Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

لماذا تخوف الغرب من نية عبدالناصر إنشاء دولة فلسطينية في غزة؟ (2 – 2)

الرئيس المصري سعى إلى تعزيز نفوذ الجمهورية العربية المتحدة والمخاوف انصبت على تأثيرات الخطوة في الأردن وتصعيد الوضع داخل المنطقة

الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر خلال استقباله العاهل الأردنى الراحل الملك حسين بالقاهرة في مارس 1969 (أ ف ب)

ملخص

في الـ 14 مارس 1959، شهدت غزة مجلساً تشريعياً جديداً مكوناً من 30 عضواً، وسط شائعات تتحدث عن رغبة مصر في منح القطاع حكماً ذاتياً، وهو ما نفته السلطات المصرية رسمياً. وعلى رغم الهدوء النسبي الذي ساد القطاع بفضل دوريات قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة لكن الأحداث لم تكن خالية من التوترات، ففي الأسبوع الذي سبق تشكيل المجلس أفادت التقارير أن الطائرات الإسرائيلية قد حلقت على ارتفاع منخفض فوق القطاع للمرة الأولى منذ 10 أشهر، مما دفع الجيش المصري إلى إصدار تحذيرات صارمة ضد أية تحركات إسرائيلية مشابهة في المستقبل.

بعد أن تناولنا في الجزء الأول من الوثائق البريطانية التي رفع عنها طابع السرية أخيراً، رؤية لندن لتحركات الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في خمسينيات القرن الماضي تجاه القضية الفلسطينية وقطاع غزة، نتناول في هذا الجزء من الوثائق سلسلة من الأحداث السياسية التي وقعت في غزة خلال عام 1959، إذ كان الحراك السياسي يشهد تطوراً لافتاً في المنطقة ضمن الأحداث التي مرت بها القضية الفلسطينية منذ أزمة السويس عام 1956.

وفي هذا العام كان قطاع غزة يمر بتحولات كبرى تمثلت في تشكيل مجلس تشريعي جديد وسط تكهنات دولية حول نية القاهرة منح القطاع حكماً ذاتياً، وعلى رغم نفي السلطات المصرية المتكرر تلك التكهنات فقد كانت القراءات السياسية والتكهنات حول خطط الرئيس جمال عبد الناصر تشهد تأزماً متصاعداً، فكيف قرأتها الوثائق البريطانية في ذلك التوقيت؟

 

الهدوء النسبي في غزة وتزايد التوترات الإسرائيلية

في الـ 14 مارس (آذار) 1959، شهدت غزة مجلساً تشريعياً جديداً مكوناً من 30 عضواً، وسط شائعات تتحدث عن رغبة مصر في منح القطاع حكماً ذاتياً، وهو ما نفته السلطات المصرية رسمياً، وكان من المقرر أن يحتفل سكان غزة، ومعظمهم من اللاجئين الفلسطينيين العرب، بتشكيل المجلس الجديد عبر تجمع جماهيري، وكان هذا الحدث يأتي بعد نحو عام من استعادة الحاكم المدني اللواء حسن عبداللطيف للسيطرة المصرية على غزة عقب أزمة السويس واندلاع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 التي شهدت اجتياحاً إسرائيلياً للقطاع.

وعلى رغم الهدوء النسبي الذي ساد القطاع بفضل دوريات قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة لكن الأحداث لم تكن خالية من التوترات، ففي الأسبوع الذي سبق تشكيل المجلس أفادت التقارير أن الطائرات الإسرائيلية قد حلقت على ارتفاع منخفض فوق القطاع للمرة الأولى منذ 10 أشهر، مما دفع الجيش المصري إلى إصدار تحذيرات صارمة ضد أية تحركات إسرائيلية مشابهة في المستقبل.

وفي ضوء هذه التوترات صرحت إدارة فلسطين في مصر بأن الهدف من تشكيل المجلس التشريعي هو "مساعدة الحاكم في إدارة القطاع، وأنه لن يجري إعلان الحكم الذاتي أو الاستقلال لقطاع غزة"، وعلى رغم هذا النفي الرسمي فإن الصحافة الدولية نقلت عن تقارير صحفية في لندن أن الرئيس جمال عبدالناصر كان يخطط لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة انطلاقاً من قطاع غزة، وهو ما كان يهدف إلى تعزيز مكانة الجمهورية العربية المتحدة (التحالف في ذلك الوقت بين سوريا ومصر).

