ملخص
مع أن استعادة القصر تمثل تقدماً استراتيجياً للجيش، إلا أنها لا تعني نهاية الحرب، إذ تسيطر قوات "الدعم السريع" على مناطق عدة في إقليم دارفور غرب السودان وأماكن أخرى. قد يواجه السودان سيناريو مشابهاً للوضع الليبي، حيث تتنافس حكومتان منفصلتان على الاعتراف والصدقية بناءً على سلطتهما على مناطق مختلفة.
في الساعات الأولى من صباح الجمعة الـ21 من مارس (آذار) الجاري شن الجيش السوداني عملية عسكرية واسعة لاستعادة السيطرة على القصر الجمهوري في الخرطوم من قوات "الدعم السريع".
تظهر التقارير أن العملية بدأت بقصف مدفعي مكثف من مواقع الجيش في أم درمان، استهدف مواقع "الدعم السريع" المتمركزة داخل القصر ومحيطه. بعد القصف التمهيدي تقدمت وحدات المشاة والمدرعات نحو القصر من محاور عدة، مستفيدة من السيطرة السابقة على جسري السلاح الطبي والفتيحاب، اللذين يربطان بين الخرطوم وأم درمان، هذا التقدم سمح للجيش بإدخال تعزيزات وإمدادات عسكرية مباشرة إلى ساحة المواجهة.
ذكرت تقارير إعلامية أن الجيش سيطر على موقف "شروني" للحافلات المؤدي إلى القصر الجمهوري، ومجمع خدمات الجمهور التابع للشرطة، مما عزز من قبضته على المناطق الحيوية في العاصمة، هذه التطورات عكست تحولاً في مسار العمليات العسكرية في الخرطوم، حيث يسعى الجيش إلى بسط سيطرته على المواقع الاستراتيجية في العاصمة.
استمرت المواجهات داخل القصر ساعات حيث دارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، وواجه الجيش مقاومة من قناصة "الدعم السريع" المتمركزين في أسطح المباني المحيطة، حيث أصبح القصر الجمهوري مسرحاً لأعنف المواجهات منذ اندلاع الحرب في الـ15 من أبريل (نيسان) 2023، وشن الجيش هجمات مكثفة من محاور عدة على مواقعهم حول القصر عبر طائرات مسيرة ذكر أنها تركية وصينية الصنع.
تمكن الجيش من فرض سيطرته الكاملة على القصر، مما دفع عناصر "الدعم السريع" إلى الانسحاب إلى مواقع أخرى نحو مناطق أم درمان وشرق الخرطوم، ومع الانسحاب أفاد شهود عيان بحدوث عمليات نهب في الأسواق والمحال التجارية، وبعد قرابة عامين من القتال أعلن الجيش السوداني استعادة القصر الجمهوري في خطوة وصفت بـ"التاريخية"، وأعلن سيطرته الكاملة على القصر الرئاسي في الخرطوم، إلا أن قوات "الدعم السريع" أكدت أن معركة السيطرة على مقر الحكومة لم تنته بعد، وأن مقاتليها لا يزالون في المنطقة.
هذا التقدم يمكن الجيش من استخدام جسور عدة تربط بين مدن العاصمة، مما يسهل حركة القوات والإمدادات في المناطق الحضرية، مع ذلك وعلى رغم هذا الانتصار فلا تزال قوات "الدعم السريع" تسيطر على مناطق أخرى في السودان مثل أجزاء من دارفور، مما يشير إلى أن النزاع لم يحسم بعد في ظل ما يواجهه السودان من أزمة إنسانية حادة، مع تزايد أعداد القتلى والنازحين نتيجة الصراع المستمر.
تصميم القصر
تعد السيطرة على القصر الجمهوري إنجازاً استراتيجياً للجيش السوداني، نظراً إلى رمزيته السياسية وموقعه الحيوي، وتعيد هذه الأحداث إلى الأذهان ما ظل يمثله القصر الجمهوري كشاهد حي على الصراع الطويل الذي شهده السودان بين إرث الاستعمار وطموحات الاستقلال، متمسكاً بمكانته كرمز حي في الذاكرة الوطنية السودانية.
