ملخص
أكثر من 238 ألف سوري مجنس تركياً، وفق الأرقام الرسمية، فيما تعتقد المعارضة التركية أن الرقم أكبر من ذلك بأضعاف، ومئات آلاف السوريين درسوا في الجامعات التركية وأصبحت اللغة التركية لغة ثانية رسمية لهم، كل هذا يسهم في خلق قوة ناعمة لتركيا في سوريا، قد يخفف من حدتها وجود دور عربي مباشر في مستقبل سوريا.
خلال السنوات الماضية، بعدما تحول ملف اللاجئين السوريين في تركيا إلى ورقة سياسية تستخدمها الأحزاب لأهداف مختلفة، أسفر ذلك عن حصول حوادث عنصرية، تجاوزت التمييز على أساس عرقي ووصلت إلى العنف في بعض الحالات، وحتى القتل في حالات فردية معدودة، ولعل ما جرى من تكسير لمحلات وممتلكات اللاجئين السوريين في ولاية قيصري وسط تركيا في يوليو (تموز) الماضي خير دليل على ذلك.
في كل مرة يحصل بها توتر بين السوريين والأتراك، أو تصدر قرارات حكومية من شأنها تقييد حركة اللاجئين، مثل قرار منع السفر بين الولايات دون الحصول على إذن، في كل حال من هذا القبيل يشن ناشطون حملة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام تنتقد تصرفات الحكومة التركية، أو الأحزاب المعارضة المناهضة للاجئين، وأبرزها حزب الظفر اليميني المتطرف.
في المقابل تظهر فئة تدافع عن القرارات التركية، وكل ما يصدر عن الحكومة التركية، وتخلق تبريرات منها الصحيح ومنها المغلوط، ليتم الرد على هؤلاء بتسميتهم "سوركيين"، هذا المصطلح مشهور لدى السوريين في تركيا، ويطلق بصورة حصرية على الأشخاص "السوريين الذين يبررون التصرفات التركية مهما كان نوعها".
وتخرج آراء أخرى تبرر لهؤلاء سبب دفاعهم "المستميت" عن تركيا بدعوى أن "تركيا استقبلتهم لاجئين، ووفرت لهم ملاذاً آمناً، وقدمت لهم خدمات أفضل من التي يحصلون عليها في وطنهم الأم، وفي النهاية منحتهم جنسيتها، وساوتهم بمواطنيها، علماً أن السوري المجنس في تركيا له حقوق كاملة كحقوق المواطن التركي الأصلي وفق ما ينص عليه دستور البلاد".
بالانتقال من تركيا إلى سوريا بحلتها الجديدة، تعلن القيادة العامة في دمشق تعيين أسعد حسن الشيباني وزيراً للخارجية، وتعيين عزام غريب محافظاً لحلب، الشيباني حاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة صباح الدين زعيم التركية في مدينة إسطنبول، وتسلم منصباً هو الأعلى في السياسة الخارجية لسوريا، أما غريب فأصبح مسؤولاً عن عاصمة سوريا الاقتصادية وثاني أهم مدنها، وهو أيضاً حاصل على شهادة الماجستير من جامعة بنغول التركية.
أرقام رسمية
بعيداً من هذين الرجلين، هناك عشرات الآلاف من السوريين الحاصلين على الجنسية التركية، ومئات الآلاف من السوريين يتحدثون اللغة التركية كلغة رئيسة ثانية، ودرسوا وتخرجوا في الجامعات التركية، أما من حيث الأرقام الحكومية الرسمية، فقد صدرت آخر إحصائية في الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) 2023، قبل نحو عام، إذ قال وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، إن هناك "238 ألفاً و55 مواطناً سورياً من الخاضعين للحماية الموقتة حصلوا على الجنسية التركية بصورة استثنائية".
وأوضح يرلي كايا أن "من بين هؤلاء 134 ألفاً و422 بالغاً و100 ألف و633 من الأطفال، ويبلغ عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 18 سنة 156 ألفاً و987".
هذه هي الأرقام التي أعلنتها الحكومة التركية، إلا أن المعارضة تتحدث عن أن أعداد مضاعفة، زاعمة أن عدد المجنسين السوريين يقدر بمئات الآلاف، لكن هذه البيانات لا تستند إلى إحصاءات رسمية.
