ملخص
الفلاشا طائفة يهودية قديمة في إثيوبيا هاجر بعضهم إلى إسرائيل، وبلغ عددهم 37 ألف مهاجر يعانون العنصرية والتمييز قياساً بنظرائهم الأوروبيين
يميل الباحثون إلى الرجوع بيهود الحبشة إلى عهد نبي الله سليمان حينما سيطرت مملكته على الأرجاء وبلغت درجة من القوة والازدهار جعلتها تشق عباب البحر الأحمر إلى سواحل أفريقيا الشرقية، ومنها إلى الحبشة، إذ أسس التجار اليهود مراكز تجارية لهم على سواحل أفريقيا الشرقية إلى جانب العرب والفرس والهنود وغيرهم من الشعوب التي استقرت هناك للتجارة وكانت أفريقيا الشرقية مليئة بهم.
يشير عمر سلهم صديق في دراسة عن "يهود الحبشة - الفلاشا" إلى ذلك كونه أرجح الآراء في أصول يهود الحبشة، ويذكر أن "ساحل شرق أفريقيا منطقة تجارية جذابة لكل قاصد ربح فما بالك بموقف اليهودي منها وهو المجبول على حب المال والكسب". وترجعهم آراء أخرى إلى يهود مصر الذين خرجوا مع موسى (عليه السلام) هرباً من فرعون، وخلال فترة التيه قصدوا أرض الحبشة. وهناك من ينسب دخولهم أرض الحبشة إلى عهد نبي الله يعقوب حينما دخل مصر هو وأهله لحاقاً بيوسف (عليهما السلام) وكان حينها عزيز مصر، ويذهب الرأي إلى أن بعضهم قطع مساره واستقر في بلاد النوبة والحبشة عام 581 قبل الميلاد.
بعد غزو الحبشة لليمن للأخذ بالثأر من الملك اليهودي الحميري ذي نواس الذي أحرق المؤمنين النصارى في نجران، وفق ما ورد في مروية "أصحاب الأخدود".
ويقال إن ملك الحبشة النصراني انتصر على نظيره اليهودي الحميري وقتله. وترجع الرواية الفلاشا إلى يهود الشتات "الديسبورا" الذين تعرضوا للأسر عندما أخذهم الأحباش أثناء غزوهم لليمن سنة 525م، بعد المذبحة التي قام بها الملك اليهودي "ذو نواس" الحميري اليهودي في اليمن بحق نصارى نجران "أصحاب الأخدود".
وهناك رأي مصدره كتاب "كبرا نجست" أو "سجل الملوك" يرجع بالفلاشا إلى مملكة سبأ ونسل "بلقيس" أو "ماكيدا" ملكة سبأ التي تذكرها قصة سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم. وهو سند يعتمده الفلاشا لنسبهم ويفتخرون به.
و"سجل الملوك" أو "عظمة الملوك" كتاب حبشي يؤرخ لملوك الحبشة، ولا يزال له قدسية لدى الأحباش، وتعتبره الكنيسة الأرثوذكسية مرجع الإمبراطورية الحبشية، وتسلسل الشرعية الحاكمة انطلاقاً من قصة ملكة سبأ مع سليمان (عليه السلام)، ويغلفها التاريخ بقدر من الخيال والأسطورة.
عموماً، هناك آراء أخرى، ويختلف المؤرخون حول أصول اليهود الفلاشا، وكل ما ذكر من إرجاع لأصولهم لا يمثل رأياً قاطعاً، وضمن أهم النظريات كونهم من نسل الأسباط الـ12 المفقودة منهم، حيث ذهبوا إلى إثيوبيا بين القرنين الـ10 قبل الميلاد والثاني بعد الميلاد.
وبحسب المصادر، "يعود الاعتقاد إلى زمان موسى حين خروجه من مصر ومعه 12 سبطاً من أسباط اليهود، هم الأسباط المتحدرون من أولاد يعقوب وعددهم 12".
والفلاشا في اللغة الأمهرية تعني "المنفيين" أو "الغرباء"، والاسم مقصود به اليهود من أصول إثيوبية. وفي العبرية "بيتا إسرائيل"، ومعناها (جماعة إسرائيل). وتعد كلمة (فلاشا) نوعاً من الاحتقار، وتدل على التهجير وعدم الاستقرار والتيه الذي وعد الله به اليهود حينما عاندوا أوامره وعصوا رسله.