وقد جرى تشكيل مجلس تنفيذي مكون من 10 أعضاء في غزة تحت قيادة اللواء حسن عبداللطيف الذي كان يتولى الشؤون المدنية للقطاع، وكان من المفترض أن يتضمن المجلس التشريعي الجديد ممثلين عن البلديات وأعضاء من المجلس التنفيذي وأعضاء من مجلس اللاجئين، إضافة إلى ممثلين عن النقابات والمهن المختلفة، وكان الحاكم المدني في قطاع غزة قد وصل إلى القاهرة لإجراء مشاورات حيال هذه الخطوة، في وقت كانت فيه التكهنات حول خطط عبدالناصر تسود الأجواء.

 

قلق إقليمي من الضفة الغربية إلى الأردن

في بداية عام 1959 نشرت الصحافة المصرية قانوناً أساساً يخص منطقة غزة وينص على تشكيل مجلس تشريعي ومجلس تنفيذي مكون من ممثلين عن البلديات وسكان القطاع ولاجئين، وبالتوازي مع هذه التحركات أبلغ المصريون قائد قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة، الجنرال بيرنز، نيتهم نقل قوات فلسطينية إلى غزة للإشراف على الانتخابات التي كانت من المقرر أن تجرى في مارس من العام نفسه، وكان المسؤولون المصريون يسعون من خلال هذه الخطوات إلى تحريك الأوضاع الداخلية في قطاع غزة بما يعكس "التعبير عن الرأي الشعبي" لمصلحة الانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة، وعلى رغم نفي نية مصر تغيير الوضع القائم في القطاع لكن تكهنات عدة أثيرت حول إمكان إعلان دولة فلسطينية مستقلة في غزة، وهو ما كان سيتبعه، بحسب هذه التقارير، انضمام غزة إلى الجمهورية العربية المتحدة.

وكانت هذه التحركات المصرية موضع قلق شديد على المستوى الإقليمي والدولي، فإقامة دولة فلسطينية مستقلة في غزة كانت ستؤدي إلى تأثيرات كبيرة على الضفة الغربية للأردن، وربما تفضي إلى اضطرابات داخلية في ذلك البلد العربي، حيث كان الأردن قد ضم الضفة الغربية رسمياً قبل 10 أعوام، واعتبر ذلك خطوة قانونية لا رجعة فيها مما جعلها تتأثر بصورة مباشرة بأية تطورات قد تهدد استقرار المنطقة.

وفي المقابل كانت إسرائيل أيضاً في حال قلق شديد من هذه التحركات، إذ خشيت من أن تؤدي هذه الخطوة إلى تصعيد التوترات في الشرق الأوسط وزيادة الاستفزازات على حدودها، وقد أفادت التقارير بأن الحكومة الإسرائيلية كانت ترى هذه الخطوة أقل أهمية في البداية، لكنها سرعان ما بدأت تشعر بالقلق من تداعياتها على استقرار المنطقة.

تدخل الأمم المتحدة والضغوط الدولية

من جانبها عبرت الأمم المتحدة عن قلقها من أية تحركات قد تؤدي إلى تصعيد الوضع داخل المنطقة، وفي هذا السياق استمر الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك داغ هامرشولد في متابعة التطورات عن كثب، موجهاً تحذيرات قوية إلى الحكومة المصرية من مغبة اتخاذ أية خطوة قد تؤدي إلى تصعيد خطر في المنطقة، وكان الموقف الدولي يطالب مصر بالامتناع من اتخاذ أية إجراءات قد تؤدي إلى تعميق الأزمة الفلسطينية وتزيد تعقيد الوضع.

وفي حين كانت التقارير تشير إلى أن عبد الناصر كان يفكر في هذه الخطوة الجريئة، فقد تبين أن الضغوط الدولية، وبخاصة من الأمم المتحدة، قد أسهمت في دفعه إلى التريث وعدم المضي قدماً في إعلان دولة فلسطينية مستقلة في غزة، وفي الوقت نفسه كان لا بد من إيجاد حلول دبلوماسية لتجنب تفاقم أزمة الشرق الأوسط.