القوة الناعمة
مدير مركز الدراسات العالمية والإقليمية في جامعة نجم الدين أربكان، غوكهان تشينكارا، يقول في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "وجود هذا الكم من السوريين الحاصلين على الجنسية التركية، أو الذين درسوا وتعلموا في الجامعات التركية يمثل مصدر قوة ناعمة لتركيا"، ويزعم تشينكارا أن "هذا لن يكون إيجاباً بالنسبة إلى تركيا فحسب، بل تنعكس إيجابيته على سوريا أيضاً، إذ سيسهم في تسهيل التعاون التعليمي والثقافي المحتمل بين البلدين، إضافة إلى ذلك سيكون لتركيا الأولوية في العلاقات التجارية والتعاون الاقتصادي مع سوريا".
ويضيف الباحث التركي أنه "ربما على المدى المتوسط أو البعيد قد تكون هناك لهجة سورية في اللغة التركية، وكل هذا طبعاً يعتمد على الدور الذي ستلعبه تركيا في سوريا، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، لكن من المتوقع أو بحسب ما تشير إليه الأحداث الجارية حالياً فإن تركيا ستلعب دوراً نشطاً للغاية وبنَّاءً في سوريا، ونجاح هذا الدور مرهون بكيفية التعامل معه من قبل الجهات الفاعلة السورية والدول الإقليمية، لكن يمكنني أن أؤكد أن العلاقات التركية - السورية اكتسبت بعداً استراتيجياً لم يحصل من قبل".
إيران بوجه "غير دموي"
باحث تركي آخر، فضل عدم الكشف عن اسمه، يقول في حديث خاص إلى "اندبندنت عربية"، إن "ما نراه في سوريا من حيث التدخل التركي يشبه وجه مختلف لإيران، أعتقد أن التدخل التركي في سوريا يشبه التدخل الإيراني في سوريا، لكن الفرق بينهما هو أن إيران دخلت وتغلغت في سوريا على جماجم المدنيين السوريين ولأسباب طائفية، أما تركيا فلم تتلطخ يدها بالدماء السورية، لكن هذا لا يبرر لأنقرة التغلغل في الشؤون السورية إلى هذه الدرجة، منذ الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد تواصل الوفود التركية واحداً تلو الآخر بالذهاب إلى سوريا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع "تفرغ الإعلام التركي لتغطية الشأن السوري، أصبحت سوريا تعيش بيننا، هذا الزخم الكبير قد تكون له أهداف غير وطنية ولا تخدم السوريين، على سبيل المثال، وسائل الإعلام التركية تروج أن ما جرى في سوريا هذا الشهر هو انتصار لتركيا، وكأن الأتراك هم الذين خرجوا بالثورة على الأسد وقاتلوه وأسقطوه".
انتماء إلى تركيا أم لحزب العدالة والتنمية؟
ويضيف الباحث التركي بأن "السوريين الذين ينتمون إلى تركيا هم على أصناف مختلفة، الصنف الأول هم المستفيدون، وهؤلاء لا يحبون تركيا، وإنما يحبون حزب العدالة والتنمية، هذا الحزب هو الذي أدار الأزمة السورية من جانب تركيا، وهو من فتح أبواب البلاد لدخول ملايين اللاجئين، وهو نفسه الذي هدد بهم الغرب، وهو نفسه الذي دعا بشار الأسد إلى إجراء مفاوضات، وطلب منه مرات عدة اللقاء، وهو نفسه الذي قال إنه يدعم الثوار في تحرير سوريا من حكم البعث، وهو نفسه الذي احتفل بسقوط البعث وأرسل وزراءه ومسؤوليه إلى دمشق". وتابع، "هناك فئة من السوريين يدينون لحزب العدالة والتنمية، لكن في الانتخابات المقبلة إذا خسر العدالة والتنمية في الصناديق فإن ولاءهم سيتغير، وفي المقابل لا يمكنني أن أنكر أن هناك صنفاً من السوريين يحب تركيا بإخلاص، وهو مستعد للدفاع عنها بكل ما أوتي من قوة، هؤلاء ترفع لهم القبعة، لكن كما تعلمون فإن من الأصالة أن يكون وطنك الأم له الأولوية لكل شيء".
وطنية مزدوجة
وينهي حديثه بالقول، "لو كنت صاحب قرار في سوريا لاشترطت منع حصول أحد من مسؤولي الدولة على جنسية ثانية. الموضوع لا يتعلق بتركيا فحسب، وجود انتماء آخر قد يسبب بعض المشكلات، هنا لا أريد الحديث عن تركيا لذلك سأضرب مثلاً آخر، لنفترض أن لاجئاً سورياً حصل على الجنسية الألمانية، ودرس وتخرج في جامعات برلين، وعاد إلى سوريا وحصل على منصب أمني أو سياسي حساس، في مثل هذا الحالة سيكون قرار ذلك الشخص خاضعاً لحسابات سورية - ألمانية، لأنه إن كان منتمياً لألمانيا لن يتخذ قرارات ضدها، حتى وإن كانت هذه القرارات تصب في المصلحة الوطنية السورية، وهذا التصرف غير وطني. باختصار أقول لكم لا تعتقدوا أن تركيا ملاك للخير، لا أقصد انتقاد بلدي، لكن هناك حقائق، كل الخدمات التي قدمتها تركيا للسوريين لها مقابل، ولها أهداف، بالطبع سيكون هناك عمق استراتيجي لتركيا في سوريا، ولا نعرف بعد إذا كان هذا العمق سيؤثر في المصلحة الوطنية لسوريا أو لا".
