ملخص
منذ أن بدأت مصانع دقيق السمك "موكا" العمل في نواذيبو بموريتانيا وسكان المدينة يهجرون منازلهم بسبب الروائح الكريهة.
اضطرت الستينية ميمونة شامخ إلى عرض بيتها في حي الغيران بمدينة نواذيبو شمالي موريتانيا للبيع، قرار صعب استسلمت له بعد أصبح العيش فيه خطراً على صحتها، فهو يقع غير بعيد من مصنع لدقيق السمك، أو ما يطلق عليه شعبياً في موريتانيا "موكا".
ينفث المصنع روائح كريهة كل صباح ومساء فتتلبد سماء الحي بسحابة كثيفة يخلفها عملية طحن آلاف أطنان السمك لتحويله إلى دقيق، يتم تصديره إلى أوروبا، إذ يعتبر من أفضل أنواع السماد الزراعي.
لكن سمعة هذا المنتج في الخارج تختلف كثيراً عن سمعته في موريتانيا، إذ ارتفعت أصوات مجتمعية وقانونية للوقوف في وجه هذا الاستثمار الذي أنهك سكان نواذيبو صحياً وأضر ببيئتهم البحرية.
ما هي موكا؟
انتشر هذا المصطلح بين الموريتانيين قبل عقد من الآن، إذ أصبحت "موكا" كلمة دارجة في أحاديث سكان نواذيبو، الذين تغيرت حياتهم بعد أن قدم إلى مدينتهم أول مستثمر أجنبي ليفتتح مصنعاً لدقيق السمك.
ويؤصل الصحافي الموريتاني أحمد كركوب المتابع لهذه الظاهرة بقوله "موكا يطلقها السكان المحليون على دقيق السمك، وهو ناتج من طبخ ومعالجة كميات كبيرة من الأسماك وتحويلها إلى دقيق، وكذلك زيوت".
ويضيف "يمكن القول إن أهل نواذيبو عرفوا (موكا) قبل بداية الألفية وذلك عبر البواخر الأجنبية، خصوصاً الروسية التي كانت لديها بواخر على شكل مصانع في عرض البحر، لكن بداية الترخيص لها في نواذيبو كانت سنة 2010، إذ رخصت الدولة في أربع سنوات لأكثر من 40 مصنعاً".
وتتذكر ميمونة كيف كانت الحياة وادعة في حيهم قبل قدوم هذه المصانع، "كانت مدينتنا مصيفاً لكل الموريتانيين، فدرجات الحرارة معتدلة والمناظر جميلة، إذ تقع نواذيبو في شبه جزيرة على ضفاف الأطلسي، وهي إضافة إلى ذلك تعتبر عاصمة اقتصادية للبلاد، لكن كل ذلك تغير اليوم بفعل مصانع موكا".
ويلخص كركوب أضرار (موكا) على السكان من الناحية الاقتصادية بقوله "يتم طحن الأسماك الصالحة للاستهلاك وتحويلها إلى دقيق، إذ في مقابل كل أربعة أطنان من السمك نحصل على طن من دقيق (موكا)"، وعلى مستوى البيئة فقد تم تلويث أجواء مدينة نواذيبو بالكامل، وكذلك مياه البحر تلوثت هي الأخرى وباتت نسبة الأوكسجين فيها شبه معدومة".
وتواصلت "اندبندنت عربية" مع عدد من مسؤولي هذه المصانع للرد على اتهامات السكان ومنظمات المجتمع المدني حول عملهم، لكنهم فضلوا عدم التجاوب معها.
أضرار بيئة وصحية
تتعدد أخطار مصانع دقيق السمك التي غزت مدينة نواذيبو منذ عقد من الزمن، فحسب تقديرات لمتابعين لقضايا الصحة العامة في هذه المدينة الساحلية فقد تجاوز عدد مصانع (موكا) اليوم 60 مصنعاً تتمركز أساساً في أحياء كانصادو والغيران والنيمروات. ويتمتع أصحاب هذه الاستثمارات بنفوذ واسع في المدينة، بحسب ميمونة شامخ التي قالت إنها لم تجد آذاناً صاغية لمشكلات سكان حيها الذين تضرروا من انبعاثات مصانع هذه الشركات.