تطاول السنين
يمثل اليهود الفلاشا في إثيوبيا جزءاً لا يذكر في التركيبة السكانية ونسبة لعددهم الضعيف لا يمثلون قومية مكتملة، ويقال إن تعدادهم الشامل كان لا يتجاوز الـ60 ألفا، وذلك قبل التهجير الأخير إلى دولة إسرائيل ضمن "عملية موسى" الشهيرة عام 1983.
منطقة وجودهم في شمال إثيوبيا ويسكنون مدينة غوندر ومعروف عنهم الانعزالية في التلال المرتفعة التي يقطنونها داخل وحول غوندر محتفظين بحياتهم وعاداتهم الخاصة. ويشتهر يهود الفلاشا في إثيوبيا بامتهانهم أعمالاً حرفية كالحياكة والنسيج.
وعلى رغم أن اليهود لهم نشاط جم متعلق بالأعمال فإنهم في إثيوبيا لا يشكلون رقماً حقيقياً في هذا الجانب، إذ يقتصر نشاطهم على حرف كالرعي والحدادة والنسيج التقليدي، ومنهم الذين التحقوا بالمدن الكبيرة داخل إثيوبيا في أعمال أخرى، ربما تميز بعضهم بأسمائهم، وما يحرصون عليه من عادات، وغالب هؤلاء لا يجاهرون بيهوديتهم في مجتمع تغلب عليه ثقافات الديانة المسيحية والإسلامية ضمن خلفيات تاريخية ما زالت تلقي بآثارها على رغم تطاول السنين.
غوندر المقر
يقول المؤرخ الإثيوبي آدم كامل "تمثل منطقة غوندر الواقعة في شمال إثيوبيا (656 كيلومتراً من أديس أبابا) وما حولها مكان وجود الفلاشا وهم يقطنون أراضي منعزلة عن بقية السكان". ويوضح، "سكنهم منذ القديم في المرتفعات ليحرصوا على ممارسة طقوسهم الخاصة، وهم يمتهنون رعي الأغنام في حياة بدائية بتلك المناطق، ولا يتداخلون كثيراً مع السكان الإثيوبيين في مقارهم التقليدية المرتفعة، أما الذين يعيشون في المدن فيمارسون مهناً كالحدادة وشغل النسيج البدائي الذي يصنع فيه الأحباش الخيوط والملابس التقليدية المعروفة". ويشير كامل إلى أن "هناك قلة من الفلاشا نزحوا للمدن الكبيرة كالعاصمة أديس أبابا وامتلكوا بعض الثروات سواء عقارات أو استثمارات في مصانع كالحلويات. ومنهم من يعملون في زراعة الخضراوات، وزراعة الزهور إلى جانب يهود آخرين قدموا إثيوبيا مستثمرين وامتلكوا مزارع ضخمة ويعملون في الزراعة، وبخاصة الزهور، لتصديرها إلى أوروبا".
وعن دورهم في الدولة يضيف، "ليس لهم دور سياسي، لكن على عهد رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي، كان يحتفظ بمستشار اقتصادي يهودي من الفلاشا اسمه فاسيل ناهو". ويشير كامل إلى أن "يهود الفلاشا في إثيوبيا ليس لغالبيتهم طموح سوى الهجرة إلى إسرائيل، إلا أن الدولة اليهودية بالذات لها مرامٍ استراتيجية تجاه نظرتها للدور المنوط باليهود الفلاشا في طموحات إسرائيل الكبرى".
تعايش متسامح
من جهته يوضح الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في إثيوبيا حامد موسى أن تاريخ وجود اليهود الإثيوبيين يشير إلى أنهم لا يشكلون أصلاً في السكان الإثيوبيين، كما أن انعزاليتهم عن سكان الحبشة وانغلاقهم على أنفسهم يجعلهم غرباء، وهي حقيقة تتماشى مع اسم (الفلاشا) المعروفين به. ويتابع، "طوال حياتي في إثيوبيا لم أعرف أو أشاهد إثيوبياً يهودياً مجاهراً بانتمائه للديانة اليهودية، وأن إثيوبيا تتمتع بتعايش سلمي متسامح بين جميع مكوناتها، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية يعمل نحو غاية السلام المجتمعي بين جميع الأديان، والذي لا خلاف حوله أن المسلمين في إثيوبيا أكثر من غيرهم، ويشكلون نسبة 65 في المئة من السكان المقدر عددهم بـ125 مليون، فيما نعلم". ويوضح، "في إثيوبيا قبائل كبيرة ذات أراضٍ واسعة كالقومية الصومالية وقبيلة العفر، وكلهم مسلمون، والهرري بشرق إثيوبيا، والبرتا ببني شنقول وقبائل ووللي، وسيلتي بجنوب إثيوبيا، كلهم مسلمون، وفي قومية الأرومو التي تمثل أكبر القوميات يشكل المسلمون النسبة الغالبة".
