Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

مذكرات الموسيقي الحلبي سامي الشوا تشهد على عصر ذهبي

"أمير الكمان" الذي تألق في القاهرة يروي سيرته الذاتية ووقائع مجهولة

سامي الشوا "أمير الكمان" (من الكتاب)

ملخص

رغم مرور 60 عاماً على رحيل سامي الشوا، عازف الكمان المصري المتحدر من أصول سورية، فإنه لا يزال حاضراً، في المشهد الموسيقي العربي، سواء من خلال تسجيلاته الموسيقية الشرقية على الشبكة العنكبوتية، أو من خلال الأخبار المتداولة عن براعته في العزف، أو من خلال منحه الكمان هوية موسيقية عربية، أو من خلال إحياء ذكرى مرور نصف قرن على رحيله، في عام 2014.

لعل آخر تجليات حضور سامي الشوا يتمثل في صدور مذكراته أخيراً، عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، بعنوان "مذكرات بلا رتوش"، بإشراف الباحث الكويتي أحمد الصالحي الذي يحقق المذكرات، ويصدرها بمقدمة ضافية، يعرض فيها لمحات من حياة الموسيقي ومقتطفات من مذكراته.

 تشمل المذكرات سيرة صاحبها الذاتية، وتحدره من عائلة موسيقية عريقة، وتعالقه مع كبار الساسة والفنانين والشعراء، والتكريمات التي حظي بها، ومرجعيته الفنية والموسيقية، مما يجعل منها شهادة على العصر، ونافذة على العالم، ووثيقة تاريخية وموسيقية، وليست مجرد  سيرة ذاتية لصاحبها، وفق ما يشير إليه المحقق في المقدمة التي يروي فيها كيفية العثور عليها من قبل شريكه في الاهتمام بسامي الشوا الباحث الموسيقي مصطفى سعيد، لدى الإعلامية مشيرة كامل، وقد وجدتها ضمن مقتنيات والدها المؤرخ الموسيقي محمود كامل.

ويذكر الحال التي كانت عليها قبل التحقيق لجهة سقوط صفحات منها، والصعوبات التي واجهته خلاله، والآليات التي اعتمدها فيه، والمصادر التي استعان بها لتدارك الناقص من المعلومات والساقط من الصفحات، مما يعكس حجم الجهد الذي بذله المحقق في عملية التحقيق. ويستفاد من المقدمة والمذكرات التي تمتد على سبعة فصول أن الشوا بدأ مسيرته الموسيقية مطلع القرن الـ20، وأنه بلغ أوج شهرته في العشرينيات منه، وأنه بدأ يدخل في الظل في الخمسينيات، وأنه أخلد إلى الصمت والعزلة في الستينيات.

السنوي في إطار من الخطية الزمنية، فيذكر الأحداث التي حصلت معه في سنة معينة حتى إذا ما انتهى منها ينتقل إلى أخرى، ولا يعني ذلك أن تكون الثانية متصلة بالأولى، فثمة انقطاع في التسلسل أحياناً، يبلغ ذروته في العقد الأخير من عمره الذي لا تأتي المذكرات على ذكر الأحداث الحاصلة فيه. ولعله يكتفي بذكر السنوات التي شهدت أحداثاً بارزة في مسيرته المهنية، مما يجعل من المذكرات مجموعة سنويات متصلة ومنفصلة، في الوقت نفسه. على أن ثمة إشكالية يطرحها هذا الترتيب تتعلق بنسبة الأحداث إلى السنة التي وقعت فيها، فكثيراً ما يخطئ المتذكر في تحديد السنة الصحيحة، وهذا ما يشي بكتابة المذكرات في مرحلة متأخرة من حياته بدأت فيها الذاكرة تضعف، مما يتداركه المحقق استناداً إلى الصحف والمجلات والمصادر المختلفة، وانطلاقاً من النص نفسه الذي قد تضطرب فيه المعلومات بين صفحة وأخرى، فيقوم بردم الفجوات بين السنين وتدارك ما لم تتم الإشارة إليه في المذكرات. ومن خلال هذا التسلسل المتصل المنفصل للسنين، نتعرف إلى الشوا بدءاً من بداياته، مروراً بتعرضه للضوء ودخوله في الظل، وانتهاء بإخلاده للصمت والعزلة.

