ملخص
شكلت الفضيحة التي دارت فصولها داخل المكتب البيضاوي صدمة مروعة للزعماء الأوروبيين، الذين أعربوا عن عدم موافقتهم على موقف ترمب في شأن حل الصراع، على رغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر اجتمعا قبل ذلك بالرئيس الأميركي لإقناعه باستقبال زيلينسكي والتوقيع معه على صفقة "المعادن النادرة" بحيث تأخذ في الاعتبار مصالح أوكرانيا.
تعطلت لغة الكلام في المحادثات بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأميركي دونالد ترمب في واشنطن يوم الجمعة في 28 فبراير (شباط)، بعدما توسطت فرنسا وبريطانيا مسبقاً لإجراء هذه المحادثات أصلاً، إذ لا يمكن للاتحاد الأوروبي التعامل مع الصراع الدائر في أوكرانيا بمفرده. لكن طلب الإدارة الأميركية من الوفد الأوكراني مغادرة البيت الأبيض كان بمثابة مفاجأة غير سارة بالنسبة إلى قادة الاتحاد الأوروبي، الذين أخذوا يبحثون في دفاترهم القديمة ومستودعاتهم العسكرية الخاوية عن سبل وموارد إمداد أوكرانيا بالسلاح والعتاد العسكري بشكل بدت معه القارة العجوز وكأنها غير مهتمة بنهاية سريعة للصراع الدموي الدائر على مرمى حجر منها، بل مضطرة لدخول سباق تسلح من أجل تغذية هذا الصراع.
وشكلت الفضيحة التي دارت فصولها داخل المكتب البيضاوي صدمة مروعة للزعماء الأوروبيين، الذين أعربوا عن عدم موافقتهم على موقف ترمب في شأن حل الصراع، على رغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر اجتمعا قبل ذلك بالرئيس الأميركي لإقناعه باستقبال زيلينسكي والتوقيع معه على صفقة "المعادن النادرة" بحيث تأخذ في الاعتبار مصالح أوكرانيا.
استنفار أوروبي
واستنفر زعماء غربيون كثر بعد تبادل التصريحات الحادة بين واشنطن وكييف، التي اعتبروا أنها تهدد استمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا، لأنهم يعلمون علم اليقين أن بلدانهم عاجزة عن تعويضه، فأعلنت بريطانيا وفرنسا أنهما بدأتا في إعداد خطتهما الخاصة لحل النزاع في أوكرانيا بمشاركة إيطاليا وكندا في تطويرها. ولا يخفي زعماء القوى الأوروبية حقيقة أنهم يفعلون ذلك في المقام الأول لإثارة اهتمام الولايات المتحدة بمواصلة دعم أوكرانيا بعد الفشل الدبلوماسي الكبير الذي مني به زيلينسكي. و
من المرجح أن تعكس شروط السلام الأوروبية "خطة النصر" غير الواقعية لزيلينسكي وسوف ترفضها روسيا وهو ما يتسق مع نوايا الاتحاد الأوروبي في مواصلة الصراع.
لكن وعلى رغم أن أوروبا تعتبر أن روسيا تشكل تهديداً مباشراً لها، وتسعى إلى تحقيق هدف إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو، ولا تهتم بالاستكمال السريع للنظام العالمي الجديد، فإن دول الاتحاد الأوروبي غير قادرة وليست مستعدة لدعم كييف بشكل مستقل، إذ إن إجمالي المساعدات العسكرية والإنسانية والمالية التي قدمتها الولايات المتحدة لكييف بين عامي 2022 و2024، بلغ 114 مليار يورو (123.07 مليار دولار)، في حين مولت دول الاتحاد الأوروبي ودول غير أعضاء في الاتحاد، أيسلندا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة، أوكرانيا مجتمعة بمبلغ 132 مليار يورو (142.50 مليار دولار)، بحسب بيانات مقدمة من معهد "كيل" للاقتصاد العالمي.
كما أن أوروبا لن تتمكن من تعويض أوكرانيا عن فقدان الوصول إلى بيانات الاستخبارات الأميركية ومحطات الأقمار الاصطناعية "ستارلينك" التي تستخدمها القوات المسلحة الأوكرانية منذ بداية الصراع. لكن مالك الشركة المزودة بخدمات الإنترنت إيلون ماسك نفى إمكانية قطع خدمة "ستارلينك" عن أوكرانيا. ويرى المحللون أيضاً أنه من غير المرجح أن يتوقف التعاون مع كييف في المجال الاستخباراتي. لكن في حال حدوث خلاف خطر في العلاقات بين أوكرانيا والولايات المتحدة سيكون من الصعب على القوات الأوكرانية استخدام الأسلحة الغربية، لأن برمجتها، أي تحديد أهدافها، تمت من قبل متخصصين أميركيين حصراً.
في الوقت نفسه، لم تعد بريطانيا وفرنسا تنويان المخاطرة بعلاقاتهما مع الولايات المتحدة، فوفقاً لكير ستارمر فإن تقديم "الخطة الأوروبية" والاتصالات مع الإدارة الأميركية تتم من دون مشاركة أوكرانيا لإقناع البيت الأبيض بقبول أسف زيلينسكي والصفح عنه. وهكذا أصبحت أوروبا وسيطاً في تنقية "العلاقات السامة" بين كييف وواشنطن وليست حليفاً للأخيرة وشريكاً لها في حلف شمال الأطلسي (ناتو).
