا؟، كلها تساؤلات ووجهات النظر مختلفة لكن من يبت الأمر هو القاضي بأحكامه وقناعاته".
ماذا في حال أرشيف كتاب العدل؟
تجرى لدى "كاتب العدل" عقود قانونية عدة، ويتسلم عادة كتاب العدل المستندات القديمة حتى تلك التي لم توقّع في زمنهم. فلكل مكتب "كاتب عدل" هناك أرشيف قديم، وعادةً ما يكون موجوداً إما في المكتب نفسه أو ربما محفوظاً في مبنى آخر تحت عهدة كاتب العدل وبتصرفه. وفي حال المستندات المحفوظة لدى كتاب العدل الذين تهدمت مكاتبهم، فالتحدي يكمن في الوصول إلى الأرشيف.
وعلى رغم أهمية المستندات وما يطرحه فقدانها من معضلات قانونية وما يترتب على ذلك من عمل إضافي من الدوائر الرسمية كافة للاستحصال على نسخ، أو أوراق تيسر أحوال الناس، يبقى أحياناً فقدان أوراق خاصة ذات قيمة معنوية أشد إيلاماً.