إستراتيجية عبدالناصر والضغوط الدولية

على رغم أن الخطوات التي كانت تتخذها مصر لم تكن تشير بوضوح إلى نية مصر إعلان دولة فلسطينية مستقلة، لكن التحركات السياسية والعسكرية التي أقدمت عليها في قطاع غزة كانت تشكل تهديداً كبيراً للأوضاع الإقليمية، وعلى رغم الدعم الشعبي المحتمل فإن الضغوط السياسية والإقليمية، إضافة إلى تحذيرات الأمم المتحدة، قد أدت في النهاية إلى إحباط هذه الخطط.

وبينما كانت هذه الفترة تشير إلى مرحلة مهمة في تاريخ المنطقة فقد شكلت اللحظة اختباراً حاسماً للقدرة الدولية على منع التصعيد وضبط الأوضاع السياسية المعقدة في الشرق الأوسط، ففي الأول من أبريل (نيسان) 1958، أرسل السير وزير الخارجية البريطاني ويليام هايتر رسالة سرية من تل أبيب تناول فيها ردود الفعل الإسرائيلية المحتملة تجاه فكرة إعلان دولة فلسطينية مستقلة في قطاع غزة، وذلك بعد أن طُرحت الفكرة في المنطقة في سياق تطورات سياسية معقدة، إذ كانت الأوضاع السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط تشهد تحولات كبيرة.

وكانت ردود الفعل الإسرائيلية، كما وصفها هايتر، غير واضحة مع تجنب التصريح المباشر من المسؤولين الإسرائيليين حول هذا الموضوع، وعلى رغم أن الإعلام الإسرائيلي أشار إلى أن إعلان دولة فلسطينية في غزة ليس أولوية لإسرائيل لكن الساسة كانوا يلتزمون الصمت، ربما خوفاً من تداعيات هذا الإعلان، كما يرى بعضهم في تل أبيب أن هذه الخطوة قد تمثل تهديداً مباشراً للأردن أكثر من كونها تهديداً لإسرائيل.

التحليل الإسرائيلي

بحسب رسائل عدة من المسؤولين البريطانيين، بما في ذلك السير فرانسيس روندال الذي كان يشغل منصباً في تل أبيب، كانت إسرائيل ترى أن استخدام القوة العسكرية ضد قطاع غزة في تلك اللحظة غير مرجح، وكان هناك اعتقاد سائد بأن مثل هذه الخطوة تهدف بصورة رئيسة إلى إحراج الأردن وليس إسرائيل، وذكر المسؤولون الإسرائيليون أن التحركات العسكرية في المنطقة، بما في ذلك الأنشطة العسكرية المصرية في سيناء، كانت تهدف إلى توجيه ضغوط على الدول العربية الأخرى، وبخاصة العراق والسعودية، قبل التفكير في تحركات ضد إسرائيل.

 

الموقف الأردني

في الثامن من أبريل عام 1958، أرسلت وزارة الخارجية البريطانية في عمّان تقريراً من تشارلز جونستون يشير إلى أن موقف الملك حسين وسمير الرفاعي في شأن احتمال ضم قطاع غزة إلى الجمهورية العربية المتحدة كان غير مبال، فوفقاً لهذه الردود لم يُظهر الملك حسين أي قلق كبير تجاه هذا الاحتمال، مشيراً إلى أن تأثير هذه الخطوة سيكون محدوداً في الضفة الغربية، وكان الملك حسين يؤمن بأن وجوده في الضفة الغربية في ذلك الوقت ثابت على رغم الضغوط الداخلية والخارجية.

وجاءت تفاصيل إحدى الوثائق من السفارة البريطانية في عمّا والتي حملت طابعاً سرياً ومهرت بتاريخ الـ 14 من أبريل عام 1958 كالتالي، "عزيزي ويليام، أشكرك على رسالتك المؤرخة في الـ 20 من مارس حول احتمال دمج قطاع غزة في الجمهورية العربية المتحدة، لقد تأخرت في الرد لأنني أردت مناقشة هذه النقطة بصورة غير رسمية مع الملك حسين وسمير الرفاعي لمعرفة رأيهما"، مضيفاً "لقد قمت الآن بذلك مع كل منهما على حدة، ووجدت أن كلاً منهما لم يكن متأثراً بالفكرة، وقال الملك إنه يعتقد أن تأثير أية خطوة من هذا النوع سيكون ضئيلاً عملياً على رأي غرب الأردن، وأضاف أن ناصر وحاج أمين أصبحا الآن على خلاف علني، ونتيجة لذلك فقد خسر كلاهما كثيراً من الأرض في غرب الأردن أخيراً، وكان رد فعل سمير الرفاعي هو نفسه".