كما يعد القصر الجمهوري في الخرطوم أحد أبرز الرموز السيادية في السودان، وهو المقر الرسمي لرئاسة الجمهورية ويضم مكاتب أعضاء مجلس السيادة وإدارات رئاسة الجمهورية. صُمم القصر على طراز البنايات الأوروبية في القرن الـ17، مع لمسات من الطرازين الشرقي والروماني، ليجمع بين الفخامة والمعمار التاريخي مما يجعله من أبرز معالم العاصمة الخرطوم.
منذ بداية الحقبة الاستعمارية عام 1821، عندما دخل محمد علي باشا السودان، تحولت الخرطوم إلى مركز السلطة الاستعمارية التركية - المصرية، وظل القصر شاهداً على التحولات السياسية التي مر بها السودان. كان القصر شاهداً على بداية تلك الحقبة التي جلبت معها نقل عاصمة سلطنة الفونغ من سنار إلى ود مدني ثم إلى الخرطوم في 1830، لتصبح ملتقى النيلين ومركز النفوذ الاستعماري في السودان، وقد طرأ على السودان تحول في مراكز القيادة، وأسس الحكمدى عثمان بك جركس مقراً للحكم في الخرطوم.
بدأت قصة القصر عام 1825 عندما شرع الحكمدى محو بك أورفلى في بناء أول قصر من الطين، الذي عرف بـ"سراي الحكمدارية"، ثم جدد مرات عدة ليصبح مركزاً للحكم في السودان. شهد القصر أيضاً تحولات كبيرة خلال الثورة المهدية عام 1885، حينما دمر على يد أنصار المهدي بعد حصار الخرطوم، وهو الحدث الذي سجل مقتل الحاكم البريطاني تشارلز غردون على أحد سلالم القصر.
عقب الاستعمار البريطاني عام 1898، أعيد بناء القصر بتصميم معماري ليصبح معلماً مركزياً في الخرطوم، وعام 1906 أكمل البريطاني السير فرانسيس ريجنالد ونجت توسيع المنشآت المحيطة بالقصر.
عام 2015 أضيف مبنى جديد للقصر الرئاسي أهدته الصين للسودان وصمم بشكل مشابه للقصر القديم، ليكون المقر الجديد لمكتب رئيس الجمهورية وكبار القيادات، في حين جرى تحويل القصر القديم إلى متحف، وظل القصر رمزاً لصراع الشعب السوداني من أجل الحرية.
تعهدات الجنرالين
تعهد قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان بأنه "لن تكون هناك مفاوضات حتى يرحل هؤلاء"، في إشارة إلى قوات "الدعم السريع"، وقال في تشييع عسكريين قتلا في غارة بطائرة مسيرة، الجمعة، بمدينة القضارف شرق السودان، "ما داموا يحملون السلاح ويحتلون منازل الناس ويبثون الرعب في نفوسهم كل يوم، فلا كلام لنا ولا سلام معهم".
وقال المتحدث باسم الجيش نبيل عبدالله في بيان بثه التلفزيون الرسمي "دمرت قواتنا مقاتلي العدو ومعداته بالكامل واستولت على كميات كبيرة من المعدات والأسلحة"، وتعهد عبدالله بأن يواصل الجيش "التقدم على جميع الجبهات حتى اكتمال النصر وتطهير كل شبر من بلادنا من الميليشيات وأنصارها".
وصرح المتحدث باسم الجيش السوداني أن القوات طردت "الدعم السريع" من مقر جهاز الاستخبارات الوطني وفندق "كورنثيا" في وسط الخرطوم، وأعلن أن الجيش استعاد أيضاً مقر بنك السودان المركزي ومباني حكومية وتعليمية أخرى في المنطقة، وأضاف أن المئات من مقاتلي قوات "الدعم السريع" قتلوا أثناء محاولتهم الفرار من العاصمة.
كما صرح قائد سلاح المدرعات بالجيش نصر الدين عبدالفتاح، الجمعة الماضي، أن الجيش يقترب من إتمام المرحلة الثالثة من عملياته لاستعادة ما تبقى من ولاية الخرطوم.