انكشاف أوروبا
فجأة ومن دون سابق إنذار ومقدمات، وجدت بلدان القارة العجوز نفسها وحيدة بلا غطاء أميركي أمام ما تسميه بـ"الخطر الروسي"، فصارت أوروبا مجبرة وليست بطلة في الاستعداد بشكل نشط لحرب شاملة مع روسيا.
وأكد البنتاغون تعليق إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا، حيث دخل هذا الإجراء حيز التنفيذ فجر الثلاثاء 4 فبراير الماضي، ونقلت وكالة "ريا نوفوستي" الروسية عن مسؤول في البنتاغون أن "وزارة الدفاع الأميركية تلقت أوامر بتعليق جميع أشكال المساعدات العسكرية لأوكرانيا اعتباراً من الساعة 18:00 يوم الإثنين الماضي (02:00 يوم الثلاثاء بتوقيت الشرق الأوسط)".
مع ذلك، رفض البنتاغون التعليق على التقارير التي تشير إلى توقف تزويد أوكرانيا بالبيانات الاستخباراتية. وكانت قناة "سكاي نيوز" نقلت عن مصدر أوكراني أن الولايات المتحدة أوقفت تقديم البيانات الاستخباراتية لكييف بالكامل، وليس بشكل انتقائي. وفي وقت لاحق، أكد مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون راتكليف تعليق تبادل المعلومات الاستخباراتية.
وفي وقت سابق أفادت قناة "فوكس نيوز" نقلاً عن مسؤول رفيع المستوى في البيت الأبيض، أن الولايات المتحدة أوقفت إمدادات الذخائر والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا إلى حين تأكد الرئيس دونالد ترمب من التزام أوكرانيا بمفاوضات السلام.
من جهته، أشار رئيس وزراء بولندا دونالد توسك، إلى أن مطار جيشوف العسكري في بولندا، الذي يعد المركز اللوجيستي الأساسي لإرسال الأسلحة والمساعدات الإنسانية من الولايات المتحدة إلى أوكرانيا، قد توقف عن العمل.
وأفادت وسائل إعلام يوم الأربعاء 5 مارس (آذار) نقلاً عن دبلوماسيين أوروبيين، أن الاتحاد الأوروبي يخشى أن يضطر إلى تحمل كلف دفاعه الخاص والذخائر لأوكرانيا حتى وفاة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ونقلت صحيفة "بوليتيكو" عن أحد الدبلوماسيين الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته قوله "أصبحت نفقات الدفاع كلفة ثابتة. لقد حجبنا الشمس، والآن علينا أن ندفع كل يوم مقابل التدفئة. كل يوم يجب أن ندفع مقابل الذخائر، في الأقل لسنوات عدة حتى يموت ترمب".
كما أعرب الدبلوماسيون عن شكهم في قدرة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على تحقيق خطة إعادة تسليح الاتحاد الأوروبي. وتساءل مسؤول آخر "تحاول فون دير لاين الإمساك بالثور من قرنيه. ولكن هل ستتبعها الهيكلية التكنوقراطية للاتحاد الأوروبي؟".
وفي وقت سابق، أرسلت فون دير لاين رسالة إلى قادة دول الاتحاد الأوروبي الـ27، قدمت فيها خطتها لإعادة تسليح الاتحاد بقيمة 800 مليار يورو (863.64 مليار دولار). وأعلنت خلال كلمة لها أمام الصحافيين في بروكسل أن الاتحاد الأوروبي يدخل عصراً جديداً من التسلح، وأن هذه الحاجات ستأتي حتى من أموال برنامج تطوير المناطق المتخلفة في الاتحاد الأوروبي.
وأمر الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعليق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد أيام قليلة من مشاجرته مع فلاديمير زيلينسكي في البيت الأبيض يوم 28 فبراير. ودخل قرار ترمب حيز التنفيذ صباح يوم 4 مارس الجاري، ويشمل القرار جميع المعدات العسكرية الأميركية التي لا توجد حالياً في أوكرانيا، بما في ذلك الأسلحة التي يتم نقلها جواً أو بحراً أو التي تنتظر الشحن في مناطق عبور في بولندا.
ووفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، لم يلغِ ترمب قرار تعليق المساعدات العسكرية لكييف بعد رسالة زيلينسكي، إضافة إلى ذلك أفاد مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)جون راتكليف، بوقف تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الولايات المتحدة وأوكرانيا.
وأقر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن النزاع في أوكرانيا هو عبارة عن حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا. وقال في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز"، "هذه حرب بالوكالة بين قوتين نوويتين: الولايات المتحدة التي تدعم أوكرانيا، وروسيا. ولا بد من وضع حد لهذا النزاع". وأردف روبيو "ساد الاعتقاد في السابق لدى كييف والكونغرس الأميركي وبعض الدول أن مجرد تزويد أوكرانيا بكل ما يلزم وما هي بحاجة إليه سيكون أمراً كافياً. إلا أن هذا السلوك لا يعتبر استراتيجياً".
وصوّت مجلس الأمن الدولي أواخر فبراير الماضي لمصلحة القرار الأميركي الذي يدعو إلى السلام في أوكرانيا. ولفت مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا في كلمته أمام المجلس إلى أن استسلام نظام كييف مسألة وقت فقط. مضيفاً، "أصبحت أوكرانيا أشبه بشركة عسكرية خاصة تقاتل من أجل المصالح الجيوسياسية الغربية، وأصبح النزاع حرباً كلاسيكية بالوكالة بين روسيا ودول الـ(ناتو). وعلى رغم ذلك تكبد الجيش الأوكراني خسائر كارثية، وأصبح استسلام نظام كييف مسألة وقت فقط".
