ملخص
وبحسب ما كتبه شليزنجر، فعندما "تأسست وكالة الاستخبارات المركزية عام 1947، عمل بعض الضباط متخفين من خلال التظاهر بأنهم موظفون في وزارة الخارجية، وهي ممارسة كان من المفترض أن تكون موقتة ومحدودة. لكنها استمرت لأنها كانت أرخص وأسهل وضمنت حياة أكثر متعة لموظفي وكالة الاستخبارات المركزية"
من بين الموضوعات التي كانت لافتة في الوثائق الأميركية المفرج عنها أخيراً بقرار من الرئيس دونالد ترمب، هو ما كشفت عنه من بعض "التداخل والاضطراب" بين أجهزة الدولة الأميركية، لا سيما على صعيد العمليات الخارجية بين وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية "سي آي أي" خلال فترة الحرب الباردة.
وإلى جانب مئات السجلات والوثائق المتعلقة باغتيال الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي، وهي تلك الحادثة التي بقيت لغزاً على مدار عقود مضت، كشف عدد من الوثائق بعضاً من جوانب عمل وكالة الاستخبارات المركزية وبرامجها السرية حول العالم، لا سيما تلك المتعلقة بكوبا وإيران وغواتيمالا والاتحاد السوفياتي وغيرها، فضلاً عن تضارب عملها مع وزارة الخارجية بل والعمل عليها، وعدم ثقة جون كينيدي بها في بعض الأحيان.
وتضمنت الوثائق الجديدة المفرج عن سريتها 1123 وثيقة بصيغة "بي دي أف"، شملت تقارير مكتوبة بالآلة الكاتبة وملاحظات بخط اليد، وكان معظمها أقصر من 10 صفحات. وعلى رغم أن الرئيس ترمب صرح الإثنين الماضي بأن الوثائق ستنشر دون أية تنقيحات، لكن مراجعة مبكرة أظهرت أن بعض المعلومات قد جرى حجبها، وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز".
"دولة داخل الدولة"
وفق إحدى الوثائق الأميركية، وهي جزء غير منقح من مذكرة للرئيس مكونة من 15 صفحة عام 1961، أعرب أحد مساعدي جون كينيدي عن قلقه من أن ضباط وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) المتمركزين في السفارات حول العالم كانوا يقوضون سلطة وزارة الخارجية.
المذكرة التي عنونت بـ"إعادة تنظيم وكالة الاستخبارات المركزية"، كان قد كتبها آرثر شيلزنجر الابن، المساعد الخاص للرئيس كينيدي، بعد وفترة وجيزة من غزو خليج الخنازير الفاشل، وأثارت كثيراً من المخاوف في شأن استقلالية وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وسلطتها، إذ قال شليزنجر إنها "تحمل كثيراً من خصائص الدولة داخل الدولة"، وغزو خليج الخنازير عملية عسكرية فاشلة نفذتها واشنطن عام 1961 لإطاحة النظام الشيوعي في كوبا، مستخدمة مئات من المنفيين الكوبيين في أميركا ممن دربوا وسلحوا على يد "سي آي أي".
كذلك تضمنت المذكرة الرئاسية تلك التي كتبها شليزنجر تحذيراً لافتاً للرئيس من تزايد قوة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وتهورها، وأنها تدير سياستها الخارجية الخاصة خارج سيطرة الحكومة الأميركية. قائلاً في المذكرة "لدى وكالة الاستخبارات المركزية جيشها الخاص وقواتها الجوية الخاصة، والعمليات السرية تشكل السياسة الأميركية، دون موافقة رئاسية. وإيران وغواتيمالا وكوبا خير دليل على ذلك. والحروب السرية الفاشلة - مثل خليج الخنازير - تكلف أميركا صدقيتها وتعزز الشيوعية"، مقارناً بين عملها وعمل أجهزة استخبارات أخرى حول العالم، إذ قال "تعمل الاستخبارات البريطانية (أم أي 6) تحت رقابة صارمة، بينما تعمل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية دون رادع، إنها حكومة داخل حكومة".
