Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

"الكتابة لا تهاب الفراغ" في أعمال عبدالسلام بنعبدالعالي

الناقد المغربي محمد الساهل يتناول المفاهيم المغايرة في فضاء الأدب والفكر

رسمة تمثل فعل الكتابة (سوشيل ميديا)

ملخص

"الكتابة لا تهاب الفراغ"، كتاب صدر حديثاً عن دار المتوسط، للناقد محمد الساهل، يتناول فيه المفاهيم الواردة في أعمال الكاتب والباحث اللغوي والناقد المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي.

من النظريات الحديثة ما يوجب إعادة النظر، إضافة وغربلة وتمييزاً. وهذا ما تقوم به الأمم الحية، إذ تقوم مجتمعات المعرفة فيها بتجديد أدواتها النقدية، وتبسيط بعض منها لتكون طوع التداول بين ذوي اللسان الواحد، وحتى بين متعددي الألسن. وأعني هنا، علماء اللسانيات الحديثة وعلماء البلاغة والدلالة والسيمياء (السيميولوجيا) وغيرها. ولئن كانت لا تصح نسبة الدراسات اللسانية وفقه اللغة الحديث، وغيرهما، إلى العلوم العلمية الخالصة، أو الصلبة على ما يسميها بعضهم، فإنها عمدت إلى نقل النقاش حول اللغة وحول بعض المفاهيم ذات الصلة بالكتابة والقراءة والنقد وغيرها، من نطاق الاختصاص الضيق إلى مجالات التداول الأرحب، أعني نطاق العامة، وجمهور القراء المعنيين بالتعامل مع نصوص الأدب والأنواع الأدبية، على تنوعها.

في الكتاب الصادر حديثاً عن دار المتوسط، بعنوان "الكتابة لا تهاب الفراغ"، يتطلع الكاتب محمد الساهل لمناقشة عدد من المفاهيم الواردة في أعمال الكاتب والباحث اللغوي والناقد عبدالسلام بنعبدالعالي. وانقسم الكتاب فصلين، يعالج في الأول المفاهيم المختصة بالكتابة تحت عنوان "الكتابة على نحو مغاير"، وفي الثاني يتطرق الكاتب إلى نقد مفاهيم كانت لا تزال سائدة إلى حينه تحت عنوان "مجاوزة الشعرية التقليدية".

يستند الكاتب الساهل في ما يسجل، إلى مجموعة من أعمال الباحث عبدالسلام بنعبدالعالي، يوردها تباعاً في الهوامش، مثل "جرح الكائن" و"جو من الندم الفكري" و"الكتابة بالقفز والوثب" وغيرها، باعتبارها المدونة التي

الكتابة على نحو متغاير

في الفصل الأول، يعالج الكاتب الساهل مفاهيم متصلة بالكتابة على نحو متغاير، ويبدأ كلامه بعرض تصور عبدالسلام بنعبدالعالي للكتابة على أنها شبيهة "بمباراة الملاكمة"، وأنها "متحركة، بل هاربة" وتومي إلى وجهة من غير أن تدل على طريق". وفي تعليله لهذا التصور، يمضي الكاتب محمد الساهل إلى تبيان محاسن اللغة الميسرة والبليغة والموجزة التي يكتب بها بنعبدالعالي، وبها يحوز رضا القراء، فيقول إن ثمة خفة في كتابته، وبساطة بليغة، تتيحان له اختزال كثير من الأفكار التي يستغرق الحداثيون غيره، على تفصيلها بصفحات طوال. كما أن حسنة أخرى لا تقل عن الأولى، تتحفنا بها كتابة بنعبدالعالي، على قولة الساهل، ألا وهي خروج هذه الكتابة عن "برودة" التنظير "ورتابة التجريد"، وذلك حفظاً لصحة القارئ، وبعداً للإملال عنه.