ونشرت الأسبوعية الأميركية الشهيرة "نيوزويك" أخيراً مقالاً يتضمن مسارعة عديد من الدول الأوروبية لتعزيز استعداداتها العسكرية التي تتم تحت مزاعم اتهامات لروسيا بأنها سوف تهاجم أوروبا بعد تحقيق أهدافها في أوكرانيا.
وأشارت الصحيفة إلى أن رؤساء الحكومات الأوروبية مقتنعون بأن الكرملين سيهاجم حلف شمال الأطلسي (ناتو) خلال بضع سنوات. لذلك تعمل دول الاتحاد الأوروبي على زيادة إمكاناتها العسكرية وبناء التحصينات على حدودها.
وفي نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قال برونو كاهل رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني، بحسب مجلة "نيوزويك"، إن "روسيا تستعد للحرب مع الغرب". لكنه يعتقد أن من غير المرجح أن يكون هذا هجوماً واسع النطاق على أراضي حلف الأطلسي. وأضاف كاهل أن موسكو قد تختار القيام بغزو محدود أو توسيع تكتيكات الحرب الهجينة التي تنتهجها منذ فترة طويلة لاختبار عزم التحالف. لذلك يحاول الأطلسي الاستعداد لكلا السيناريوهين: حرب واسعة النطاق، وأساليب أقل وضوحاً، لتقويض الاستقرار في دول التحالف".
الخوف من روسيا
ويتحدث كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين في أوروبا بشكل متزايد عن ضرورة الاستعداد للحرب، مما يؤدي إلى تأجيج نيران الذهان العسكري. وأعلن مفوض الدفاع بالاتحاد الأوروبي أندريوس كوبيليوس في سبتمبر (أيلول) الماضي، إن وزراء الدفاع وقادة حلف شمال الأطلسي يتفقون على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "قد يكون مستعداً لمواجهة مع الحلف والاتحاد الأوروبي في غضون ستة إلى ثمانية أعوام".
وقال كوبيليوس لـ"رويترز"، "إذا أخذنا هذه التقييمات والتوقعات على محمل الجد، فلن يكون لدينا وقت كاف للاستعداد. وهذا يعني أننا يجب أن نتخذ القرارات بسرعة ونتصرف بجرأة." وفي المؤتمر السنوي لوكالة الدفاع الأوروبية في بروكسل، صرح كوبيليوس صراحة بأن الاتحاد الأوروبي يجب أن يساعد في إطالة أمد الصراع الأوكراني من أجل احتواء روسيا والاستعداد للحرب في السنوات الخمس المقبلة.
بمعنى آخر، بحلول عام 2030 ستكون أوروبا جاهزة للحرب. وبحسب كوبيليوس فإن كل يوم من أيام الحرب في أوكرانيا هو "يوم يمكن فيه للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي أن يصبحا أقوى".
وفي فبراير، حذرت أجهزة الاستخبارات الخارجية الإستونية من أن حلف شمال الأطلسي قد يواجه "جيشاً ضخماً على الطراز السوفياتي" في وقت مبكر من العقد المقبل إذا نجحت روسيا في إصلاح قواتها المسلحة. وذكرت وكالة الاستخبارات أن الجيش سيكون "أدنى تكنولوجياً" من قوات التحالف في جميع المجالات باستثناء الحرب الإلكترونية والضربات البعيدة المدى، لكن قدراته العسكرية ستظل كبيرة، بحسب ما ذكرت مجلة "نيوزويك" نقلاً عن بيانات استخباراتية.
في الوقت نفسه، وصفت رئيسة الدبلوماسية الأوروبية كايا كالاس روسيا بأنها تهديد وجودي للاتحاد الأوروبي. ولهذا السبب قدمت أوروبا بالفعل لأوكرانيا 134 مليار يورو (932.35 مليار دولار)، منها 50 ملياراً للأسلحة. وذكرت "بمساعدتنا سوف تكون أوكرانيا قادرة على الفوز في الحرب". وأضافت كالاس "اللغة الوحيدة التي تتحدث بها موسكو هي لغة القوة. والاتحاد الأوروبي لديه القوة". مشيرة إلى أن اقتصادات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مجتمعة أكبر بـ17 مرة من اقتصاد روسيا.
لهذا السبب يعارض الصقور المعادون لروسيا في أوروبا مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الصراع في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن. وكما كتبت صحيفة "التايمز" البريطانية نقلاً عن أقوال ضباط رفيعي المستوى، فلندن تعارض مبادرة ترمب لإنهاء الصراع الأوكراني بسرعة. ويخشى البريطانيون من أن يمنح هذا روسيا فرصة لإعادة تنظيم صفوفها وتعزيز موقفها مما يؤدي إلى عدم الاستقرار في المنطقة على المدى الطويل.
ويعتقد كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية أنه بمجرد أن يتوصل ترمب إلى اتفاق سلام، فسوف يكون هناك سباق بين روسيا والغرب لإعداد جيوشهما للصراع المقبل، بحسب ما جاء في المقال.
وعلى وجه الخصوص، أعرب قائد فيلق الرد السريع التابع لحلف شمال الأطلسي الفريق أول رالف ووديس، عن ثقته بأن الجيش الروسي سيحقق نجاحاً أكبر بكثير في المرة المقبلة. وإضافة إلى ذلك تشعر دول الحلف بالقلق من أن كييف حالياً في موقف تفاوضي ضعيف، وهو ما يعني أن إبرام وقف لإطلاق النار من شأنه أن يضع كييف في وضع غير مؤاتٍ ويؤدي في النهاية إلى خسارة الأراضي.