وعليه تحرك جنود سلاح المدرعات من مواقعهم عند جسر الحرية، الذي يربط جنوب الخرطوم بوسط المدينة، وسيطروا على مواقع رئيسة كانت تحت سيطرة "الدعم السريع".
وقال المكتب الإعلامي لسلاح المدرعات إن "الجيش سيطر بالكامل على موقف حافلات ’شروني‘ وأبراج النيلين وجسر المسلمية التي تقع قرب القصر الرئاسي"، وذكر أن قوات سلاح المدرعات انضمت إلى قوات القيادة العامة للجيش، مما أدى إلى قطع آخر طريق متبق تستخدمه قوات "الدعم السريع".
وفي الجانب الآخر تعهد قائد قوات "الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، السبت، في بيان مصور بثته حسابات مؤيدة في وسائل التواصل الاجتماعي، بمواصلة القتال وهدد بهجمات جديدة وصرح بأن قواته لن تنسحب من القصر الرئاسي أو العاصمة الخرطوم، ولوح بمهاجمة بورتسودان شرق السودان التي يتخذها الجيش مركزاً إدارياً وقاعدة لوكالات الأمم المتحدة والبعثات الدبلوماسية، كذلك أعلنت قوات "الدعم السريع" أنها لا تزال متمركزة في محيط القصر، وأنها شنت هجوماً أسفر عن مقتل العشرات من جنود الجيش داخله.
ومع أن استعادة القصر تمثل تقدماً استراتيجياً للجيش، إلا أنها لا تعني نهاية الحرب، إذ تسيطر قوات "الدعم السريع" على مناطق عدة في إقليم دارفور غرب السودان وأماكن أخرى، وتعمل على تشكيل حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها.
خطوة حاسمة
أشار المحلل السياسي إبراهيم شقلاوي إلى أن استعادة القصر تعد خطوة حاسمة نحو استعادة السيادة الوطنية، وأوضح "منذ اندلاع الحرب اعتمدت القوات المسلحة استراتيجية الاستنزاف والتطويق الميداني لعزل ’الدعم السريع‘ وتقويض قدرتها القتالية، وقد بلغت هذه الاستراتيجية ذروتها خلال عملية (العبور الكبرى) في سبتمبر (أيلول) 2024، التي أسفرت عن إحكام السيطرة على جسور العاصمة، بدءاً من جسر الحلفايا وجسر النيل الأبيض وجسر الإنقاذ، وصولاً إلى جسري كوبر والنيل الأزرق، مما شكل ضربة قاضية لـ’الدعم السريع‘".
وتابع المحلل السياسي قائلاً "في محاولة يائسة لكسر الحصار، دفعت قوات ’الدعم السريع‘، الخميس بقواتها عبر محور فندق المريديان - معمل استاك بشارع القصر، بهدف فتح ممر هرب وإعادة التموضع، إلا أن الجيش كان على أهبة الاستعداد، فأغلق عليها المسافة (صفر) في واحدة من أعنف المعارك داخل العاصمة".
وأضاف شقلاوي "الجيش اعتمد خطة محكمة استخدم فيها الطائرات المسيرة والمدفعية الطويلة المدى، تزامناً مع اندفاع وحدات الاقتحام البري من وحدات النخبة مستفيداً من التحام قواته القادمة من المدرعات مع القيادة العامة، مما أسهم بتحييد 32 عربة قتالية مدججة بكامل أطقمها وقواتها، مما أدى إلى انهيار دفاعات ’الدعم السريع‘ تماماً"، وتابع "اتبع الجيش تكتيكات عسكرية حاسمة هي الإطباق من أربعة محاور رئيسة، حيث تحركت وحدات المدرعات والمشاة من المعاقيل وكرري وحطاب شمالاً، بينما تقدمت القوات من النيل الأبيض باتجاه جبل أولياء جنوباً، وأغلقت القوات القادمة من سوبا والعيلفون الجبهة الشرقية، محولة قوات ’الدعم السريع‘ إلى جيب معزول فاقد للإمداد والمناورة"، وواصل "أسفرت الضربة الجوية الحاسمة عن تحييد قائد ’الدعم السريع‘ المتحصن داخل القصر، اللواء محمد أحمد جالي، مما عجل من سقوط قواته داخل العاصمة، وتزامناً مع التقدم البري سيطر الجيش على العمارة الكويتية ومبنى الحكم الاتحادي ووزارة الخارجية وشارع النيل وجسر المك نمر، موسعاً نطاق السيطرة حول القصر الجمهوري".
