تمثال برونزي للسيدة أم كلثوم، هيئة الجسد نفسها وانحناءات الثوب والمنديل في يدها. لا يحمل الوجه أي ملامح محددة، فلا تستطيع تبين الحدود الفاصلة بين الأنف والفم مثلاً، كما تم الاكتفاء بإشارة بسيطة لا تكاد تُرى في صوغ العينين. القرط الذي ترتديه يلتحم بمنطقة الرقبة، أما المنديل القماشي فيلتصق بالجسد في انحناءات متكررة، وهو المُفردة الوحيدة الظاهرة في الكُتلة. تتحرك انحناءات الثوب المُشكلة لكتلة التمثال من أعلى لتضيق قليلاً، ثم تتسع مرة أخرى في الأسفل لتُشكل معاً هيئة السيدة الواقفة في شموخ. مع كل هذا التجريد والاختزال التام للعناصر المُشكلة للكتلة النحتية، إلا أنك تستطيع بسهولة التعرف على هيئة صاحبته، إنها كوكب الشرق أم كلثوم، كأنها تؤدي إحدى أُغنياتها المسكونة بالشجن واللوعة.
تمثال أم كلثوم هو أحد أبرز أعمال الفنان المصري آدم حنين الذي وافته المَنيّة صباح أمس عن عمر يناهز التسعين. ويعد آدم حنين واحداً من أبرز النحاتين والتشكيليين في مصر والعالم العربي، وهو من مواليد عام 1929 . درس الفن في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، ثم استكمل دراسته في ألمانيا. عمل آدم حنين كرسام صحافي ومستشار فني في بعض الصحف المصرية في مطلع مساره، ثم سافر إلى باريس ليستقر هناك لسنوات قبل أن يعود إلى القاهرة مرة أخرى ليؤسس سمبوزيوم النحت الدولي على الأحجار في مدينة أسوان. وهو حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1998، واعماله موجودة في متاحف وصالات عالمية معروفة.
يُمثل تمثال أم كلثوم المُشار إليه نموذجاً لأسلوب الفنان، وهو أسلوب يعتمد على الوحدة العضوية ورسوخ الكتلة. لا يُصور آدم حنين الشكل على نحو مباشر، بل يتجاوزه إلى تصوير الأثر الذي يتركه ذلك الشكل في الذاكرة البصرية، فحين تتذكر أم كلثوم, من الممكن ألا تتذكر وجهها، ولكن يبقى في داخلك ذلك الأثر الذي تركته، هذا الأثر الذي تشكل بفعل الحالة الشعورية التي تنتابك حين سماع صوتها. نحن هنا أمام لغة أخرى لا تخاطب البصر وحده، بل تخاطب الوجدان. فالأشكال ترتبط في أذهاننا بالكثير من الانفعالات التي نُحس بها وتذكرنا بلحظة الرؤيا، فأنت تتذكر شيئاً في الشكل، وأنا أتذكر شيئاً آخر، وغيرنا أيضاً له تصوراته ورؤيته حسب ثقافته وخبرته الحياتية مع هذا الشكل.
سطوة الخامة
الخامة هنا تفرض حضورها على نحو لافت، فالتمثال البرونزي لأم كلثوم وغيره من الأعمال الأخرى التي أنجزها آدم حنين بالخامة نفسها تحمل بلا شك روح التعامل مع الأحجار، وهي الخامة المُفضلة لدى الفنان. تعامل آدم حنين مع الكثير من الخامات كالخشب والجص والبرونز، ولكن يظل الحجر هو الخامة المُفضلة لديه، وهو الخامة التي شكل من طريقها معظم أعماله، وسيطرت طبيعتها أيضاً على تشكيلاته النحتية بالخامات الأخرى. يفرض الحجر طبيعته على المُتعامل معه، خاصة إذا كان يتمتع بالصلابة الشديدة كأحجار البازلت مثلاً، فهو يحتم عليه الاختزال في الشكل إلى أقصى درجة حتى لا تتعرض الأطراف أو التفاصيل النافرة عن الكتلة الرئيسية للتدمير فيما بعد. هذا الميل إلى التعامل مع الحجر قد فرض خصائصه على تعامل الفنان مع الخامات الأخرى التي عمل عليها. يبدو ذلك واضحاً في المعالجات النحتية للأعمال على مستوى التشكيلات المجردة أو تلك التي استلهمها من العناصر المصرية القديمة كالبومة الفرعونية أو تمثال "آنوبيس" وغيرهما من العناصر الأخرى.
لا يُخفي آدم حنين في أعماله هذا الأثر الواضح الذي تركه الفن المصري القديم على سلوكه وقناعاته الفنية في التعامل مع الكتلة النحتية، وهو الذي تشبعت عيناه منذ صغره برؤية تلك المنحوتات الحجرية الضخمة لأجداده الفراعنة. وهو ظل يتذكر كل هذه التفاصيل، من ملمس الأحجار ورائحة المكان، وضآلة حجمه في مواجهة كتل الجرانيت والبازلت، وعيناه المفتوحتان بالدهشة؛ دهشة لازمته طويلاً وشكلت هذه العلاقة ما بين أعماله النحتية وتلك التماثيل التي ألهبت خياله وهو صغير. إن العلاقة بين أعمال الفنان آدم حنين والفن المصري القديم هي علاقة تواصل وامتداد روحاني وعضوي, يتجسد ذلك في طريقة معالجته للشكل، وفي اهتمامه بالوحدة العضوية للكتلة وعلاقتها بالفراغ، وفي ملمس الأحجار وانحناءاتها، وفي هذا القدر من التلخيص الذي يميز أعماله.
إلى جوار النحت مارس الفنان آدم حنين التصوير أيضاً. لجأ الفنان إلى ممارسة التصوير لكسر حالة الشغف بالتشكيل على الحجر من أجل الاستعداد لخوض مغامرة جديدة معه. في التصوير يبدو الأمر مختلفاً، فوتيرة العمل عادة ما تكون أسرع في نتائجها، وفي أحيان كثيرة يكون الفنان في حاجة إلى هذه السرعة في التعبير، كنوع من الفصل أو الهدنة القصيرة. في تعامله مع اللوحة لم يبتعد الفنان آدم حنين كثيراً عن رؤيته في التعامل مع النحت، فخلافاً للتجريد والاختزال الذي ميز أعماله تلك، فهو يعتمد أيضاً على مرجعية مرتبطة إلى حد كبير بالفن المصري القديم على مستوى التقنيات المُستخدمة في صوغ اللوحة، مثل اختياره لأوراق البردي كأسطح للرسم، واعتمادة على الأصباغ اللونية نفسها التي استخدمها الفنان المصري القديم في الرسم.