وبحسب الوثيقة فقد أوضحت أنه "على رغم إعجابي بصلابة أعصاب الملك حسين ومستشاريه، لكن توجد أوقات يتجاوزان فيها صلابتهما إلى درجة من الرضا عن الذات، ولكن في هذه المسألة أعتقد أنهم على الأرجح على صواب ولا يزالون يسيطرون بالكامل على الوضع في الضفة الغربية كما في أماكن أخرى، وقرارهم الإفراج عن دفعتين كبيرتين من المعتقلين السياسيين والتي بدأ الإفراج عن أولئك المعتقلين منهم بالفعل (سنرسل تقريراً منفصلاً عن هذا) هو في رأيي ليس فقط علامة على الثقة من قبل الحكومة، ولكنه يشير إلى تحسن حقيقي في الوضع، والشيء نفسه ينطبق على الموقف الأردني المنفصل تجاه عودة الفرقة السعودية الموجودة حالياً في وادي الأردن، فهذا يدل على تغير كبير في الوضع مقارنة مع العام الماضي عندما لعبت القوات السعودية دوراً أساساً في تهدئة الضفة الغربية بعد الأزمة".

واختممت الوثيقة "أرسل نسخاً من هذه الرسالة إلى بوب ديكسون وتوني روندال، كما أرسل نسخة من المراسلات إلى تشارلز ستيوارت في حال رغب في التعليق، مع خالص التحية، تشارلز جونستون (C.H. Johnston)"

 

الردود الدولية

من جهة أخرى كانت الأمم المتحدة التي كانت تلعب دوراً في إدارة أزمات المنطقة على وشك اتخاذ موقف حاسم، وفي رسالة أخرى بتاريخ الـ 27 من مارس عام 1958، أشار السير بييرسون ديكسون إلى أهمية تأثير التغييرات القانونية في قطاع غزة، مثل احتمال ضمه إلى الجمهورية العربية المتحدة، على وجود قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة، وهو ما كان سيغير بصورة جذرية الوضع القائم في القطاع وخصوصاً في ما يتعلق بوضع القوات الأممية.

وكان الأمين العام للأمم المتحدة داغ هامرشولد في موقف حساس تجاه هذه المسألة، فعلى رغم أن موقفه الرسمي كان متحفظاً لكنه كان يدرك أن تغيير الوضع في غزة قد يؤدي إلى تعقيدات كبيرة في عمل القوات الأممية، وكان من الممكن أن يشكل ذلك حافزاً لانسحاب القوات الأممية من القطاع، وهو ما كان سيؤدي إلى مزيد من التوتر في المنطقة.

التوقعات البريطانية والأمريكية

إلى ذلك كان الرد البريطاني على هذه التطورات يتسم بالحذر، ففي رسالة دبلوماسية في الـ 13 من مايو (أيار) 1958، أشار المسؤولون البريطانيون إلى أن هناك انقساماً في الآراء حول احتمالات نجاح فكرة إعلان دولة فلسطينية في غزة، بينما كان بعض المسؤولين يتوقعون ردود فعل سلبية من قبل إسرائيل والدول الغربية، وكانت هناك شكوك في شأن مدى تأثير هذه الخطوة في الرأي العام الفلسطيني والعربي.

وفي مايو عام 1958 أعلنت وكالة الأنباء المصرية تعيين اللواء أحمد سليم رئيساً لإدارة الجيش في قطاع غزة، وكان هذا التعيين جزءاً من الإجراءات المصرية لتوحيد إدارة القطاع، في وقت كانت مصر تسعى إلى تعزيز سيطرتها على غزة في إطار توجهاتها الإقليمية.

المزيد من تقارير