ضربات استباقية
أفاد متخصصون عسكريون بأن قوات المدرعات تحركت من محاور عدة باتجاه وسط الخرطوم، مما يشير إلى استخدام الجيش استراتيجية متعددة الجوانب لتطويق القصر الجمهوري واستعادته، وذكر أن الوحدات المشاركة هي لواء العمليات الخاصة المتخصص في حرب المدن والاقتحامات، والكتيبة المدرعة الرابعة التي قدمت دعماً مدرعاً للهجوم والمسؤولة عن تأمين المداخل الرئيسة، ووحدات الطائرات المسيرة والقوات الجوية التي نفذت ضربات استباقية دقيقة، وفرق الاستخبارات العسكرية التي جمعت المعلومات عن مواقع ’الدعم السريع‘، ووحدات الدعم اللوجيستي التي وفرت الإمدادات والذخائر للقوات المهاجمة.
ورجحت بعض المنصات أن عدد قوات الجيش السوداني في هذه العملية تراوح ما بين 5 و7 آلاف جندي شاركوا بشكل مباشر في الهجوم، مع دعم لوجيستي وجوي إضافي.
حرب خاطفة
قال اللواء معاش الصادق عبدالله "استخدم الجيش السوداني الحرب الخاطفة أو حرب البرق، وهي استراتيجية عسكرية تهدف إلى تحقيق نصر سريع من خلال الهجمات المفاجئة والمنسقة باستخدام القوات البرية والجوية معاً، اشتهر بهذه الاستراتيجية الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية حين استخدمها ضد الجيش السوفياتي في معركة بربروسا، واستخدمها الجيش الإسرائيلي في حرب 1967 ضد الجيشين المصري والسوري، واستخدمها الجيش الأميركي في اجتياحه العراق عام 2003".
وأوضح "اعتمد الجيش هذه الحرب لاستعادة القصر الجمهوري من قوات ’الدعم السريع‘، على مفاجأة القوات بسرعة ومباغتة وكثافة الهجوم وحركة ديناميكية مركزة لتعطيلها وشل حركتها قبل أن تتمكن من تنظيم دفاعها، واستفاد الجيش من الميزة التي يتفوق فيها وهي القوة الجوية أو سلاح الطيران، إضافة إلى سلاح المسيرات الذي أثبت كفاءة منقطعة النظير".
وأفاد اللواء "في تنفيذه الحرب الخاطفة احتاج الجيش إلى اتباع منهج تكتيكي ركز فيه على المعلومات والاستخبارات بجمع معطيات دقيقة عن مواقع ’الدعم السريع‘ داخل القصر الجمهوري وخطوط دفاعه، وتحديد نقاط الضعف في التحصينات وتوزيع القوات واستخدام الطائرات المسيرة لجمع المعلومات وتحديثها في الوقت الفعلي".
ولفت عبدالله إلى أن "الهجوم الجوي التمهيدي ركز على تنفيذ ضربات جوية دقيقة لتدمير مراكز القيادة والسيطرة التابعة لقوات ’الدعم السريع‘ داخل القصر ومحيطه، لمنعه من تعزيز دفاعاته، واستهدف مواقع القوات داخل القصر وخارجه لإضعاف دفاعاتهم قبل الهجوم البري. شن الجيش الهجوم من اتجاهات عدة (الشرق والغرب والجنوب)، مما أدى إلى تشتيتها ومنعها من تنظيم دفاع فعال، وتجنب الجيش الدخول في معارك استنزاف طويلة، واعتمد على الاختراق السريع للخطوط الأمامية، وكذلك تنفيذ عمليات اقتحام خاطفة للأماكن الحيوية داخل القصر مثل غرف القيادة والتحكم".