عملية موسى
خلال القرن الماضي في أحد صباحات عام 1984 استيقظ العالم على نبأ ترحيل اليهود الفلاشا (مجتمع بيتا إسرائيل) من إثيوبيا إلى إسرائيل بتنسيق أميركي وبمساعدة من الرئيس السوداني جعفر نميري. كانت العملية السرية الأولى جرت في عام 1983 ورحل فيها 8 آلاف منهم فيما عرف بـ"عملية موسى"، وتم ذلك استناداً إلى فتوى الحاخام عوفاديا يوسيف، الذي أقر للمرة الأولى عام 1973 "بأن الفلاشا الأحباش يهود"، وذلك بخلاف المؤسسة الدينية اليهودية التي ظلت لسنوات طويلة رافضة للاعتراف بهم كأصل يهودي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرجح "الموساد"، وفق ما جاء في صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن بعض الخبراء المشاركين في "عملية موسى"، وهي العملية الأولى الشهيرة، نقل ما يقدر بـ8 آلاف يهودي إثيوبي.
واتهم الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري بتسهيلها وتمريرها عبر السودان نظير إغراءات مالية. ويشار إلى أن الحظ لعب دوراً في نجاح العملية، وأكد "الموساد" أنها كانت محفوفة بأخطار غير محسوبة. ويرجح أن 4 آلاف من بين 20 ألف يهودي ماتوا خلال نقلهم من إثيوبيا إلى إسرائيل نتيجة الأمراض والجوع. وتلخصت عملية موسى في نقل الفلاشا إلى إسرائيل وتغلفت بطلب أميركي من السلطات السودانية نقل بعض (اللاجئين الإثيوبيين) لإعادة توطينهم بالولايات المتحدة الأميركية، وكان مسؤولون سودانيون يعلمون أنهم يهود فلاشا، ولكن تنفيذاً لأوامر عليا عملوا على تأمين ترحيلهم في منطقة القضارف إلى مطار الخرطوم، حتى ركوبهم الطائرات إلى إسرائيل.
يقول المؤرخ السوداني والمدير السابق لجامعة أفريقيا والمتخصص في الشؤون الأفريقية حسن مكي، "الفلاشا طائفة يهودية قديمة يقال إنها جاءت تحمل التابوت من مصر من طريق النيل إلى أن وصلت منطقة النيل الأزرق وإثيوبيا واستوطنت هناك.
وقبيلة الفلاشا كما ورد في التحقيقات التي جرت بعد سقوط نظام الرئيس جعفر النميري في أبريل (نيسان) عام 1985، وصفت بأنها "أحد الكيانات الإثيوبية تعيش في منطقة غوندر، وهم يرجعون أنفسهم للأصل اليهودي المتحدر من نبي الله سليمان، وظلت الفلاشا منعزلة ومضطهدة من قبل المجتمعات الإثيوبية نتيجة الحساسيات الدينية، والطبائع اليهودية القديمة لأفرادها، كما أنها ظلت وأبناؤها لم ينالوا حظاً من التعليم ويعيشون كمجتمع بدائي، وهم اليهود السود الوحيدون في العالم". ويضيف، "بدأ تهجير الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل في أيام الرئيس جعفر نميري عام 1983، وساعد في ذلك (الموساد) والاستخبارات الأميركية، وكان لنائب الرئيس الأميركي جورج بوش الأب دور مهم في ذلك حينما رتب مع الرئيس السوداني النميري في نقل بعضهم بطائرات مروحية أقلت أعداداً كبيرة منهم". ويتابع، "استمرت العملية الأولى شهراً ونصف الشهر، بدأت من أول أكتوبر (تشرين الأول) 1983 حتى منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، إلى أن توقفت بعد الكشف عنها بواسطة بعض الإذاعات الأجنبية، لتبدأ مرحلة تهريب جديدة للفلاشا عبر قرية عروس السودانية على البحر الأحمر".
