ملخص
في روايته الجديدة "الراقص الشرقي" (دار غراسيه، باريس)، التي تشكل الجزء الأول من"ثلاثية القسطنطينية"، يعود متين أرديتي إلى جذوره التركية. هذا الروائي الذي يوصف بأنه سويسري فرنكوفوني من أصل تركي، يقدم للقراء رواية تعكس تاريخاً حافلاً بالتحولات والتناقضات. أرديتي، المولود في أنقرة والذي بلغ الـ80 من عمره، يكشف عن لوحة قديمة وبديعة لمدينة القسطنطينية، إسطنبول حالياً، ما بين 1912 و1935، وهي الحقبة التي شهدت تغييرات جذرية في تركيا.
بدءاً من الصفحات الأولى، تقدم رواية "الراقص الشرقي" مجموعة واسعة من الشخصيات، مما قد يشعر القارئ بالحيرة في البداية، لكن هذا التعدد يعكس تنوع المجتمع وثراءه في القسطنطينية آنذاك. يعرض الكاتب خريطة للشخصيات في مطلع الرواية، وهم مجموعة من الأفراد المنتمين إلى خلفيات متنوعة، يهود وأرمن ويونانيين وغيرهم، من الذين أسهموا في تشكيل الطابع الكوزموبوليتاني للمدينة. لكن، على رغم دورهم الفاعل في الحياة الثقافية والاقتصادية، فإنهم لم يعتبروا أبداً أتراكاً بالكامل، وهو تناقض ظل حاضراً طوال الرواية.
تناقضات العصر
تتشابك أحداث العصر إزاء أمبراطورية عتيقة، وولادة الجمهورية التركية الحديثة تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي قام بإصلاحات جذرية، مثل إعلان العلمانية، ومنح المرأة حق التصويت، وإحلال الأبجدية اللاتينية محل العربية. هذه التغييرات، التي شكلت ثورة حقيقية، يجري تصويرها بدقة من خلال عيون شخصيات الرواية، بينما يظل مسرح الأحداث مدينة إسطنبول، التي شهدت تحولات جذرية في هويتها. لنقرأ هذا الوصف لآخر السلاطين العثمانيين: "كان وحيد الدين جالساً في مكتبه، يواجه البوسفور، ذقنه على صدره وساقاه ممدودتان، يغط في النوم.
لقد اعتاد، ليلة بعد ليلة، أن يشاهد خلال النهار انهيار إمبراطوريته. لم يكن يفعل شيئاً سوى تلقي الإهانات من زوجته نيفارا، والنعاس، والارتجاف عند سماع أبواق أساطيل الأعداء. كان هناك روتين كئيب قد ترسخ منذ وصول السفن المعادية إلى البوسفور، في كل مرة، حين يمر أحد قواربهم أمام القصر، يطلق صافرات الاستهزاء أربع أو خمس مرات، كما لو كانوا يقولون: استيقظوا، حان وقت الرحيل! يا لها من فكرة أيضاً! لقد قام أحد أجداده ببناء هذا القصر على ضفاف المضيق، مثل دجاجة بالكريمة المخفوقة معروضة للنهب لأول قادم. أيقظته سلسلة من أبواق السفن، مستنداً على ذراعي كرسيه، رفع نفسه قليلاً ونظر إلى البوسفور، فرأى مؤخرة سفينة بريطانية. قال لنفسه: "هؤلاء الأوغاد، الإنجليز! لقد كانوا حلفاء الأتراك عندما كان ذلك يناسبهم، كما في حرب القرم، حين كان جنودهم الجرحى يتلقون العلاج في مستشفيات القسطنطينية. لكن ذلك كان قبل 50 عاماً. كانت الصفعة متوقعة، قبل 15 يوماً فقط، كان على الإمبراطورية أن تبتلع كبرياءها وتوقع الهدنة. الإمبراطورية العظيمة، الإمبراطورية العثمانية المجيدة، تحولت إلى مجرد بساط ممسوح".