 عائلة موسيقية عريقة

 يتحدر الشوا من عائلة حلبية الأصل، يتوارث أفرادها حب الموسيقى أباً عن جد، فجده الكبير يوسف يعزف على الكمان، وجده لأبيه إلياس يعزف على القانون، وأبوه أنطون يعزف على الكمان، وأعمامه عبود وحبيب وجورج يعزفون على العود والطبلة والنقرزان تباعاً. ولعل هذا الشغف العائلي بالموسيقى والعزف هو الذي حدا بالعائلة إلى تأسيس نوبة تحمل اسمها، منذ مطلع القرن الـ19، راحت تحيي الاحتفالات، وتهتم بالموشحات الحلبية. هذا التحدر من عائلة موسيقية عريقة، معطوفاً على شهرة الأب أنطون التي طبقت الآفاق في العزف على الكمان، كان لهما أبلغ الأثر في تشكيل ميول الطفل سامي الفنية واستعداداته الموسيقية المبكرة، فهو، في طفولته، قلما مر يوم لم يسمع فيه عزف أبيه على الكمان، مما جعله يعشق تلك الآلة، وينتهز فرصة غياب الأب عن البيت ليختلس التدرب على العزف، حتى تمكن من عزف الآذان المرفوع من الجامع المجاور لمنزله في حلب، وإثارة إعجاب إمام الجامع به.

غير أنه كان للأب رأي آخر، فهو ما إن علم بتدرب ابنه على العزف في غيابه حتى بادر إلى تحطيم الكمان كي لا يصرفه العزف عن الدراسة. على أن الشوا يشير، في المقابل، إلى تشجيع أمه له، واحتضانها موهبته منذ البداية، وإطلاقها في حفل عيد ميلاد أبيه، مما فاجأ الأب، وشكل نقطة تحول في موقفه، فأخذ يشرف على تعليمه العزف بنفسه، وأخذت الأسر المسلمة الكبيرة في حلب تدعوه إلى بيوتها، حتى إذا ما نصح المغني المصري يوسف توفيق صديقه الأب بإرسال ابنه إلى مصر لدراسة الموسيقى، يعمل بنصيحته، ويخطو الصبي خطواته الأولى على طريق الشهرة والمجد.

 المرحلة المصرية

 في مصر، تأخذ شخصية العازف الصغير بالتبلور شيئاً فشيئاً، ويأتي عزفه في بيوت الأسر الكبيرة ليلفت الأنظار إليه، فيذيع صيته، وتشيد به الصحف، وتنهال عليه دعوات العمل، فيعزف مع حسن حويحي، ومحمد إبراهيم، ويوسف المنيلاوي، وإبراهيم القباني، وعبدالحي حلمي، وسلامة حجازي، وسيد درويش، وداوود حسني، وأم كلثوم، وزكي مراد، وأبو العلا محمد، وغيرهم. وخلال هذه المرحلة المصرية، يلتقي كبار القوم في السياسة (مصطفى كامل، سعد زغلول)، والثقافة (محمد عبده، قاسم أمين)، والشعر (إيليا أبو ماضي، أحمد شوقي، خليل مطران)، والغناء (محمد عبدالوهاب، أم كلثوم). ويؤسس مع منصور عوض مدرسة لتعليم الموسيقى العربية، في عام 1907، في حي الظاهر الذي يقيم فيه، ويقبل عليها المتعلمون، من كل حدب وصوب، ويدخل في التدريس فيها بنفسه. وتنهال عليه عروض شركات تسجيل الأسطوانات فيقبلها، مما يعدد مصادر دخله، ويوسع آفاق شهرته. فيتلقى دعوات من خارج مصر للعزف وإحياء الحفلات، وتكون له جولات فنية، أميركية وأوروبية وعربية، تبلغ ذروتها في عشرينيات القرن الـ20 الذي يشهد ذروة تألقه الفني.