أما الهجوم البري السريع والمنسق فذكر أن "الجيش استخدم القوات المدرعة والمشاة لاقتحام القصر بهدف تشتيت قوات ’الدعم السريع‘، كذلك سيطر على الاتصالات وقطع الإمدادات وفرض حصار سريع على محيط القصر لمنع أي تعزيزات، وأيضاً حرم قوات ’الدعم السريع‘ من استخدام تكتيكات حرب العصابات داخل القصر".
وأورد "تحقيق السيطرة التامة جرت بتمشيط القصر والتأكد من القضاء على جيوب المقاومة، ونشر وحدات تأمين داخله للحفاظ على السيطرة ومنع أي هجمات مضادة، ثم وصولاً إلى إعلان نجاح العملية والسيطرة على القصر بشكل رسمي".
جيش جديد
أكد المستشار القانوني لقائد "الدعم السريع" محمد المختار النور على صفحات تابعة لتلك القوات، أهمية تعزيز حماية الأجواء بعد الضربات الجوية التي استهدفت المدنيين، مشدداً على أن أحد الأهداف المحورية لتشكيل "حكومة السلام والوحدة" هو ضمان سلامة المدنيين.
وأشار النور إلى أن "قوات ’الدعم السريع‘ استطاعت إسقاط عدد من الطائرات الحربية التابعة للجيش السوداني، التي كانت تستهدف المدن في مناطق عدة من البلاد، وذلك بفضل منظومة الدفاع الجوي المتطورة التي تمتلكها، وأوضح أن الطائرات التي كانت تسبب الأذى للمدنيين وتدمر البنية التحتية جرى إبعادها عن مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، إضافة إلى مدن أخرى في المنطقة بما في ذلك العاصمة الخرطوم، وأكد أن "الجهود مستمرة لتعزيز الحماية لتشمل جميع مناطق السيطرة بهدف حماية الشعب السوداني من الغارات الجوية التي تستهدف المدنيين منذ بداية النزاع".
وقال "في ما يتعلق بتشكيل الجيش الجديد في السودان، فإن قوات ’الدعم السريع‘ و’الحركة الشعبية‘ وغيرهما من قوات حركات الكفاح المسلح، ستشكل الأساس للجيش، وهذا الأمر منصوص عليه في الدستور الموقت الانتقالي، ويكون تشكيل هيكلية الجيش بناءً على التركيبة السكانية للأقاليم، لكي يشعر الجميع بأن هذا الجيش هو ملك لهم وأن القوة موزعة بين الجميع، مما يسهم في تكوين جيش وطني محترف يتولى مسؤولياته في حماية حدود الوطن والدستور".
استراتيجية "الدعم السريع"
من جانبه أشار المتخصص العسكري إسماعيل أحمد إلى أن قوات "الدعم السريع" عززت وجودها خارج دارفور، مستفيدة من انحياز قوات "الحركة الشعبية- شمال"، بقيادة عبدالعزيز الحلو، مما أحدث تحولاً في ميزان القوى، لا سيما مع سيطرة الحركة على مناطق استراتيجية في منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق.
وأوضح أن "العقيدة الاستراتيجية لقوات ’الدعم السريع‘ هي (الدفاع بالمقاومة المطولة)، واتبعتها طوال حربها ضد الجيش السوداني، وتقوم على أسس رئيسة تعكس تكتيكات حرب المدن والكر والفر"، وأضاف "هذه الاستراتيجية تعكس قدرة ’الدعم السريع‘ على القتال لفترات طويلة على رغم التفوق الناري والتنظيمي للجيش، وتعتمد القوات في هذه الاستراتيجية على حرب المدن وتكتيكات المكامن باستخدام المناطق الحضرية لصالحها، واستخدمت هذه الاستراتيجية في بداية الحرب حين استيلائها على القصر الجمهوري، إذ تحصنت في المباني والأزقة الضيقة لمنع تقدم القوات المدرعة للجيش، وزرعت المكامن في الشوارع المؤدية إلى القصر الجمهوري، مما صعب على الجيش التقدم بسلاسة".
