Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

سيرة متخيَّلة لراهب قبطي عشية الفتح العربي لمصر

"سقوط أوراق التين" رواية مينا عادل جيّد تبحث في تاريخ شبه منسي

إحدى أقدم المخطوطات القبطية (أ ف ب)

ملخص

يقدم مينا عادل جيِّد في روايته "سقوط أوراق التين" (الدار المصرية اللبنانية) سيرة متخيَّلة لراهبٍ عاش في القرن السابع الميلادي، منسوبة إلى تلميذ له، كتبها بالقبطية، وتولى ترجمتها إلى العربية "بتصرف" كاتب افتراضي.

في رواية "سقوط أوراق التين" يرى الكاتب الإفتراضي في هذه السيرة "مسودة رواية جاهزة للنشر حتى قبل ظهور فن الرواية في أوروبا"، ولم تخل تلك "الترجمة" من إسقاطات على الحاضر، خصوصاً في ما يتعلق بـ "طوفان الأقصى" وتبعاته، المتصلة منذ 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023 وحتى الآن، وإن جاءت على نحو بدا مقحماً، على نسيج مشغول أساساً بمفهوم الرهبنة الذي صدَّرته مصر إلى العالم المسيحي.  

الرواية، التي عثر عليها "مترجمُها" مصادفة، هي عبارة عن سبع مخطوطات، كانت مخبأة في بيت قديم في إحدى قرى صعيد مصر، وترجع وفق "كاتبها" الراهب إسطفان السمنودي إلى "شهر برمودا من سنة 641 من ميلاد مُخلِصنا يسوع المسيح". القرية وفقاً لتلك المخطوطات كان اسمها أنتينوبوليس (مدينة أنتوني)، في زمن هيمنة الرومان، وهي بحسب "المترجم"؛ "قرية الشيخ عبادة، جنوب محافظة المنيا حالياً". ويلاحظ أن هذا التاريخ هو نفسه تاريخ الفتح العربي لمصر، الذي مهد لتحولها إلى دولة إسلامية، وفي هذا دلالة لا تخفى على أننا بصدد حقبة وجد فيها الأقباط أنفسهم أمام مفترق طرق يحتم عليهم التوثيق لديانتهم وقديسيهم، فتتالت كتاباتهم المؤرخة لأحوالهم ولأحوال بلدهم بصفة عامة، وهو ما ظهر لاحقاً في كتابات مؤرخين مسيحيين باللغة العربية، منهم يوجنا النقيوسي وساويرس بن المقفع، على سبيل المثال.  

جذور الرهبنة

تُستَهل الرواية بالاقتباس التالي من سِفر التكوين: "فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر"، وهو يرتبط على نحو واضح بعنوان العمل، الذي يرمز لحيرة الإنسان حتى ولو كان متديناً، إزاء كينونته، المجبولة على الوقوع في الخطأ، والسعي في الوقت ذاته على تجنبه ما أمكن. ويلي ذلك اقتباس آخر من كتاب "بستان الرهبان: "قال القديس أنطونيوس: يجيء زمان يُجَن فيه جميع الناس، وإذا أبصروا واحداً لم يُجَن يذيعون عنه بأنه مجنون لأنه لا يشبههم". وهذا الكتاب هو "التاريخ اللوسي لبالاديوس ويعرف بفردوس الآباء، ويعتبر من عيون أدبيات آباء الصحراء في الحقبة الخاصة بنشوء الرهبنة في مصر.

وهو - أي ذلك الاقتباس – يتسق كذلك مع ما تؤكده رواية جيد فيما يخص وعورة درب الرهبنة، مقارنة بالدروب الآمنة نسبياً الت يحيا في ظلها عموم الناس. أما القديس أنطونيوس أو أنتوني (251-356م) فهو من مبتدعي الرهبنة الأوائل، وكان أول من ترك العالم وعاش في الصحراء كراهبٍ، وصار له تدريجياً أتباعٌ عاشوا كنُساكٍ على مقربة منه، منهم بولا، الذي نظر إليه أنطونيوس نفسه باعتباره "نموذجاً مثالياً للراهب الناسك". وووفقا لويكيبيديا، فإنه بانتشار الرهبنة من قِبل الناسكين المقيمين في صحاري مصر، إلى فلسطين وسوريا، وإلى داخل آسيا الصغرى وما بعدها، "سُجلت الأقوال والأفعال الخاصة بآباء الصحراء وعُممت، بدايةً بين أقرانهم الرهبان وبعدها بين العامة أيضاً".