وكما كتبت صحيفة "فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ" الألمانية في نهاية العام الماضي، فإن ألمانيا بدأت بالفعل في وضع خطة لحماية المباني والهياكل المهمة في برلين في حال وقوع هجوم. وفي الوقت نفسه ستصبح البلاد مركزاً لنقل مئات الآلاف من الجنود إلى شرق أوروبا. وذكرت الصحيفة أن المسودة الأولية للوثيقة الاستراتيجية، التي أطلق عليها اسم "عملية ألمانيا"، تصل إلى ألف صفحة.
ماكرون ودور "نابوليون"
فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عصر الأربعاء 5 مارس، العالم بـ"فتح النقاش الاستراتيجي" في شأن حماية أوروبا بواسطة المظلة الفرنسية النووية في مواجهة "التهديد الروسي"، مشدداً على أن مستقبل القارة لا يجب أن يتقرر في موسكو أو واشنطن.
وقال ماكرون، خلال خطاب متلفز، إنه "استجابة للدعوة التاريخية التي وجهها المستشار الألماني العتيد فريدريش ميرتس، قررت فتح النقاش الاستراتيجي في شأن حماية حلفائنا في القارة الأوروبية عبر الردع"، مؤكداً أنه "مهما حدث فإن القرار كان وسيبقى دائماً في يد رئيس الجمهورية، قائد القوات المسلحة".
واعتبر ماكرون أن "التهديد الروسي قائم ويؤثر في دول أوروبا ويؤثر فينا"، متهماً موسكو بأنها "جعلت النزاع الأوكراني بالفعل صراعاً عالمياً، وتنتهك حدودنا لاغتيال المعارضين، وتتلاعب بالانتخابات في رومانيا ومولدافيا، وتنظم هجمات رقمية ضد مستشفياتنا، وتحاول التلاعب بآرائنا عبر أكاذيب منتشرة على الشبكات الاجتماعية".
وقال الرئيس الفرنسي إن "هذا العدوان يبدو أنه لا يعرف أي حدود"، وأمام هذا العالم المليء بالخطر، فإن "بقاء المرء متفرجاً سيكون بمثابة جنون". وإذ أكد أن أوروبا ستظل ملتزمة بـ"حلف شمال الأطلسي وشراكتنا مع الولايات المتحدة"، رأى أنه "يتعين علينا أن نبذل مزيداً من الجهود، وأن نعزز استقلالنا في مسائل الدفاع والأمن"، مشدداً على أنه "لا ينبغي أن يتقرر مستقبل أوروبا في واشنطن أو موسكو".
وأوضح ماكرون أن هذه القضايا ستكون في صلب القمة الاستثنائية لـ"الاتحاد الأوروبي" يوم الخميس في بروكسل، مبيناً أنه في ختامها "ستكون الدول الأعضاء قادرة على زيادة إنفاقها العسكري، وسيتم اتخاذ قرار في شأن تمويل مشترك ضخم لشراء وإنتاج الذخائر والدبابات والأسلحة والمعدات الأكثر ابتكاراً على الأراضي الأوروبية".
وعلق نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف، على تصريحات ماكرون حول "التهديد الروسي"، مشيراً إلى أن الأخير لا يشكل تهديداً، ولن يفتقده أحد بعد انتهاء ولايته. كما علقت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، على تصريحات الرئيس الفرنسي عبر موقع "تيليغرام" يوم الأربعاء بالقول، "تبين الآن أن أقوى جيش في أوروبا لدى إيمانويل، بينما تحدث زيلينسكي أنه عنده". وتابعت "لكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه يتوجه إلينا سفير فرنسي جديد. وقد أفصح أخيراً عن أفكاره حول الرغبة في تطوير العلاقات مع بلادنا. واليوم اعترف رئيسه ماكرون بأن السلام في أوروبا ليس أولوية بالنسبة إلى فرنسا، وأنهم يريدون لجم روسيا وإلى آخر ذلك". وتساءلت زاخاروفا، "لماذا يتوجه إلينا السفير الفرنسي، نود أن نستفسر مرة أخرى؟".
وصرح السيناتور الروسي ألكسندر تشيدكوف بأن تلويح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالهراوة النووية أمر مثير للشفقة. وأضاف إن "قوات الردع الفرنسية أقل بمرات عدة من القوات الروسية أو الأميركية، وفي أفضل الأحوال يمكنها ضمان الدفاع عن فرنسا نفسها فقط". وختم قائلاً، "هل كان ديغول ليتخيل أن القنبلة النووية التي صنعها من أجل السيادة ستصبح لعبة في أيدي ورثة مجانين؟".
وفي الأثناء، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن ستارمر وماكرون بذلا جهوداً لإقناع زيلينسكي بتغيير موقفه تجاه ترمب، ونقلت الصحيفة تلك المعلومات عن مسؤول بريطاني ومصادر فرنسية مقربة من الرئيس إيمانويل ماكرون لم تكشف عن أسمائهم نظراً إلى حساسية الموضوع.