ويرى رئيس جمعية النهوض لحماية البيئة في نواذيبو سيدي محمد الطالب أن "أضرار موكا على البيئة البحرية في المدينة تنقسم إلى قسمين أولهما، هو الضرر البالغ الذي تسببه بواخر الصيد التي تغذي مصانع دقيق وزيت السمك، والتي تستنزف مصائد أسماك السطح وتحدث خللاً متزايداً في وسطها المنتج بتزايد حوادث صيد الثدييات والسلاحف والدلافين التي تقتات على أسماك السطح، كالسردين مثلاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الضرر الثاني –وفق الطالب– فيقع على الشواطئ المحاذية للمدينة بسبب عمليات الطحن والتجفيف التي تقوم بها مصانع دقيق السمك والتي تنتج منها مخلفات غازية كريهة الرائحة تؤثر في المدينة بشكل كبير خصوصاً في الصيف مع ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستوى الرياح".
ويضاف إلى ما سبق تحدٍ بيئي صارخ هو إضافة المخلفات العضوية السائلة التي تعود مباشرة لشواطئ الخليج المحاذي للمدينة مما يغير في توازنه البيئي محدثاً تلوثاً بالمواد العضوية ما يسبب نقصاً في مستويات الأوكسجين به ويقضي على الحياة فيه.
ومنذ سنوات تحركت منظمات من المجتمع المدني في نواذيبو ضد هذه الشركات لكنها تبقى خجولة بسبب قوة نفوذ أصحاب هذه الشركات وحمايتهم من قبل قادة وسياسيين، بحسب الصحافي أحمد كركوب.
مطالب بالإغلاق
وتسبب الوضع الكارثي لأحياء نواذيبو في زيادة الأصوات المطالبة بإغلاق هذه المصانع، ووصلت إلى قبة البرلمان الموريتاني، وسبق لنواب مدينة نواذيبو أن طالبوا وزارتي الصيد والاقتصاد بإعادة النظر في منح التراخيص لهذه الشركات.
ويعتقد الصحافي كركوب أن "الحل الجذري لهذه الشركات هو إغلاقها وتوجيه استثماراتها المالية إلى قطاعات حيوية يحتاج إليها البلد والعالم اليوم كزراعة الأسماك، أو أي نوع من أنواع الزراعات الأخرى يقبل عليها العالم حماية للكوكب، أو ترحيل هذه الشركات عن المنطقة الموجودة فيها ووضع رقابة شديدة عليها".
بينما يرى رئيس جمعية النهوض لحماية البيئة، أن "تعامل السلطات الموريتانية مع مطالب منظمات المجتمع المدني وساكنة المدينة بنوع من الإيجابية وبكثير من البراغماتية حيث تواصل هذه المصانع نشاطها، وفي الوقت نفسه تدرجت الوزارة الوصية في فرض مزيد من القوانين الهادفة إلى تنظيم رخص الصيد ومناطقه وكذلك ظروف التبريد والنقل ومعالجة المياه العادمة، وكذلك نوعيات وكميات الصيد إلا أن تطبيق هذه القوانين تبقى محدودة التنفيذ بسب انتشار الفساد في قطاع الصيد والرقابة البحرية والضرائب وحتى الجهات الوصية على شؤون العمال والمنافسة".
وما بين هذا وذاك، يؤمن الأهالي في نواذيبو بأنه منذ بدء هذه المصانع عملها في المدينة لاحظوا "انتشاراً غير مسبوق لأمراض الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن ومرضى الربو والحساسية بشكل أكبر مقارنة بغيرهم وتشهد على ذلك زيادة نسبة الأطفال الذين يولدون بمشكلات صحية تنفسية في نواذيبو".