هكذا نرى السلطان وحيد الدين، وهو يعيش أيامه الأخيرة في قصر دولمة بهجة. يتذكر زواجه من نيفارا، بعد وفاة أخيه، ليجد نفسه فجأة سلطاناً لإمبراطورية تتداعى، غير مؤهل لمواجهة تحدياتها، شغفه الوحيد يكمن في "السرنامة"، كتاب ضخم يضم 500 منمنمة نادرة تحتفي بـ50 يوماً وليلة من احتفالات تعود لعام 1582، أيام مجد العثمانيين. يسعى وحيد الدين إلى استعادة الصفحات المفقودة من هذا العمل الفني، كمحاولة رمزية لاستعادة مجد الإمبراطورية، عبر الاستعانة بتجار البازار مثل سبيرو ودانيلو، لكنه يقع ضحية خداعهم في النهاية.
حرص الكاتب على تقديم وصف دقيق للغالب والمغلوب، من خلال شخصية الجنرال ديسبري، قائد الجيوش الحليفة، يصور علاقته مع سائر الشخصيات، ورؤيتهم له، كيف يسير بفخر على حصانه من طرف إلى آخر في شارع بيرا، تماماً كما فعل محمد الفاتح قبل قرون عندما دخل المدينة فاتحاً. أما السلطان وحيد الدين، يتأمله مغتماً وهو يفكر: هذا الوغد ديسبري، هل كان يطمح إلى غزو القسطنطينية؟ ومن كان يصفق له بينما يجوب شارع بيرا؟ الأقليات: اليونانيون، الأرمن، الأوروبيون، أولئك الذين احتضنتهم الإمبراطورية لقرون عدة، الذين كانت أعلامهم معلقة على شرفات منازلهم، وكانوا يحتفلون بإذلال الأتراك. أليست هذه قمة الجحود؟
المصارع الراقص
البطل المحوري الذي تشير إليه الرواية "بالراقص" هو غولغول، ذو أصول مختلطة، يعمل والده طاهياً في قصر "دولمة بهجة"، ويقع عليه الاختيار ليكون رياضياً مصارعاً في قصر السلطان. لنقرأ: "كان أحمد يعلم دائماً أن غولغول لن يُفلت من عين صبري، منذ أن كان في الرابعة من عمره، كان الطفل يرفع أكياس الفستق التي تزن خمسة كيلوغرامات وهو يبتسم. وفي الثامنة، كان يحمل كميات من البندق تزن 20 كيلوغراماً وكأنه يتسلى، لدرجة أن أحد الحلوانيين أطلق عليه يوماً ما لقب "غولغول"، وبقي هذا اللقب ملازماً له. جادل الأب صبري قائلاً: "أعتقد أنك ترتكب خطأ، صحيح أن ابني يتمتع بقوة استثنائية، لكنه لن يصبح أبداً مصارعاً جيداً. إنه جبان، نشأ بين النساء".
أما صبري، فهو من إحدى الشخصيات الرئيسة، الذي يتمثل عمله في تحويل مصائر الأولاد، من خلال العثور على أقوى الأطفال بين أبناء الموظفين، بمجرد بلوغهم التاسعة من العمر، كي يصنع منهم أبطالاً في المصارعة. كل صباح، بعد المدرسة، كان يخضعهم لساعة من التمارين البدنية، تليها ساعة من التدريب على القتال. وفي المساء، كان يصطحبهم إلى إحدى القاعات في الطابق الثاني، حيث كانوا يرتدون سراويل جلدية ضيقة مصنوعة من جلد البقر حتى الركبتين، ويغطون أجسادهم بزيت الزيتون، ثم يتبارزون أمام ضيوف السلطان.