وأشارت الصحيفة إلى أن الرئيس الأوكراني غير نبرة تصريحاته تجاه ترمب إثر التحدث مع ستارمر وماكرون يوم الثلاثاء. وبعد مطالبة عدد من المسؤولين الأميركيين له بتقديم الاعتذار، أعرب زيلينسكي في بيان نشره يوم الثلاثاء، عن أسفه لما حدث بينه وبين ترمب في البيت الأبيض يوم 28 فبراير. وفي خطابه أمام الكونغرس قال ترمب إنه "تلقى رسالة جدية" من زيلينسكي في شأن "استعداده للسلام".
على أهبة الاستعداد
حذر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش في يوليو (تموز) الماضي من أن حلف شمال الأطلسي "ليس مستعداً الآن" لحرب محتملة مع روسيا، لكنه "سيكون مستعداً" في المستقبل القريب. وقال للتلفزيون الصربي "إنهم يستعدون بالفعل للصراع مع روسيا، وأسرع بكثير مما يعتقد البعض، بكل معنى الكلمة".
وفي طليعة الذهان العسكري تقع دول البلطيق، حيث ترسخت جذور العداء لروسيا بشكل خاص. وقد نشرت فنلندا بالفعل إرشادات متاحة للعامة حول كيفية الاستعداد لـ"أسوأ تهديد محتمل- الحرب". وطالبت وزيرة الداخلية الليتوانية أجني بيلوتايت السلطات المحلية بإعداد خطط الإخلاء على الفور.
وقالت بيلوتايت "من المهم أن نلاحظ أننا في الخطوط الأمامية، لذلك أصبح الدفاع المدني اليوم أولوية على جدول أعمالنا". ودعت الوزيرة الدول المجاورة إلى أن تحذو حذو ليتوانيا، وأعلنت أن فيلنيوس ستنفق 12 مليار يورو (12.95 مليار دولار) عام 2025 على بناء وتحديث الملاجئ.
بدوره، أعلن وزير الداخلية اللاتفي ريهاردز كوزلوفسكيس، أن الدولة الواقعة في منطقة البلطيق لديها نحو خمسة آلاف مبنى تحت الأرض، وأن ريغا تأمل في "إعدادها لاستخدامها كملاجئ". وقال رئيس بلدية العاصمة الليتوانية فالداس بنكونسكاس لوسائل الإعلام المحلية، "إذا لزم الأمر، يمكننا أن نحمي مدينتين مثل فيلنيوس تحت الأرض".
وفي ظل الجنون العسكري، تتجه دول البلطيق إلى الركض أمام قاطرة حلف شمال الأطلسي. فقد أصبحت ليتوانيا وإستونيا أول دولتين في الحلف تتعهدان بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي تحت ضغط من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بحسب ما ذكرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية نقلاً عن وزير الخارجية الليتواني كيستوتيس بودريس ورئيسة الوزراء الإستونية كريستين ميخال.
وقال وزير الخارجية الليتواني إن ليتوانيا وإستونيا استجابتا لـ"الضغوط الجيدة والبناءة" من الرئيس ترمب وأصبحتا أول دولتين في حلف شمال الأطلسي تتعهدان بإنفاق أكثر من 5 في المئة من ناتجهما المحلي الإجمالي على الدفاع كجزء من الجهود الرامية إلى تعزيز قدراتهما العسكرية بشكل كبير". واعتبر أن أوروبا تتجه نحو "عصر جديد" بعد أن تعهدت ليتوانيا بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى ما بين 5 و6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي اعتباراً من العام المقبل. وقال الوزير للصحيفة "بالطبع هناك ضغوط، وهذا ضغط جيد وبناء من جانب حلفائنا الاستراتيجيين والأكبر في حلف شمال الأطلسي. لا يمكننا تجاهل هذه التقارير".
من جانبها، أشارت رئيسة الوزراء الإستونية ميخال إلى أن بلادها تعتزم أيضاً زيادة الإنفاق العسكري من 3.7 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقالت "لقد أعطى شريكنا الأمني الرئيسي في عهد الرئيس الجديد إشارة واضحة: يجب زيادة الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي". وشددت، "إننا نعرف خصمنا، وأنا أتفق معه تماماً، هدفنا يجب أن يكون 5 في المئة".
وفي الوقت نفسه، تخطط ليتوانيا لتغطية كلف الدفاع من خلال القروض الحكومية والأدوات المالية الأوروبية للدفاع، في حين قد تلجأ إستونيا إلى "خفض موازنة القطاع العام". لكن دوائر المعارضة الليتوانية تشك في إمكانية تحقيق مثل هذا الهدف. "إنهم (الحكومة الليتوانية) لا يملكون خطة موثوقة للوصول إلى نسبة 6 في المئة". ونقلت صحيفة "فاينانشيال تايمز" عن سياسي معارض من فيلنيوس قوله إن "اقتراض مثل هذا المبلغ سيكون بمثابة إعادة كتابة العقد الاجتماعي".
وقال وزير الدفاع اللاتفي السابق أرتيس بابريكس في مقابلة مع إذاعة لاتفيا، إن تصرفات الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب تظهر أن لاتفيا بحاجة إلى الاعتماد بشكل أكبر على التعاون مع أوروبا في مجال الدفاع. وبحسب قوله، من الصعب للغاية في الوقت الحالي تصديق أن الإدارة الأميركية الجديدة ستلتزم بالمادة 5 من معاهدات الـ"ناتو".
في الوقت نفسه، أشار بابريكس إلى أنه ليس هناك ما يدعو للذعر، إذ لن تكون هناك تغييرات دراماتيكية فورية، ولكن من الضروري العمل بعناية شديدة لتعزيز الأمن. "إنها فرصة كبيرة وربما أخيرة لأوروبا الغربية، وبخاصة ألمانيا، ليس فقط لمساعدة أوكرانيا، بل وأيضاً لأخذ الأمن على محمل الجد أخيراً".