كسر الإيهام

وسبقت أحداث "الرواية"، "كلمة المترجم"، بتوقيع مينا عادل جيد نفسه، وبتاريخ 30 يونيو / حزيران 2024، وفيها توضيح لملابسات العثور على المخطوطات السبع والشروع في ترجمتها من القبطية إلى العربية. ومنها سيعرف القارئ أن "المترجم" هذا يعمل في مؤسسة تنموية عريقة، يتمحور نشاطها في قرى "منسية" في صعيد مصر. وإلى جانب عمله هذا، فإنه مولع بالعمل على "حفظ جزء من ثقافة أصيلة وخلابة من الاندثار"، عبر تصوير أبواب البيوت القديمة، ويقرأ من خلال الباب "الزمن وجانباً من تصوراتهم (يقصد مَن سكنوا تلك البيوت) عن أنفسهم، ومجتمعهم، وعن الكون وخالقه" ص 8. وهو أيضاً "روائي". أما البيت الذي خبئت فيه المخطوطات السبع، فيقع في قرية تابعة لمحافظة المنيا؛ "كل سكانها مسلمون، وليس بها بيت واحد للأقباط". لاحظ صاحبنا أن باب البيت كان عتيقاً، ويبدو وكأنه كان في الأصل باب دير، أو "كأنه مصنوع من الزمن". همَّ بتصويره، عندما خرجت من البيت امرأة في نحو السبعين من عمرها، ودعته إلى الدخول، فلبى الدعوة متوجساً.

كان ذلك يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 2023. العحوز أرادت أن يساعدها في التعرف على ما في هذه الأوراق، لتفهم لماذا دفنها أبوها في الحائط، فوعدها بأن يفعل وطلب منها أن تمهله بعض الوقت. وبعدما فحص تلك الأوراق، مستعيناً بإلمامه باللغة القبطية، وجد أنها سيرة راهب عاش بين القرنين السادس والسابع الميلاديين، كُتِبت بعد رحيله بنحو عشرين عاماً من قِبل تلميذ له؛ "رحلة عجائبية من نوع مصري / قبطي، شديد الخصوصية والفرادة، مع بعض همسات وجودية وعبثية" ص 13. بعد عثوره على هذا الكنز، اضطر صاحبنا للسفر إلى باريس في مهمة عمل تستغرق ثلاثة أشهر، فانتهز تلك الفرصة ليشرع في ترجمة المخطوطات السبع، "وفي أثناء ذلك كنت أتواصل بشكل شبه يومي مع الفرير روجيه إكزافيه، العلَّامة في القبطيات. أجاب عن جميع استفساراتي الخاصة بالترجمة بكل اهتمام وتعاون ومحبة وتشجيع. لولاه ما خرجت تلك المخطوطات للنور أبداً بالشكل الذيهي عليه الآن". وبهذه "الكلمة" التي جاءت في 12 صفحة، نجح مينا عادل جيد في إسباغ طابع واقعي على سرديته، فكسر الإيهام، بلغة المسرح.            

النموذج الضد

تقدم رواية مينا عادل جيد نموذجاً غير مثالي، إذا جاز التعبير، لشخص قرر الرهبنة ومارسها لنحو خمسين عاماً، من دون أن يصل إلى مبتغاه وهو بلوغ الفردوس حياً. وهو مبتغى لا علاقة له بحقيقة الإيمان المسيحي الذي يقر بأنه لا سبيل لبلوغ الفردوس والتنعم به إلا بعد الموت. فسيرة "الأب شيشاي"، فهي بحسب تمهيد كاتبها، "لا تستحق التدوين في القراطيس؛ لأن الحماقة فيها ربما تغلب القداسة مع الأسف" ص 21. غير أن الراهب "هدرا إسطفان السمنودي"، وجد" بعد تأمل السنين، "أننا لدينا العديد من سير الرهبان الأوائل في برية مصر، المجاهدين، القديسيت، الحكماء الأبرار، الذين ينعمون بالفردوس الآن وإلى أبد الآبدين آمين، غير أننا ليس لدينا بيان لأولئك الذين جاهدوا، وحاولوا، إلا أن الشيطان أسقطهم مع الأسف، أو وصل لنا خبرهم بأشد اختصار يشوبه خجل وكأنها سير لا تستحق أن تدوَّن".

