ملخص
كتب شاعر تشيلي الشهير بابلو نيرودا قصيرد "رثاء" لصديقه الشاعر الإسباني فيدريكو غارثيا لوركا قبل سنوات من اغتياله وألقاها خلال سهرة جمعتهما في برشلونة وكانت الغاية منها إطلاق مكانة نيرودا في الشعر المكتوب باللغة الإسبانية، يوم كان قنصلاً لبلاده لدى إسبانيا
"لو كنت قادراً على البكاء في بيت موحش مهجور/ لو كنت قادراً على انتزاع عيني وأكلهما/ لفعلت من أجل صوتك، صوت البرتقالة المضرجة بالسواد، ومن أجل شعرك المتدفق صارخاً. فمن أجلك أنت تطلى المستشفيات بالأزرق/ ومن أجلك تندفع المدارس والأحياء البحرية/ وتسكن في الريش الملائكة الجريحة/ وتغطي نفسها بالحراشف كل أسماك الزفاف/ وتطير نحو السماء كل هاتيك القنافذ/ من أجلك تمتلئ المشاغل وجدرانها المسودة، بالجراح والدماء/ وتلتهم الأحزمة الممزقة تقتل نفسها قبلاً/ وتتزيى بالبياض. عندما تطير مغطى بالدراق/ عندما تضحك ضحكة الرز الغاضب/ عندما تنحني لتنشد الشرايين والأسنان/ الحنجرة والأصابع/ أفنى في عذوبتك/ أموت في سبيل بحيراتك الحمراء، حيث تعيش وسط الخريف مع فرس خائرة وإله مدمى/ أموت من أجل المقابر التي تمر كأنهار رمادية مصنوعة من المياه والقبور/ ليلاً، بين الأجراس المحطمة: أنهار كثيفة كأنها عنابر النوم/ كأنها جنود مرضى يصعدون بغتة نحو الموت عبر أنهار بأرقام من المرمر/ وأكاليل فاسدة وزيوت مأتمية/ أموت كي أراك ليلاً ترقب موكب الصلبان الغارقة/ واقفاً تبكي/ لأنك في مواجهة النهر تبكي بوله بألم تبكي وأنت تبكي/ وعيناك مليئتان بالدموع. بالدموع. بالدموع. لو كنت قادراً وحدي في عتمة الليل/ أن أجمع النسيان والظل والدخان/ فوق السكك الحديدية والسفن البخارية/ في حفرة لغم مظلمة/ وأنا أعضُّ الرماد/ لفعلت من أجل تلك الشجرة، حيث تنبلج من أجل الماء المذهب، ماء الأوكار الذي يتجمع لسقي اللبلاب الذي يغطي عظامك ويسلمك سر الليل...".
رثاء سابق لأوانه
كما يمكن للقارئ أن يخمن، تشكل السطور السابقة مدخلاً لافتاً لقصيدة من شعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا يعرف أهل الشعر أنها كتبت كتحية لزميله ورفيقه الشاعر الإسباني فدريكو غارثيا لوركا. والحال أن كل ما في القصيدة ينم عن أنها تنتمي إلى شعر رثاء موجه من نيرودا إلى لوركا، لكنها لم تكتب لمناسبة موت هذا الأخير، بل كتبها نيرودا وألقاها قبل موت لوركا بسنوات في برشلونة خلال سهرة عامة جمعت الشاعرين وكانت الغاية منها إطلاق مكانة نيرودا في الشعر المكتوب باللغة الإسبانية، يوم كان قنصلاً لبلاده لدى إسبانيا. يومها كان لوركا هو من قدمه فاستهل نيرودا السهرة بإلقاء تلك القصيدة التي حيا بها لوركا تحت عنوان "نشيد إلى فدريكو غارثيا لوركا". وصفق يومها الحضور طويلاً فيما همس لوركا في أذن نيرودا بما معناه: "إنك تبدو وكأنك ترثيني"... فضحك الأخير ودمدم بكلمات تعبق بالإبهام. هل تراه كان يحس في تلك اللحظة أنه بالفعل يرثي صديقه؟ لسنا ندري ونيرودا نفسه لم يوضح الأمر، بل لن يعود إليه حتى حين قتل لوركا بالفعل بعد سنوات قليلة لتستعيد القصيدة حياتها ويتناقلها الجمهور العريض، معتقداً أنه مرثية حقيقية كتبها نيرودا، إذ وصلته أخبار مقتل لوركا بسلاح قوات فرانكو المتوحشة الفاشية إعداماً ليس لجرم اقترفه، أو لتمرد شارك فيه، بل بسبب قصيدة. وربما بسبب بيت واحد من الشعر جاء في قصيدة هي إحدى روائع مجموعته المعنونة "رومانثيرو" ويقول بكل هدوء وبساطة: "... غير أن الحرس المدني يتقدم زارعاً في طريقه الحرائق".
