اختار الشاعر والمترجم المغربي أحمد لوغليمي المقيم في إيطاليا أن يقدم إلى القارئ العربي عملاً زاخراً بالحكمة والطرافة في الآن ذاته، فضلاً عن المتعة والتشويق. يتعلق الأمر بترجمته لمنتخبات من الكتابة الشذرية المعاصرة في إيطاليا بعنوان "بلد تلفّ فيه الكواكب حول دعسوقة" (دار خطوط وظلال). وهو كتاب مكثف يحتفي بالأدب الوجيز بكثير من الحماسة، فمعظم الكتّاب الإيطاليين المدرجين في هذه الأنطولوجيا يكتبون في شذراتهم عن الكتابة الشذرية بعينها، ويعلون من شأنها وينتصرون لها على حساب أجناس كتابية أخرى. وربما يعود هذا "التعصب" الأدبي إلى إيمانهم بما قاله الفيلسوف والشاعر والروائي الألماني فريدريتش شليغل قبل قرنين: "الشذرة فنّ يخاطب المستقبل".
جمع لوغليمي في كتابه الشذري أسماء معروفة في الحياة الثقافية الإيطالية من قبيل تشيزاري بافيزي وآلدا ميريني وأودجينيو مونطالي، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، وأسماء أخرى قليلة الشهرة من الجيل الأحدث، وقدّم كتّاباً وشعراء غير معروفين على الإطلاق لدى معظم القرّاء العرب.
بين الهدوء والتوتر الوجودي
استهل المترجم منتخباته الشذرية بكاتب معاصر متمرد اسمه فابريسيو كارمانيا، يطلق على نفسه لقب "متعقّب أعاجيب"، لا يشارك في اللقاءات الثقافية ولا يترشح للجوائز، ينسخ كتبه بخط يده ويوزعها على الأصدقاء والمحبين. وبالرغم من ذلك، تُرجمت كتبه إلى 12 لغة عالمية. في زمان مادي صرف يلوذ كارمانيا بالطبيعة، ليمارس فيها تأملاته، وليطرح عبرها أسئلته التي لا تنتظر أجوبة بالضرورة، بقدر ما ترغب بتنبيهنا إلى ما لا ننتبه له. لذلك يسأل: "إلى أين تذهب الجبال ليلاً حينما لا نراها؟ ربما تذهب لتسعف طرف سماء معيب يوشك أن يسقط". ثم يردف سؤالاً آخر: "بِمَ تحلم الأشواك حين تنام الزهرة؟".
يلخص هذا الشاعر الإيطالي المعاصر فلسفته في الحياة عبر شذرة تشبهه: "لا أحب المتعجرفين والمقتنعين بذواتهم. أفضل خضوع المتخفين، أولئك الذين هم هنا ليس لتهشيم العالم، بل لتجميع قطعه". لم يكتفِ لوغليمي بأن يجعل هذا الكاتب هو الأول على قائمة منتخباته، بل اختار عنوان كتابه "بلد تلفّ فيه الكواكب حول دعسوقة" من إحدى شذراته.
ويبدو أن لوغليمي آثر أن يقدّم إلى القارئ العربي أسماء "غير أليفة" في الحياة الثقافية. فالشاعرة الموالية في هذه الأنطولوجيا، واسمها نينا آين تقول عن نفسها: "أكتب نكاية في العالم، لأنني مقتنعة بأن العالم يرفض أن يُقال". السمة الغالبة على كتاباتها هي التوتر الوجودي، فالعلاقة بينها وبين العالم غير قابلة للتدجين. تقول آين في إحدى شذراتها: "الجحيم امرأة محبوسة مع ألف فستان في غرفة بلا مرآة". إنها تشعر بأن الطابع الذي يهيمن على عالمنا المعاصر هو "انعدام الأمان"، لذلك تحمل في كتاباتها روحاً انتحارية ترغب بمغادرة الكوكب، وفي محو كل ما سيبقى وراءها ويدلّ على مرورها منه: "عندما أرحل لن أترك فراغاً بعدي، سآخذه معي أيضاً".