وبحسب بابريكس، فإن تعليق المساعدات لأوكرانيا يعني أن خطط ترمب لم تكن تهدف أبداً إلى تحقيق سلام عادل، بل إلى استئناف التعاون مع الاتحاد الروسي. من الواضح أن ترمب يأمل في إقامة صداقة معينة مع روسيا، لكن بابريكس لا يعتقد أن هذه الصداقة ستستمر طويلاً إذا وصل الأمر إلى صراع مفتوح بين الولايات المتحدة والصين.
وبحسب بابريكس، فإن قرار ترمب تعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا لن يؤدي إلى وقف فوري للأعمال العدائية، لأن أوكرانيا لديها إمكاناتها العسكرية الخاصة. وأكد أن السؤال المهم هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعلق مساعداتها في مجال الاستخبارات والإنذار المبكر.
من جهته، أعلن رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف أن بلاده تعتزم تخصيص 3.5 مليار يورو (3.78 مليار دولار) كمساعدات لأوكرانيا. وقال إن المساعدات المقدمة لكييف ستكون ذات "أهمية كبيرة".
وفي وقت سابق، صرح العضو في البرلمان الهولندي عن حزب "جبهة لأجل الديمقراطية" اليميني المتطرف، غيديون فان مييرن بأن "الحكومة الهولندية من خلال دعمها لأوكرانيا تجعل بلدنا هدفاً مشروعاً لروسيا". وتابع، "على حكومتنا أن تتبع دائماً سياسة تتجاوب مع مصالح شعبنا"، مضيفاً أن هولندا يجب أن تؤيد إجراء مفاوضات لتسوية النزاع في أوكرانيا، وليس تزويد أوكرانيا بالأسلحة.
بالمقابل أعلن الخبير السياسي الروسي فاديم آفا، "كان حلف شمال الأطلسي يستعد لشن هجوم على روسيا منذ فترة طويلة، وكان يقترب باستمرار من حدودنا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم أثار صراعاً في أوكرانيا. لقد كان الغرب يعمل بطريقة واحدة منذ عام 1991". وقال في مقابلة مع وكالة "تسارغراد"، "لقد جاء إلى المنطقة التي يعيش فيها الشعب الروسي سعياً وراء هدف تدمير روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأعلن بطريقة أو بأخرى أن اللغة والثقافة الروسية غير قانونيتين في هذه المنطقة، وحرم الشعب الروسي من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ثم جر البنية التحتية العسكرية لحلف شمال الأطلسي تدريجاً إلى حدودنا".
وأضاف "لقد أدركوا أن هناك عدداً كبيراً من السكان الروس هناك، وأدركوا أن هذه أرض روسية فبدأوا في إبادتهم جسدياً. اندلعت حرب أهلية، ولم يكن بوسع روسيا إلا أن تجر نفسها إليها. وكل هذه التصريحات التي تزعم أن روسيا عدوانية هي كذبة. وطالبوا بانسحاب قواتنا، وبمجرد أن تم ذلك توسعت كتلة الـ(ناتو) بدءاً من عام 1997 واستمرت في 2014. ولقد كان الأمر بمثابة محفز لهم للتخلص من أقنعة اللياقة. لقد كانوا يستعدون للحرب لفترة طويلة. والحرب مع روسيا ينظر إليها الجميع باعتبارها عملاً مشتركاً".
وحذر عالم السياسة الروسي من أن أوروبا تدرك أنها لا تستطيع مواجهة روسيا بالقتال على أراضي أوكرانيا فقط، وأنها بحاجة إلى نشر قواتها على طول محيط الجبهة الأوروبية الشاملة بالكامل، من النرويج وفنلندا إلى البحر الأسود إلى أوديسا ونيكولايي، وهذا بالضبط ما يفعلونه، مضيفاً "من الممكن أن تكون كالينينغراد وترانسنيستريا من بين الأهداف الأولى للهجوم. أوروبا ستتقاتل معنا، مع الدولة الروسية، مع الأمة الروسية، مع الثقافة الروسية. إنهم يريدون تدميرنا بالكامل. هذه محرقة جديدة. الهولوكوست الروسي".
في الاتحاد الأوروبي
تعارض المجر وسلوفاكيا استمرار إمدادات المساعدات العسكرية لكييف. وعلى خلفية الهجمات الأوكرانية على البنية التحتية لخط أنابيب الغاز "السيل التركي"، فإن الموافقة على أنواع أخرى من المساعدات أصبحت أيضاً تحت التهديد. وقال رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو إن استئناف مرور الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية من بين شروط موافقة بلاده على المبلغ التالي لدعم أوكرانيا، لأن "المساعدة التي يقدمها الاتحاد الأوروبي وجمهورية سلوفاكيا لأوكرانيا بأشكال مختلفة لا يمكن أن تكون تذكرة ذهاب فقط".
ولا يوجد اتفاق في الاتحاد الأوروبي حيال تسوية الصراع ونشر بعثات حفظ السلام في أوكرانيا، حتى بين "الصقور". وكانت فرنسا والمملكة المتحدة الأكثر صراحة في شأن نيتهما إرسال قوات حفظ سلام، ولكن بدعم من الولايات المتحدة فقط، في حين تساءل الرئيس الليتواني جيتاناس نوسيدا عن الحاجة لمناقشة مهمة حفظ السلام في أوكرانيا في قمة في كييف، حيث لا يوجد "وقف لإطلاق النار" في الوقت الحالي. وطلب أيضاً توضيحاً في شأن ما إذا كانت كييف بحاجة إلى قوات حفظ سلام للحفاظ على السلام أو "لفرض السلام"، على الأرجح في إطار دعوات زيلينسكي لضمان "السلام من خلال القوة" لأوكرانيا.