وأورد المتخصص العسكري "استمرت ’الدعم السريع‘ في استخدام هذه الاستراتيجية في ود مدني ودارفور، فبدلاً من المواجهة المباشرة مع الجيش، ركزت على استنزاف القوات المهاجمة عبر الضربات المباغتة والتراجع التكتيكي، كذلك اعتمدت على سرعة التنقل بين الأحياء السكنية عبر الأزقة، مما سمح لها بإعادة التمركز بسرعة"، وتابع "خلال أحداث القصر الجمهوري حاولت قوات ’الدعم السريع‘ تطبيق تكتيكات حرب المدن، التي تشمل استخدام القناصة لتأخير تقدم القوات المهاجمة، ونشرت العبوات الناسفة والمفخخات في الطرق المؤدية إلى القصر، كذلك لجأت إلى حرب الأنفاق، حيث عُثر على ممرات سرية داخل القصر كانت تستخدم للهرب وإعادة التمركز".
وحسب تقديرات بعض المنصات فإن "عدد قوات ’الدعم السريع‘ التي شاركت في هذه المواجهات يراوح ما بين 3 و4 آلاف و500 مقاتل كانوا موجودين في القصر الجمهوري والمنطقة المحيطة، أما عدد القوات الرئيسة داخل القصر فكان نحو 1000 مقاتل مدعومين بقناصة ومقاتلين محترفين، في حين انتشر نحو 2000 مقاتل من قوات الاحتياط القريبة من القصر في الأحياء القريبة مثل شارع الجمهورية وشارع القصر، أما فرق القناصة والمدفعية المتنقلة فكان عددها 1000 عنصر موزعين على أسطح المباني القريبة".
وذكر أن "التجهيزات العسكرية لـ’الدعم السريع‘ تتكون من عربات مدرعة خفيفة ومدافع مضادة للطائرات استُخدمت كمدفعية أرضية، وقاذفات ’آر بي جي‘ وصواريخ مضادة للدروع وطائرات مسيرة محلية الصنع للاستطلاع والضربات السريعة".
رمزيات القصر
قال الكاتب الصحافي أمير سليمان "للقصر الجمهوري ثلاث رمزيات، أولاً الرمزية السياسية باعتباره مركز السلطة صاحبة الحكم والشرعية، إذ إنه كان ولا يزال بمثابة مركز القرار السياسي في السودان، حيث تتركز فيه سلطة الحكومة التنفيذية وتسيطر عليه السلطة العسكرية في فترات الانقلابات، كما حمل رمزية التغيير سواء بالانقلابات العسكرية أم الانتفاضات التي تؤدي إلى تغيير النظم العسكرية مثل سقوط النميري والبشير".
وأضاف "باعتباره رمزاً للهوية الوطنية فعندما يستولى عليه من قبل قوى معارضة أو جماعات وحركات مسلحة، فإن ذلك يعد مؤشراً إلى مس السيادة والتفكك السياسي".
أما الرمزية الثانية فقد لخصها سليمان في الرمزية الاجتماعية "كمصدر للهيبة والسلطة، والوصول إلى القصر بمثابة وصول إلى القمة لارتباطه بالطبقة الحاكمة والسلطة التنفيذية والنخب السياسية".
وقال "يمكن أن تعكس رمزية القصر أيضاً الانقسامات الاجتماعية حيث يظهر التهميش الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، ففي فترات الانقلابات والحروب الأهلية يظهر القصر كرمز للتفاوت، وفي النزاعات العسكرية يبرز القصر كأداة لتحويل التطلعات الاجتماعية إلى هدف استراتيجي، وقوات ’الدعم السريع‘ عندما سعت إلى الوصول إلى القصر كان كوسيلة لتحقيق مطالب اجتماعية تراوح ما بين الحصول على النفوذ إلى التأثير في توزيع السلطة وإزالة التهميش"، وتابع "أما الرمزية العسكرية للقصر فلأنه يعد هدفاً استراتيجياً لأي صراع عسكري، فإن الوصول إلى القصر يعني إعلان السيطرة على الدولة أو القدرة على تغيير مجرى الأحداث، فالسيطرة العسكرية على القصر الجمهوري تعني الحصول على الشرعية من خلال السيطرة على السلطات التنفيذية، ولكنها أيضاً قد تعني مواجهة مقاومة شعبية أو انقسامات داخلية بين العسكريين والمدنيين".