ثم زاد على ذلك اعتباره أن "القفز والوثب" في الكتابة، أي بما يعني الاستطراد بلغة الجاحظ، والانتقال السريع من موضوع إلى آخر، في سياق عمل واحد، لا يبعدان بدورهما الملل من القارئ، بمقدار ما يجنبان الكتابة نفسها الإملال. وبالتالي، وجب اعتمادهما في نهج الكتابة الذي سلك فيه بنعبدالعالي مسلك المجدد والمتجاوز التقليد، وقد يكون التقليد مندرجاً في الحداثة. فما يهم، في هذا الشأن، هو "اللحظة لا الديمومة" (ص:27)، في ما سماه الباحث بنعبدالعالي "الكتابة الكاتش" أو الكتابة اللقطة. وهذا ما يستدعي - وقد استدعى - ردوداً من النقاد الذين يرون إلى الكتابة عملاً متناسقاً ومتسقاً وذا رؤية كاملة متكاملة. وبهذا ينتفي مفهوم الأثر الكامل، على ما بات معروفاً في دوائر النقد والكتاب على حد سواء، وما ينقضه عبدالسلام بنعبدالعالي، في كتابه "في جو من الندم الفكري"، إذ يعتبر الكتابة تنهض "على الانفصال لا الاتصال، والتشتت لا التلاحم، وضد الامتلاء الهش، والوحدة المصطنعة" (ص:29). وبالطبع، يقف الكاتب محمد الساهل، والباحث بنعبدالعالي، موقف كتاب أجانب تأثر بهم، وسار في سبيلهم، عنيت بهم موريس بلانشو، وجين أوستين، وغيرهما ممن يردون على طغيان البنيان والهياكل الجاهزة في البنيان الفكري والأدبي الغربيين.

ويتابع محمد الساهل عرضه لطرح الباحث بنعبدالعالي، ويعتبر أن الكتابة ينبغي أن تكون اقتناصاً للنقص، ودعوة إلى ترك الفراغات في النص ليملأها القارئ. بل يذهب إلى القول "إن الفراغ والبياض، في الأعمال (الأدبية)، هو بحث ومكابدة، شأنهما شأن الامتلاء" (ص:30). وفي هذا مبالغة، على ما نرى، وإناطة بالقارئ لمهمات الكاتب، وتضخيم لحجم الفراغ الممكن اقتفاؤه في العمل الأدبي، حتى ليمكن إحلاله (الفراغ) في موضع النص الأدبي المنجز. ولئن تنبهت الفلسفة التفكيكية (دريدا، موريس بلانشو، جان لوك نانسي، ساره كوفمان، وآخرون)، ومنهم بنعبدالعالي، إلى لزوم التوقف ملياً عند بنى النصوص والأعمال الأدبية وتفكيكها، تمهيداً لتحليلها والنظر في مضامينها، بالتوازي مع تيار السيميائية أو الرموزية الناشئ الذي عدل الرؤية النقدية بالكامل وجعلها وفق مستويات ذات دلالة، فإن تركيز تابعيها في الكتابة على أجزاء من العمل المكتوب من دون أخرى، إنما يعتبر انعكاساً لموقف مبدئي وإنكاراً لطبيعة الأثر الأدبي الذي يوجب نوعه، وبنى اللغة المصوغة به، أن يكون في قوام كامل، من حيث شكله، في الأقل.

في التكرار والاستنساخ 

وفي الفصل الثاني من الكتاب يبسط الكاتب محمد الساهل مفاهيم استقاها من مدونة الباحث بنعبدالعالي، أقل ما فيها أنها تخالف المألوف في ما يخص الكتابة، فيقول نقلاً عن عبدالفتاح كيليطو "إن الكاتب لا يؤلف إلا كتاباً واحداً، ولكن بتكرارات محتلفة" (ص:35). وبهذا المعنى قد لا تستوفي الكتابة الموضوع إلا في التكرار، بألا يكف الكاتب عن إضافة عناصر إلى أركان ثابتة في الموضوع الواحد. وهذا الأمر أبعد ما يكون من الاجترار. ثم إن التكرار، برأي صاحب "حركة الكتابة" لعبدالسلام بنعبدالعالي، "يكرس الاختلاف لا التطابق، ويزكي التحول لا الثبات" (ص:38). إضافة إلى ذلك، فإن من شأن هذا التكرار أن يبعد الملل من القارئ، ويجعله مفتوناً بما يقرأ. وبالتالي يكون التكرار راعياً حياة الكلام، وضامناً بلوغه القراء.