أصبحت العقوبات غير المسبوقة التي فرضها الغرب على روسيا الأداة الرئيسة للضغط الاقتصادي. وعلى رغم أن الاقتصاد الروسي كان قادراً على التكيف مع القيود، فإن هذه العقوبات أصبحت عقبة مزعجة أمام الأعمال. وبعد محادثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثار ترمب إمكانية رفع العقوبات الأميركية عن روسيا بمجرد التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
غير أن الاتحاد الأوروبي أكد أنه حتى لو رفعت الولايات المتحدة القيود الاقتصادية المفروضة على الاقتصاد الروسي، فإن الاتحاد لا ينوي رفع عقوباته. على رغم أن فعالية القيود التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا تعتمد بشكل مباشر على دعم الولايات المتحدة. فمن بدون الحظر الأميركي على استيراد التكنولوجيا والوصول إلى الأسواق المالية يمكن التحايل على القيود الأوروبية من خلال دول ثالثة، كما أن رفع العقوبات الثانوية الأميركية على الشركات الأوروبية من شأنه أن يشجعها على التعامل مع روسيا في الظل.
بعد مؤتمر ميونيخ، الذي هاجم فيه نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس الاتحاد الأوروبي بسبب تراجعه عن القيم الديمقراطية الحقيقية، بدأت أوروبا تتحدث للمرة الأولى عن خطر انهيار التحالف الأطلسي. وفي هذه الحال تواجه أوروبا خطر مواجهة نقص خطر في الأسلحة، بما أن العبء الرئيسي المتمثل في ملء موازنة الدفاع للحلف يقع على عاتق الولايات المتحدة.
وتتحدث الصحافة الغربية عن مخاوف في الدول الأوروبية من احتمال انسحاب القوات الأميركية من القواعد العسكرية في أوروبا، وعلى رغم نفي ترمب لهذه التقارير، فإن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات الرئيس الأميركي تجبر الأوروبيين على الاستعداد لأي سيناريو، بما في ذلك الاختيار بين الدفاع عن أنفسهم أو إرسال قوات إلى أوكرانيا كجزء من مهمة لحفظ السلام. وهذه الخطة تناقش على نطاق واسع بين أوروبا وكييف، لكن روسيا لا توافق أبداً على نشر قوات حفظ السلام في أوكرانيا، لأنها تعتبر أن الحرب اندلعت أصلاً من أجل إبعاد قوات الـ"ناتو" عن حدودها.
كما أن داخل الاتحاد الأوروبي نفسه لا توجد وحدة حيال عديد من القضايا، بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي. وبما أن دول حلف شمال الأطلسي لم تعد واثقة من أن الولايات المتحدة ستظل عضواً في التحالف، وأنها، وفقاً للمادة الخامسة من الميثاق، ستتولى الدفاع عن الدول المتحالفة إذا لزم الأمر، فإن الاتحاد الأوروبي يناقش إنشاء تحالف عسكري خاص به. لكن هناك خطراً يتمثل في إمكانية استغلال المفوضية الأوروبية للموازنة العسكرية المتزايدة لتعزيز سلطتها ونفوذها على الحكومات الوطنية.
موسكو تتجنب سباق التسلح
يعتبر الخبراء الروس المحايدون أن اقتصاد البلاد صمد أمام العقوبات الغربية، لكن تأثير هذه العقوبات سيظهر عاجلاً أم آجلاً، وهي ستؤدي بلا ريب مع الزمن إلى إنهاك الاقتصاد الوطني، لذلك يجب تجنب الدخول في سباق تسلح جديد ووقف نمو العسكرة العالمية لأنها ستؤدي حتماً إلى تحول الأسلحة من عامل ردع إلى عامل يزيد من احتمالات الصراعات العسكرية.
وقال رئيس معهد البحوث العلمية والتكنولوجية إركين توكوموف، الذي شارك في مؤتمر ميونيخ للأمن المنعقد في الفترة من 14 إلى 16 فبراير الماضي، وهو الحدث الدولي الأكثر أهمية في السياسة الخارجية والدبلوماسية والأمن والدفاع، "لقد دخل العالم في سباق تسلح جديد".
وذكر أنه التقى على هامش المؤتمر مع دان سميث مدير معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري)، وهو مؤسسة الفكر رقم واحد في العالم بمجال دراسات السلام والصراع والحد من الأسلحة ونزع السلاح وينشر كل عام تقريراً تحليلياً عن مستوى عسكرة البلدان. وقال له الأخير، "لقد لاحظنا منذ سنوات عدة ارتفاعاً في مستوى العسكرة. وهذا يعني في الواقع أننا نستطيع أن نقول إن العالم دخل في سباق تسلح جديد. وهذا بالتأكيد سيئ جداً".
وأضاف "إن نمو العسكرة سيؤدي حتماً إلى تحول الأسلحة من عامل ردع إلى عامل يزيد من احتمالات نشوب الصراعات المسلحة. وهكذا أظهر الرصد لعام 2024 وجود 28 صراعاً مسلحاً في العالم، منها 25 في حال متدهورة، و2 حافظا على الوضع الراهن، وصراع واحد فقط هو صراع كاراباخ أظهر ديناميكيات إيجابية. الحرب من السهل جداً أن تبدأ، ومن الصعب جداً أن تنتهي. ويظهر ذلك من خلال تاريخ البشرية بأكمله".