ووفق تاريخ كتابة مذكرة شليزنجر فإنها كتبت بعد فترة وجيزة من تنظيم وكالة الاستخبارات المركزية لعملية غزو خليج الخنازير الفاشلة لإطاحة فيدل كاسترو في كوبا، ويشير شليزنجر إلى أنه كان قلقاً من أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت تصنع السياسة الخارجية بصورة فعالة، بدلاً من اتباع الأوامر.
"تقويض" سلطة الرئيس
ولم يتوقف نقد مساعد الرئيس حينها لدور وكالة التجسس الأميركية المتزايد والواسع، إذ وصف في نحو صفحة ونصف الصفحة، كيف أن ما يقارب 1500 موظف مفترض في وزارة الخارجية كانوا في الواقع ضباطاً سريين في وكالة الاستخبارات المركزية، بل عملوا أحياناً على خلاف مع سفراء الولايات المتحدة.
وكتب شليزنجر أن ما يقارب نصف الموظفين السياسيين في السفارات الأميركية، الذين كانوا مسؤولين عن فهم سياسة البلدان المستضيفة وتقديم المشورة في شأنها، كانوا يعملون لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية.
وبحسب ما تقول صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإن تلك المعلومات الجديدة تشير إلى أنه خلال وقت مبكر من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقاً، كان القادة الأميركيون يشعرون بالقلق من أن "سي آي أي" كانت تتمتع بسلطة مستقلة أكثر من اللازم في العمليات السرية بالخارج، وأن هذا يمكن أن يؤدي إلى "تآكل سلطة الرئيس".
وبحسب ما كتبه شليزنجر، فعندما "تأسست وكالة الاستخبارات المركزية عام 1947، عمل بعض الضباط متخفين من خلال التظاهر بأنهم موظفون في وزارة الخارجية، وهي ممارسة كان من المفترض أن تكون موقتة ومحدودة. لكنها استمرت لأنها كانت أرخص وأسهل وضمنت حياة أكثر متعة لموظفي وكالة الاستخبارات المركزية"، موضحاً "في باريس، على سبيل المثال كان 128 من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية يعملون في السفارة. حتى إن وكالة التجسس سعت إلى قطع اتصال وزارة الخارجية ببعض السياسيين، بما في ذلك زعيم رئيس في البرلمان" وفقاً للمذكرة.
"عدم ثقة" بين أجهزة الدولة
ورداً على ما ورد في تلك الوثيقة، نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عن أستاذ التاريخ في جامعة ييل والخبير في العلاقات الخارجية الأميركية جريج جراندين قوله، إن "السرية في الخارج ساعدت بمرور الوقت على تعزيز عدم الثقة في الداخل"، موضحاً أن مذكرة شليزنجر تظهر أن قادة الحرب الباردة الذين ساعدوا في تأسيس دولة الأمن القومي كانوا يعلمون أن ذلك كان خطراً. وأضاف "لا يمكن لهذه المؤامرات في السياسة الخارجية إلا أن تسهم في تعزيز الشعور بأن الحكومة منحرفة بصورة ما". موضحة أنه في حين أن الحكومة الأميركية أبقت هذه المعلومات سرية لعقود، إلا أن المذكرة توضح أنها لم تكن سراً في ذلك الوقت.
وتضيف الصحيفة أنه لم تكن الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة التي استخدمت المواقع الدبلوماسية كغطاء لجواسيسها خلال الحرب الباردة، لكن مذكرة شليزنجر قالت إن "الأنشطة السرية" لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في الخارج يمكن أن "تهدد" المبادئ والممارسات الأميركية.
ومن جانبه، قال جيفرسون مورلي مؤلف عدد من الكتب عن وكالة الاستخبارات المركزية، إنه في حين أن معظم المذكرة ناقشت المبادئ والأفكار السياسية، فإن القسم الذي نُقح سابقاً تناول بالتفصيل الأنشطة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية. وبدلاً من حماية معلومات الأمن القومي الحساسة، قال إن التنقيحات كانت "لإنقاذ وكالة الاستخبارات المركزية من الإحراج والانتقادات".