شذرات أنطونيو كاسترونوفو، وهو أكبر سناً من كارمانيا وآين، آهلة بالحكمة والهدوء، وأحياناً بالطرافة. يقول في إحدى شذراته التي تتناول بسخرية مفارقات الإنسان المعاصر: "كان يحب البشرية، ولكنه لم يكُن يطيق جاره". في السياق ذاته، تطرح شذرات ماركو إيركولاني أسئلة مفتوحة عن الزمان والمكان وماهية الأشياء وجداوها.
تمجيد الكتابة الشذرية
في منتخباته المدرجة في كتاب لوغليمي يمجّد دوناتو دي بوتشي الكتابة الشذرية، ويرفع الكاتب الشاذر إلى مصاف عليا، لدرجة أنه يلغي صنفاً آخر يشترك معه في هموم الكتابة: "شذرة واحدة في اليوم تطرد من حولك الفلاسفة". تتخذ شذراته أحياناً صيغاً تعريفية مبطنة برسائل تدعو إلى الهدوء واكتساب ملكة الإصغاء: "الكتابة هي إصاخة السمع للصمت، والعيش واضعاً البحر في جيبك". ويذكرنا تعريفه للكتابة بتعريف إيتاليو كالفينو لأحد أجناسها: "الشعر هو فنّ وضع البحر في فنجان".
يترك ريكاردو دي دجينارو إحدى شذراته "بيضاء" تضامناً مع المضربين، ويوزع صاحب "الثورة المستحيلة" شذراته على تيمات متعددة تطرح كرونولوجيتها كثيراً من الأسئلة القلقة: الحب، الزواج، الألم، الموت.
ويبدو الموت تيمة أثيرة لدى فرانتشيسكو بوردين الذي يمجّد الوحدة والعزلة وفضيلة البعد عن الناس الذين "يعيشون أسوأ عيشة ممكنة ليتمكنوا من الموت ميتة جيدة". بينما يتوقف أمبرتو سيلفا عند ما آل إليه إنسان اليوم، وما غدت تتسم به سلوكياته التي فرضها إيقاع الحياة الجديدة. لذلك، ينتقد الكذب والحسد وقطيع المعجبين بأشخاص تافهين. أما الكاتب الإيطالي المعروف تشيزاري بافيزي الذي مات منتحراً عام 1950، فيكتب شذرات تحتفي باللامبالاة والزهد والنسيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يختم لوغليمي منتخباته بنصوص تخيّم عليها تيمة التوتر الوجودي التي استهل بها كتابه، كما لو أنه يريد أن يخبرنا بأن كتّاب الشذرات الإيطاليين ينطلقون من القلق ويعودون إليه. فالشذرة في عمقها رصد لحالة فلسفية، إنها تكثيف ليس للمعنى فحسب، بل للزمان أيضاً وللحركة.
في نصوص الإيطاليين تقاطعٌ مع مختلف أشكال الأدب الوجيز، وعلى رأسها تجربة قصيدة الهايكو في اليابان. ففي الشذرات القريبة من الشعر، يلمس القارئ هذا التقاطع من خلال بناء الجملة التي تقوم على تأخير الفعل وتقديم الظرف وشبه الجملة، وانتقاء المفردات من حقل الطبيعة، والتخفف من البلاغة وتأجيل الإبهار إلى القفلة، فضلاً عن هيمنة الطابع الحكمي والتأملي.
أراد المترجم المغربي أحمد لوغليمي عبر كتابه "بلد يلفّ حول دعسوقة" أن يقدّم لنا صورة عمّا آل إليه أدب الشذرات بعيداً من رواده وأقطابه من نيتشه إلى إميل سيوران ورولان بارت وفرناندو بيسوا وموريس بلانشو، وأن يقربنا في الآن ذاته من الأجيال الجديدة للأدب الإيطالي التي تناولت مشعل الكتابة بعد أودجينيو مونطالي وألبرتو مورافيا وجوسيبي أونغاريتي وتشيزاري بافيزي وإيتالو كالفينو وأمبرتو إيكو وغيرهم.