الباحث والأكاديمي التركي متين غوشكون يقول في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "السؤال عن العلاقة بين تركيا وسوريا من منظور العمق الاستراتيجي هو سؤال معقد يتضمن أبعاداً متعددة، سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية، من حيث المبدأ يمكننا القول إن الاندماج السوري في تركيا سيؤدي إلى وجود عمق استراتيجي لتركيا في سوريا، ولا يمكننا أن ننفي أن تركيا سعت تاريخياً لتوسيع نفوذها الإقليمي في سوريا وغيرها من دول الجوار، وتعززت هذه الديناميكية بفضل موجات اللاجئين السوريين الذين تأثروا بالسياسات التركية، وكما تعلمون فإن السوريين المجنسين، والذين تلقوا تعليمهم في تركيا، إلى جانب اكتسابهم اللغة التركية، يمكن أن يكونوا أدوات لتعزيز النفوذ التركي في سوريا مستقبلاً، سواء عبر التفاعل الثقافي أو من خلال مشاريع إعادة الإعمار والتنمية، وهنا أود الإشارة إلى أن العمق الاستراتيجي لا يعني فقط السيطرة العسكرية أو السياسية، بل يشمل الروابط الاجتماعية والثقافية التي تؤثر في المدى الطويل في صنع السياسات والتوجهات داخل المجتمع السوري".
هل سوريا مثل أذربيجان بالنسبة لتركيا؟
ويضيف غوشكون أنه "ليس من المنطقي مقارنة سوريا بأذربيجان بالنسبة إلى تركيا، العلاقة مختلفة تماماً، إذ إن العلاقة بين تركيا وأذربيجان تستند إلى قواسم مشتركة قوية مثل العرق واللغة والتاريخ المشترك الذي يلخص بشعار (أمة واحدة في دولتين)، هذه الروابط العرقية والقومية ليست موجودة في بين تركيا وسوريا، وهذا ما يجعل علاقة دمشق بأنقرة مبنية على المصالح الجيوسياسية أكثر منها على أسس الهوية المشتركة، ومع ذلك تسعى تركيا لجعل سوريا أقرب إليها سياسياً واقتصادياً وثقافياً بصورة قد تجعل منها شريكاً استراتيجياً، وهذا أيضاً يعتمد على عاملين أساسيين هما طبيعة النظام السياسي المستقبلي في سوريا ومستوى الاستقرار الأمني".
ويتابع الأكاديمي التركي حديثه بالقول إن "التداخل أو ما تسميه التغلغل التركي في سوريا لا يمكنه وصفه بالسلبي المطلق ولا بالإيجابي المطلق، فمن ناحية له آثار إيجابية، مثل مساعدة سوريا على بناء دولة جديدة بعد ما حل بها من الدمار، ومشاركة تركيا في إعادة الإعمار لأن إعمار سوريا لا يمكن أن يكتمل من دون وجود الشركات التركية وبقوة كونها رائدة في مجال الإنشاءات، وكذلك تعزيز الروابط الاقتصادية، بخاصة إذا تحدثنا عن مناطق الشمال السوري التي كانت منفتحة على تركيا حتى قبل سقوط الأسد، إضافة إلى ذلك كله هناك ارتباط ثقافي وتعليمي كبير سيسهم في مد جسور التواصل بين البلدين، أما الآثار السلبية للنفوذ التركي تتلخص بإثارة حساسيات وطنية، إذ سينظر بعض السوريين إلى النفوذ التركي على أنه تدخل خارجي ينافي الاستقلال والسيادة والهوية السورية، كما أن هذا النفوذ قد يعزز حالة الانقسام بين مؤيد ومعارض لتركيا، وهذا سيزيد من تعقيد المشهد السياسي السوري المعقد أصلاً، والنقطة الأخيرة هي أن النفوذ الثقافي المفرط في سوريا قد يشكل تهديداً لهوية سوريا الثقافية، وكما نعلم سوريا بلد عريق وليس في حاجة إلى ثقافة أخرى إلا إذا كانت في حدود معقولة".