لا يتأخر الكاتب عن كشف السر، كي نعلم أن غولغول هو الابن الخفي للخطاط الشخصي للسلطان، ولد لأب يهودي اعتنق الإسلام وأم أرمنية مسيحية، نحيف وذو جمال نادر، ربما أراد أرديتي من اختيار هذه الشخصية أن يرمز إلى عالمية الإمبراطورية المنتهية. يتورط غولغول رغماً عنه في قضية تزوير غامضة، دبرها له تجار من البازار. لذا يجري إبعاده عن القصر، وتعيينه في حراسة أحد بيوت الدعارة، حيث أعجبت به العاهرات وشاركن معه أوقاتهن، كما علمنه الرقص الشرقي، بل إنه حين يتنكر مرتدياً زي امرأة، يبدو متفوقاً عليهن في الرقص، ومن هنا جاء عنوان الرواية، على رغم أنه لا يوجد سوى فقرات قليلة عن هذا الأمر.
مع تحول الإمبراطورية إلى جمهورية، تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي يدفع بموجة تحديث قسرية، يعود غولغول للواجهة كبطل وطني في المصارعة، يقدم نفسه كنجم في الأولمبياد المقبلة في برلين. لكن مصيره لا يقف عند الرياضة، إذ يصبح مفتاحاً في إحباط مؤامرة لاغتيال أتاتورك، وهكذا يكتسب إعجاب الزعيم الجديد. وسط هذه التحولات، تنشأ قصة حب غير متوقعة بينه وبين بيلا، امرأة من الطبقة البرجوازية تكبره سناً، تضيف بعداً عاطفياً لرحلته المضطربة. يجسد غولغول انقسامات تركيا الحديثة وتناقضاتها، ويصبح رمزاً للإمبراطورية، الممزقة بين التراث العثماني والإصلاحات الراديكالية لأتاتورك. يركز أرديتي على مسار غولغول الشخصي، ومعه تصل الرواية إلى ذروتها، لأن الكاتب أراد أن يقدم تأملاً عميقاً في قضايا الهوية والانتماء، يلي ذلك استطراد طويل عن الصعوبات التي واجهتها الأقليات الثلاث التي عاشت في القسطنطينية لقرون عدة: المجتمعات اليهودية والأرمنية واليونانية التي تواجه صعود القومية التركية.
إمبراطورية آفلة
تميزت الرواية بإيقاع سريع ومليء بالأحداث، يشبه إلى حد ما عرض الدراويش الدوارين، الحبكة متشعبة بعض الشيء، إلا أن هذا التشعب والإيقاع المحموم يسهم في غوص القارئ بصورة كلية في العالم التركي. إذ بين فن الخط الرقيق وأسرار القصور وبيوت الدعارة، وبين حلبة الرياضة القومية والمؤامرات السياسية، ترسم رواية "الراقص الشرقي" صورة ساحرة للإمبراطورية الآفلة. كما أن النهاية المفاجئة للرواية تترك المجال مفتوحاً للجزء الثاني من الثلاثية، الذي يتوقع أن يستكشف العلاقة بين تركيا وألمانيا النازية، فالجزء الأخير ينتقل بين إعداد المصارعين لدورة الألعاب الأولمبية في برلين، ومؤامرة فاشلة استهدفت كمال أتاتورك.
لقد تمكن الكاتب، عبر التقاط جوهر حقبة تاريخية مؤثرة في مدينة تمر بتحولات جذرية، أن يقدم ملحمة تاريخية وإنسانية مليئة بالألوان والتفاصيل، التي شكلت مصائر إمبراطوريات القرن الـ20، سواء في الانهيار أو الصعود.
الجدير بالذكر أن متين أرديتي ألف عدداً من الروايات، من بينها "التوركيتو" دار أكت سود، 2011، و"الطفل الذي قاس العالم" دار غراسيه، 2016، "الرجل الذي رسم الأرواح" دار غراسيه، و"أنت يا أبي" دار غراسيه، 2022، "لقيط الناصرة" دار غراسيه، 2023. وحصل على جوائز عدة، منها جائزة البحر الأبيض المتوسط، وجائزة الجامعة الكاثوليكية الغربية وجائزة مكيافيل.