اقرأ المزيد

ومن ثم فإنه وهو في نضج منتصف العمر، بحسب تعبيره، وجد أن سيرة السقوط لا تقل أهمية عن سيرة القداسة والنجاة إلى فردوس الخلاص؛ لأننا حين نعرف الطريق الذي يُضل، نتجنبه، ومعرفته مفيدة كما هي مفيدة معرفة الطريق الذي يصل بنا إلى بر الخلاص بأمان". ويمكن القول ان مينا عادل جيد، نجح، في تقديم روايةٍ بلغة تحاكي لغة الأدب المسيحي القديم، وتلفت من ثم الانتباه إلى أهمية إحيائه في وقتنا الراهن. لكنه ترك الكثير من المفردات ذات الصلة الوثيقة بالعقيدة المسيحية الأرثوذسكية، من دون توضيح معانيها للقارئ العام، ولو حتى في هوامش كان يمكن أن تذيل الصفحات أو أن يشملها ملحق توضيحي في نهاية العمل الذي جاء تخييلياً بامتياز، رغم اتكائه على صيغة تأريخية توثيقية.

طوفان الأقصى!

جاء السرد في هذه الرواية بضمير الغائب، على اعتبار أن السارد هنا هو نفسه ناسخ المخطوطات في أحد الأديرة المصرية، الراهب هدرا إسطفان السمنودي، الذي كان على الدين المصري القديم في طفولته قبل أن يتحول إلى المسيحية، بعد مقتل والده الصياد الفقير على أيدي غوغاء من "الوثنيين"، وهو يدافع عن الأب شيشاي، الذي اتهمه هؤلاء بممارسة أعمال السحر ليفسد عليهم طقوسهم الدينية. واتخذ السرد شكلاً دائرياً فهو يبدأ بالأيام الأخيرة في حياة "شيشاي" الذي قرر الترهبن، قبل أن يكمل العشرين من عمره، بعدما رفضت الفتاة التي يحبها الاقتران به لضعف إيمانه المسيحي، بحسب زعمها، وتنتهي بسرد تفاصيل احتضاره وهو في نحو السبعين من عمره، بعدما فشل في محاولة ذبح الصبي "هدرا"، قرباناً للرب، ولينال "كرامة إبراهيم"، بحسب رؤية ظنَّ أنها أمرٌ إلهي!

وفي رحلته الطويلة، عاش "شيشاي" أهوالاً، على نحو فانتازي، منها مثلاً، أنها دخل ذات ليلة معبداً قديماً كان لدين المصريين، وعند منتصف الليل وجد التماثيل تتحرك، لتتحول إلى جوقة شياطين يسرد كل واحد منهم "إنجازه" في وم واحد، ومنهم واحد يدعى بليعال، تفاخر بأنه نزل الأرض التي من المفترض أن تكون واحة سلام، وألقى في قلب فرقة من أهلها خطيئة قلة الحكمة وعدم حساب العواقب، فاقتحموا حدود سيادة المحتل لأرضهم، وخطفوا منه نساء وأطفالاً ورهائن وأهانوا القوي في كبريائه، فهاج المارد الهمجي ليثأر لكرامته، وأقام حرباً وحشية ليبيد بلد الثوار" ص 163.

وهنا لن يجد القارئ صعوبة في أن يدرك أنه بصدد إسقاط خارج السياق العام للرواية، على عملية "طوفان الأقصى"... "أما الثوار فاختبأوا تحت الأرض وتركوا شعبهم في مواجهة المارد الغاضب المجنون (...) قتلوا منهم خمسين ألف نسمة نصفهم من الأطفال وربعهم من النساء (...) وما زالت الحرب باقية".                            

المزيد من ثقافة