 

أما مفهوم الاستنساخ، وهو إعادة نقل ما تمت كتابته سابقاً، لا الابتداع، بخلاف ما تقول به الشعرية التقليدية، فهو عماد الكتابة وفقاً لنظرية بنعبدالعال. ويقول الكاتب الساهل، في تعليله اعتماد هذا المفهوم، بأن الكاتب إذ يكتب، يتواتر إلى ذهنه إرث من الكلام والصيغ والمواضيع ما كان سبق قوله وطواه النسيان. وعليه، فلا يظنن أحد، على حد قول الباحث بنعبدالعالي، أن الكاتب يتفرد وحده بالكتابة، وإنما ثمة يد ثانية، تشاركه فعل الكتابة. وقد تكون يد الخزين اللغوي العام والإرث الفكري والوجداني الذي تحصله الكاتب من محيطه، وجعله طي النسيان. وبناء عليه، يكون الكاتب "مفعولاً لا فاعلاً في التأليف، إنه ناسخ لا مبدع، وصدى لا صوت" (ص:50) واستكمالاً لمفهوم الاستنساخ، في الشعرية المعاصرة، تعتبر الكتابة مجرد اقتباسات، وليست ابتداعاً من عدم. ومن هذا القبيل أيضاً، لا يحق للكاتب ادعاء ملكيته الفكرية لما يكتب، ما دام كلامه مقتبساً من خزين فكري ولغوي عام!

في الترجمة والنقد

يعلي الكاتب محمد الساهل، نقلاً عن الباحث بنعبدالعالي، من مكانة الترجمة، إذ يعتبرها إحياء للأصل الذي منه يستنسخ الناسخون مادتهم للكتابة. والحال أن النص المترجم يغتني "بفضل ترجماته، ولا يعيش مدة أطول فحسب، بل حياة أجود" (ص:66). وبالتالي، يصير الاستنساخ، عبر الترجمة، عاملاً على ديمومة الأصل وإضاءته، وإخصابه بكثير من المعاني. وبهذا المعنى، تنفخ الترجمة الحياة في الأصول كاشفة عن طاقات تأويلية هائلة. ثم إن الترجمة، على ما يراها بنعبدالعالي، لا تنحو إلى خلق التقارب بين الأصل والفروع المنقول إليها، وإنما "تكريس الغرابة" و"الاختلاف، ومغذية للثقافة، ومنعشة للهوية". وفي المحصلة الأخيرة، تعتبر الترجمة، بنظر بنعبدالعالي، عاملاً مضاعفاً في تكوين الهوية الثقافية للناقل المترجم، وحافظاً للأصل ألقه وديمومة حضوره عبر الزمن. ويقر، آخر الأمر، بأن الترجمة إلى لغات عالمية تسهل اعتراف العالم بالمنتج، ويحوز النص المترجم شهادة العالمية.

كذلك الأمر بالنسبة إلى النقد، يصوره بنعبدالعالي على أنه الميزان المضبوط والموضوعي لما يجري نقده من أعمال تنتمي إلى أجناس الخطاب. علماً أن هذه الأخيرة "تملي على الكاتب قواعد التأليف ونماذجه وصوره. والناقد والمؤلف مفعولان لشيء يتجاوزهما ويكتب بهما، وقد يكون الجنس الأدبي، وقد يكون اللغة ذاتها" (ص:83). ولئن دعا الباحث إلى تحويل اتجاه النقد إلى التأويل، وفاقاً للشعرية المعاصرة، فإنه رفع من مكانة الناقد، فجعله شريكاً في العمل (الأدبي)، يبين ما فيه من نواقص هي دالة على تميز العمل، ومجال قوة، لا ضعف. وعليه، فإن النقد إبداع من الدرجة الأولى، بحسبه، ما دام يسبر أعماقه ولا يكتفي بظواهره الخارجية.

لربما يكتفي القراء بما عرضناه لطرح الكاتب محمد الساهل، نقلاً عن الباحث عبدالسلام بنعبدالعالي، في ما يخص المفاهيم المذكورة أعلاه. أما نحن فنورد رأياً غير لازم، نورده في ما يأتي. بعيداً من النقاش في مقدار علمية هذه المفاهيم أو مدى مطابقتها الميادين المتشعبة والمتداخلة والمعنية بها، مثل اللسانيات، والرموزية ومستويات القراءة، وغيرها، فإننا نقبس من كلام تعريفي لشخصية معروفة في علم الدلالة الغربي، كان أسهم في إخراج مفاهيم جديدة، مثل الأسطورة المعاصرة، ولذة القراءة، وموت المؤلف، وسيميولوجيا الموضة أو الدرجة، وغيرها، إنما كان يسعى إلى استخلاص المعنى من كل ظاهرة لافتة، ويثبتها في مفهوم. ولعل هذا ما قصد إليه الباحث بنعبدالعالي، وناقله الكاتب محمد الساهل، مشكوراً.

المزيد من ثقافة