دورات متكررة
قدم الباحث عمر محمد قرشي في كتابه "إلى القصر حتى النصر" أهمية القصر الجمهوري السوداني بالخرطوم في التاريخ والهوية السودانية الأفريقية - العربية والاستعمارية، حيث وصفه بأنه ضحية للاستعمار ولهيمنة ما بعد الاستعمار، استوحى أحداث عمله من ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 في السودان، تلك اللحظة المحورية التي سار فيها المواطنون إلى القصر الجمهوري مطالبين بإنهاء نظام الجنرال إبراهيم عبود نتيجة تدهور الظروف المعيشية، ثم شهد القصر احتجاجات عام 2018 التي أطاحت حكم الرئيس السابق عمر البشير.
وذكر قرشي "الصراع حول القصر كان دائماً مستمراً من أجل التحرير، ليس فقط من ديكتاتور واحد، بل من دورات متكررة من السلطة والقمع التي لازمت السودان حتى قبل الحقبة الاستعمارية. القصر نفسه، الذي بني في الأصل خلال الحكم العثماني المصري وحول في ظل الاستعمار البريطاني، يقف بمثابة مقر وساحة صراع سياسي على السلطة، يخلط في كثير من الأحيان من أجل السيادة السودانية"، وأضاف "تشير الطبيعة المتكررة لصراعات القوة هذه إلى أن تحرير السودان لا يزال غير مكتمل، إذ تعوقه ليس فقط قوى خارجية بل أيضاً قضايا داخلية علينا مواجهتها"، وتابع "كان القصر تعبيراً مقصوداً عن القوة الإمبريالية، مقاماً بعناية على ضفاف النيل في قلب الخرطوم، أعيد بناؤه على أسسه الأصلية بعد الثورة المهدية فأصبح رمزاً مستمراً للسيطرة. كان الهدف من وضعه وعظمته إبراز التفوق الاستعماري وتأكيده، ولكنه أصبح أيضاً مسرحاً لاستقبال القادة المحليين وغرسه في الوعي الاجتماعي".
ويواصل "يلعب التمثيل الفوتوغرافي أيضاً دوراً حاسماً في الكشف عن الوظائف المحلية والسياسية للقصر خلال اللحظات المحورية، على سبيل المثال خلال محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1971 وضع الرئيس جعفر النميري قيد الإقامة الجبرية في القصر، مما أدى إلى حملة قمع وحشية على الحركات الاشتراكية، أطلق على القصر اسم ’قصر الضيافة‘ في إشارة إلى دار الضيافة حيث قتل حلفاؤه الذين حاولوا الانقلاب عليه".
مفترق طرق
توقع المبعوث الأممي السابق إلى السودان، فولكر بيرتيس، أن يجبر التقدم العسكري الأخير قوات "الدعم السريع" على الانسحاب إلى معقلها في إقليم دارفور، وأن الجيش سيخلي العاصمة والمناطق المحيطة بها قريباً من قوات "الدعم السريع"، وصرح بيرتيس "لقد حقق الجيش نصراً مهماً وذا شأن في الخرطوم عسكرياً وسياسياً، لكن هذا التقدم لا يعني نهاية الحرب، إذ تسيطر قوات ’الدعم السريع‘ على أراضٍ في إقليم دارفور وفي أماكن أخرى".
ورجح بيرتيس أن تتحول الحرب إلى تمرد بين قوات "الدعم السريع" المتمركزة في دارفور والحكومة التي يقودها الجيش في العاصمة، قائلاً "ستقتصر قوات ’الدعم السريع‘ بصورة كبيرة على دارفور، وسنعود إلى أوائل الألفية الثانية"، في إشارة إلى عودة الحرب في دارفور بصيغتها في فترة الرئيس السابق عمر البشير.