الشاعر شهيداً بالقوة
ولا شك أن في مقدورنا اليوم وبعد ما يقارب قرناً على الجريمة التي اقترفها جيش فرانكو ضد لوركا، بين جرائم لا تحصى ارتكبها ضد الإسبانيين عموماً، أن هذا البيت من الشعر قد كلف صاحبه ذات يوم حياته. فالبيت جاء في النشيد الغجري الـ15 من مجموعة "رومانثيرو" للشاعر الذي كان يعتقد حين كتبه، إبان الحرب الأهلية التي كان يؤلمه أنها تمزق بلاده، انه مجرد كلمات يعبر بها عن رأيه، هو الذي لم يشارك في الحرب الأهلية، ولم تسل من أصابعه نقطة دم واحدة، بل اكتفى بأن تحدث عن فظاعة الحرب، وعرج في طريقه على ضروب القسوة التي كان يمارسها رجال الحرس المدني التابعون لفرانكو، فإذا بهؤلاء لا يغفرون له موقفه ذاك. وهكذا، ذات يوم فيما كان لوركا كعادته متوجهاً لتمضية الصيف في غرناطة، في شهر أغسطس (آب) 1936، هو المقيم عادة آمناً في مدريد، تمكن رجال الحرس المدني من التعرف عليه واعتقلوه. وما إن حل يوم الـ19 من الشهر نفسه، حتى حكموا عليه بالإعدام ونفذوا الحكم برميه بالرصاص. وعلى ذلك النحو وضعوا حداً لحياة ونشاط واحد من كبار الشعراء الذين عرفتهم إسبانيا في القرن الـ20.
من الشعر إلى الأسطورة
والحال أن رجال فرانكو كانوا هم الذين حولوا لوركا، باغتياله على ذلك النحو، إلى أسطورة، بحيث إن كثراً اليوم يعتقدون أنه كان بطلاً من أبطال الحرب الأهلية، وأن اغتياله كان لمشاركته في تلك الحرب في صفوف الجمهوريين الديمقراطيين التقدميين. لكن هذا ليس صحيحاً، فلوركا عند مقتله كان بعيداً من المشاركة في الحرب، بل كان على خلاف فكري عميق مع الحزب الشيوعي الذي عاد وتبناه كلياً بعد اغتياله، بيد أن هذا لم يكن العنصر الأساس في حياة لوركا. العنصر الأساس هو كونه شاعراً شفافاً وحاداً في الوقت نفسه وكاتباً مسرحياً من طبقة الكبار. وحتى اليوم لا تزال مسرحياته مثل "عرس الدم" و"بيت برناردا ألبا" تسحر المتفرجين وتشكل جزءاً من ريبرتوار المسرح العالمي. ولوركا حين اغتيل كان في الـ37 من عمره، فهو ولد في بلدة نوينتيغا كويروس في الأندلس قرب غرناطة في 1899. وهناك أمضى سنوات حياته الأولى في أوساط الشعب ملتصقاً بالأرض، وظل طوال حياته معبراً عن التصاقه بشعب الريف وأرضه مستوحياً معظم ما كتبه من ذلك الاحتكاك. وهذا على رغم انتمائه إلى أسرة ثرية ما مكنه من تلقي دروس ثانوية راقية ثم الانتساب إلى جامعة غرناطة، حيث درس الأدب والحقوق ثم تعرف بالموسيقي الكبير مانويل دي فالا، الذي زاد من حبه للفولكلور وولعه به. وتحت تأثير دي فالا كتب لوركا ونشر، وهو بعد في الـ18، مجموعته الأولى "انطباعات ومشاهد". ولقد قاده نجاح تلك المجموعة إلى اتخاذ قراره بالانتقال إلى مدريد.
صداقات مدريدية
وصل لوركا إلى العاصمة وكان في الـ20 من عمره، وهناك ارتبط بكل تلك الصداقات التي أحدثت انعطافة أساسية في حياته: مع سلفادور دالي ومع لويس بونيال بين آخرين. وراح يهتم بالسينما والرسم والموسيقى إلى جانب الشعر وقاده هذا كله إلى المسرح فأولع به، أولع به إلى درجة أنه عمد لاحقاً إلى إقامة مسرح للدمى في دارة أهله، راح يكتب له النصوص التي كان دي فالا يضع لها الموسيقى. وبالنسبة إلى الشعر واصل لوركا كتابته وأصدر في 1921 "كتاب الشعر" الذي لفت إليه الأنظار حقاً، غير أن الشهرة الحقيقية لم تأته إلا في 1927 حين نشر في ملقا مجموعته "أغنيات". وهنا، هذه المرة، أيقن الإسبان أنهم أمام شاعر كبير، بخاصة أن مسرحيته الكبيرة الأولى "ماريانا بينيدا" عرضت في ذلك العام نفسه وحققت شهرة ونجاحاً كبيرين، ثم إن نشره مجموعته الشعرية الكبرى "أناشيد غجرية" (رومانثيرو) في العام التالي رسخ مكانته، فبات يعد أحد أكبر شعراء إسبانيا المعاصرين. وتجاوزت شهرته الحدود وبدأ شعره يترجم، فدُعي إلى الولايات المتحدة، حيث ألقى مجموعة محاضرات، وعاد من هناك بواحد من أجمل كتبه "شاعر في نيويورك"، كما أن مروره بكوبا، في طريق عودته، رسخ علاقته بالموسيقى والفولكلور، وهكذا حين عاد عين مديراً لمسرح "لاباراكا" الجوال فأخذ يدور بين المدن والقرى ويجمع الفولكلور الإسباني ويقدم كلاسيكيات مسرح إسبانيا. وهذه الذخيرة كانت هي التي مكنته، خلال الأعوام الأخيرة من حياته، من تكريس وقته للكتابة وللمسرح، فأخذ يكتب مسرحية بعد الأخرى: "عرس الدم" (1933)، ثم "يرما" (1934) و"روزيتا العزباء" (1935)، ثم "بيت برناردا ألبا" التي أنجزها قبل شهر واحد من مصرعه. أما آخر جولاته فكانت في أميركا اللاتينية خلال العامين الأخيرين من حياته، وهي جولة عاد منها بمشاريع وأفكار، أتى إعدامه ليلقي بها في وهدة النسيان.