 حول العالم

 وإذا كانت مصر قد شكلت المهد الذي تبلورت فيه موهبة الشوا الموسيقية عزفاً وتأليفاً، ومنحته أجنحة الشهرة التي أتاحت له التحليق حول العالم، فإنه لم يدخر وسعاً في تلبية الدعوات التي راحت تنهال عليه من الخارج للعزف وإحياء الحفلات الموسيقية منفرداً أو بالاشتراك مع آخرين. وفي هذا السياق، يحيي في عام 1908 عشرين ليلة فنية في بيروت مع المطرب عبدالحي حلمي، ويعزف في قصور إسطنبول أربعة أشهر عاشها كالملوك.

يعزف في حفلات في بيروت مع زكي مراد وأبو العلا محمد في عام 1919، ويتوجه منها إلى دمشق لتحية الملك فيصل. يحيي حفلة في جامع باريس في العام 1927 بدعوة من الملك فيصل نفسه لتعريف الفرنسيين بالموسيقى الشرقية. يقوم بجولة أميركية لبضعة أشهر، في العام نفسه، يحيي فيها كثيراً من الحفلات، ويتعرف إلى بعض فناني أميركا ومشاهير الأدباء العرب فيها، ويقدم صورة مشرقة عن الموسيقى العربية الشرقية، وخلال هذه الجولة يتم تكريمه في نيويورك من قبل الجالية العربية، ويترأس لجنة التكريم جبران خليل جبران، فتنشأ بينهما علاقة وثيقة، يدأب فيها الأخير على زيارته في فندق سان جورج في واشنطن والاستماع إلى عزفه، ويكون في عداد لجنة التكريم إيليا أبو ماضي وعبدالمسيح حداد وسلوم مكرزل وآخرون. يقوم بجولة أميركية أخرى لثمانية أشهر، في عام 1932، يلتقي خلالها عازف الكمان الأميركي المشهور جاسكا هايفتس، ويقوم في العام نفسه بجولة على بعض مدن أميركا الجنوبية (ريو دي جنيرو، ساو باولو، مونتيفيديو) ويحيي فيها عدداً من الحفلات. وفي طريق العودة إلى مصر، يعرج على الفاتيكان، ويعزف مقطوعة في إذاعته، الجمعة الحزينة، ما يشكل خروجاً على التقاليد الفاتيكانية، ويزور البابا. على أنه لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن رحلة الشوا الموسيقية الأخيرة كانت إلى أميركا، واستمرت من عام 1952 حتى عام 1955، عاد بعدها إلى مصر ليدخل في عزلة إعلامية وفنية لا سيما بعد سقوط العهد الملكي الذي كان يعد أحد المقربين منه.

 تكريمات مختلفة

جرى تكريم الشوا في مصر وخارجها، فكرمه الملك فؤاد في عام 1927، والجامعة الأميركية في بيروت في عام 1929، والملك فيصل في بغداد في عام 1931، وباي تونس في عام 1932، وغيرهم. وفي المقابل، لقد جرت عليه نجاحاته حسد الحاسدين وكيد الحاقدين، فتربصوا به غير مرة، خلال مسيرته الطويلة، لكنه استطاع أن يرد كيدهم إلى نحورهم. وعلى شمول المذكرات أنشطة الشوا المختلفة عزفاً وتأليفاً وتدريساً وتسجيلاً، فإنها أغفلت أنشطة أخرى ذات طابع تجاري أو سينمائي، وهو ما يشير إليه المحقق في خاتمة الكتاب بهدف سد الفجوات الناجمة عن هذا الإغفال.

"مذكرات بلا رتوش "تضيء السيرة الذاتية لصاحبها، وتطل من خلالها على المشهد الموسيقي العربي، في النصف الأول من القرن الـ20. وبذلك، تجمع بين طريف السيرة وتليد التاريخ، وتستحق القراءة بامتياز.      

المزيد من ثقافة