على رغم اختلاف المواقف بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في شأن الأزمة الأوكرانية، فإن من المبكر أن تقلق الدول الأوروبية حيال مصير حلف شمال الأطلسي، فهو هيكل قوي للغاية. وبشكل عام فإن الخطاب الأميركي، إذا نظرنا إليه بعناية، لا يشير إلى أية نهاية لأنشطة الحلف، بل إلى زيادة مسؤولية المشاركين الأوروبيين. فحتى وقت قريب فشل عديد من أعضاء الحلف في الوفاء بالتزاماتهم بإنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الأسلحة والدفاع. وحتى الآن لم يلتزم نحو ثمانية أو تسعة أعضاء بهذا الشرط. وهذا لا يناسب الأميركيين بكل تأكيد، لأن إسهامهم في حلف شمال الأطلسي غير متناسب مع إسهام شركائهم الأوروبيين. لهذا السبب فإنهم يطالبون شركاءهم في الحلف بإنفاق مزيد على الأسلحة والأمن.
ما يحدث في الاجتماعات الأوروبية الآن لا يدعو للقلق. لأنهم سوف يجدون حلاً لمشكلاتهم الأمنية بأنفسهم. وفي أوروبا هناك تصميم حازم على القيام بذلك. وأخيراً صدرت نتائج الانتخابات في ألمانيا، التي فاز فيها زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرز، ولدى الرجل الرغبة في إنشاء قوات مسلحة قوية في أوروبا.
في النتيجة، حتى لو تم التوصل لتسوية الأزمة الأوكرانية خلال الصيف المقبل، فإن واشنطن ستستمر في دفع حلفائها الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي لزيادة الإنفاق الدفاعي نحو هدف جديد يبلغ بين 3 و5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي جوهره، يعني هذا شراء مكثفاً للأسلحة الأميركية من قبل الأوروبيين، بالتالي دعم المجمع الصناعي العسكري الأميركي. ومن ناحية أخرى، فإن تقديم الدعم النشط لأوكرانيا يسمح لروسيا بالانخراط بشكل أعمق في حملة عسكرية باهظة الكلفة، بالتالي حل مشكلة الاحتواء من دون مواجهة مباشرة.
ومن الجدير بالملاحظة هنا الصراع على المصالح بين واشنطن وكييف. إن الحكومة الأوكرانية التي تدرك جيداً استنفاد مواردها الخاصة تحاول بشكل محموم التشبث بأية فرصة للبقاء على رأس أولويات التحالف الغربي، وكثيراً ما تتصرف - كما حدث في كورسك - بطريقة انتهازية إلى حد ما. وتأمل كييف بأن تجبر الدول الغربية على المشاركة المباشرة في الصراع من خلال تقديم نجاح عسكري واضح لها. ويرى الأميركيون هذا الدافع من أوكرانيا، ولكنهم غير مهتمين بمثل هذا السيناريو.
وبغض النظر عن تحسن وتطور العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن مسار المنحنى التصاعدي لموازنة الدفاع الأميركية لن يتغير، لأن الرئيس ترمب وإدارته بحاجة دائماً للاعتماد على القوة العسكرية للبلاد والتلويح والتهديد بها. وتعتمد السياسة الخارجية الروسية والتخطيط العسكري على سيناريو الحفاظ على الظروف العسكرية ومواصلة التنافس الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بصرف النظر عن هوية الرئيس الأميركي.
هشاشة "هرم الثقة" في الاستراتيجية الأميركية في الغرب وبخاصة في أوروبا سوف تمنع إدارة ترمب من اتخاذ خطوات جذرية إما نحو التصعيد أو نحو إيجاد السبل لتحقيق تسوية عميقة. إن صورة "اللاعب المستقل" قد تدفع ترمب إلى القيام بأعمال ومغامرات دبلوماسية صاخبة - ولن يكون مفاجئاً سماع مزيد من التصريحات الصاخبة حول "شراء غرينلاند"، أو الحديث عن كيف سيكون من الجيد للمكسيك وكندا الانضمام إلى الولايات المتحدة، أو التهديدات ضد الصين وإيران - ولكن من غير المرجح أن تؤدي هذه الإجراءات إلى "صفقات" جيوسياسية خطرة.
من جانبها، تسعى روسيا إلى تشجيع الولايات المتحدة على مراجعة هيكل الأمن الأوروبي، الذي يرتكز حالياً على هيمنة حلف شمال الأطلسي بشكل جدي، وإخراج أوكرانيا من دائرة النفوذ الغربي. إن تناقض المصالح بين روسيا والولايات المتحدة يجعل التوصل إلى حل سريع وعميق للأزمة الأوكرانية بكبسة زر أمر غير مرجح. ومن المرجح أن تقتصر الاستراتيجية الأميركية على إبقاء الأزمة "على نار هادئة" ولكن من دون تصعيد حاسم. فالتوترات المستقرة ولكن القابلة للسيطرة سوف تسمح للولايات المتحدة بمواصلة إقناع أوروبا بدفع ثمن أمنها، مع تجنب التصعيد المفرط وخطر الهزيمة العسكرية. ومن الصعب أن نفهم لماذا يثير مثل هذا الاحتمال اهتمام روسيا.