أما مدير قسم القرن الأفريقي في مجموعة الأزمات الدولية، آلان بوسويل، فقال "إن استعادة القصر الرئاسي رمز السيادة السودانية سيمثل ضربة قاصمة لقوات ’الدعم السريع‘، إضافة إلى نصر رمزي هائل للقوات المسلحة"، وأضاف "هذه نقطة تحول كبيرة في الحرب، سيكون من الصعب جداً على قوات ’الدعم السريع‘ الادعاء بأن هذه انسحابات تكتيكية أو التظاهر بالشجاعة تجاه هذه الهزيمة".
وتوقع "إذا استولى الجيش على الخرطوم فسيكون هناك مفترق طرق، إما المزيد من الحرب أو نقطة تحول لمحاولة إنهاء هذا الوضع من خلال محادثات السلام".
وعموماً، لم يكن القصر الجمهوري مجرد مقر للحكومة، بل شهد لحظات محورية في تاريخ السودان، حيث تعاقبت الحكومات منذ الاستعمار، وارتبط بمراحل مهمة في تاريخ السودان الحديث، بدءاً من الاستقلال عام 1956، عندما أنزل العلم البريطاني ورفع العلم السوداني فوق سارية القصر ونصب به رؤساء وشهد انقلابات وسقطت به أنظمة وجرى اقتحامه مرات عدة.
استعادة القصر الجمهوري تعد نقطة تحول في المعركة لكنها لا تعني نهاية القتال في الخرطوم بالكامل، قوات "الدعم السريع" لا تزال تسيطر على مواقع استراتيجية أخرى مثل بعض أحياء أم درمان ومناطق في دارفور، وهناك مخاوف من تحول المعارك إلى حرب عصابات داخل الأحياء السكنية، مما قد يؤدي إلى موجات نزوح جديدة، والمجتمع الدولي قد يضغط من أجل هدنة جديدة أو مفاوضات لكن الجيش السوداني يبدو مصراً على استكمال الحسم العسكري.
مسار مستقبلي
أما الزميل أول في برنامج أفريقيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة، كاميرون هدسون، فقال "مع اقتراب الجيش الآن من استعادة كامل العاصمة ودفع قوات ’الدعم السريع‘ إلى معقلها في دارفور، قد تتهيأ الظروف لعودة ملايين النازحين السودانيين إلى ديارهم، وتجنب المجاعة الوشيكة التي تهيمن على ما يقارب ثلث البلاد. ويمثل هذا التحول في الزخم أيضاً أول فرصة لإدارة ترمب لاستخدام نفوذها لدى حلفائها الإقليميين ودول الخليج للضغط من أجل وقف إطلاق النار"، وأضاف "لكن مع هذا النصر تأتي ضغوط جديدة على الجيش لتهيئة الظروف اللازمة لتخفيف المعاناة الإنسانية وعودة ملايين النازحين من الخرطوم في جميع أنحاء البلاد والمنطقة".
أوضح هدسون "كان التحول في زخم القتال لمصلحة الجيش في الأشهر الأخيرة مدفوعاً ببرنامج إعادة التسليح والتجنيد المكثف للقوات المسلحة، الذي شهد عودتها إلى كامل قوتها للمرة الأولى منذ بداية الحرب. في الأشهر الأخيرة انتظم الجيش في موجة شراء، وحصل على طائرات ’تي بي 2‘، مسيرة عالية الكفاءة من تركيا، إضافة إلى طائرات مقاتلة جديدة وأسلحة ثقيلة أخرى من الصين وروسيا"، وتابع "نجحت القوات المسلحة في التفوق على قوات ’الدعم السريع‘ في التجنيد، إذ انتقد كثر اعتمادها المفرط على الميليشيات الإسلامية المدعومة من نظام عمر البشير السابق، وهو ما قد يؤدي إلى محاولة تلك العناصر العودة إلى السلطة في نهاية الحرب، وفي القريب العاجل قد يواجه السودان سيناريو مشابهاً للوضع الليبي، حيث تتنافس حكومتان منفصلتان على الاعتراف والصدقية بناءً على سلطتهما على مناطق مختلفة".