ويوضح مكي، "عدد اليهود الفلاشا الذين هجروا بلغ 37 ألف يهودي وفق الحقائق المثبتة، بعضهم هجر بالطائرات، وبعضهم بالسفن".
"عروس" البحر الأحمر
قرية عروس تقع على بعد 50 كيلومتراً شمال مدينة بورتسودان، استخدمها "الموساد" الإسرائيلي في نقل الفلاشا بعد تجهيزهم المكان.
وكشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية على موقعها الإلكتروني عما لعبته "قرية عروس السودانية"، وقالت إن عملاء استخباراتيين إسرائيليين كانوا يترددون بين منتجع عروس ومراكز إيواء اللاجئين بشرق السودان، ويعملون بصمت في نقل اللاجئين الإثيوبيين الفلاشا إلى المنتجع، ومن هناك تنقل الأفواج إلى إسرائيل بحراً أو جواً. وكان هؤلاء المستهدفون هم اليهود الفلاشا الذين أخرجهم الجوع من مناطقهم خلال ظروف المجاعة التي عمت حقبة الثمانينيات، واستغلت ظروفها إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة.
يشار إلى المناخ السياسي الذي ساعد في تهريب الفلاشا نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في إثيوبيا خلال سيطرة النظام الاشتراكي للرئيس منغستو هيلاماريام، لتشهد المرحلة الثانية قبيل سقوط نظام منغستو، وخلال ظروف عدم الاستقرار إبان الحرب الأهلية ضد النظام، ترحيل ما يقدر بنحو 15 ألف يهودي إثيوبي عبر جسر جوي مباشر إلى إسرائيل حتى عام 1991، وهي العملية الثانية التي أعقبت عملية موسى التي ذاع صيتها، وأطلق على العملية الثانية اسم "عملية سليمان".
وخلال عامي 2020-2021 نقل 2000 يهودي إثيوبي إلى إسرائيل، ولا يذكر حالياً أي نشاط جديد في نقل الإثيوبيين الفلاشا إلى الدولة اليهودية.
ويشير المؤرخ حسن مكي إلى أن "هناك كتباً كثيرة تحدثت عن موضوع الفلاشا ونشاط (الموساد)، لكن الثابت أن بعضهم استوعبوا كجنود وضباط في الجيش الإسرائيلي، ويقال إنه يعاد توطينهم حول بحيرة تانا في إثيوبيا وبحيرة فكتوريا بأوغندا". ويضيف، "مسألة اليهود الفلاشا و(الموساد) قضية كبيرة كونك تأتي بمواطنين من إثيوبيا وتزرعهم في فلسطين وتخرج الفلسطينيين من أرضهم ليكونوا مشردين".
تفريق وتمييز
يقول مدير موقع "الراصد الإثيوبي الإخباري" أنور إبراهيم، "الفلاشا يمثلون شريحة يهودية رحل منها نهاية القرن الماضي عشرات الآلاف إلى إسرائيل بهدف تعزيز ديموغرافية الاحتلال لأرض فلسطين، لكن على رغم اللغط الذي تبع عمليتي موسى وسبأ (سليمان)، فإنهم واجهوا واقعاً معقداً داخل إسرائيل. فمعروف عنهم في إثيوبيا أنهم طبقة ظلت فقيرة ومنغلقة على نفسها لم ينل عديد منهم تعليماً، فظلت الغالبية فيهم مرتبطة بأعمال وضيعة".
ويضيف، "ترحيلهم إلى إسرائيل في البداية واجه تعقيداً نتيجة الظروف التي عاشتها إثيوبيا أثناء حكومة العقيد منغستو هيلاماريام الماركسية، وكانت تواجه تمرداً داخلياً، فضلاً على عداوتها مع السودان، وهذا كان له انعكاسه في الوضع الأمني على حدود البلدين". ويشير إلى أنه على رغم أن البعض يعدونها ظروفاً مساعدة للأعمال غير الشرعية ممثلة في الترحيل السري الذي شاركت فيه جهات استخباراتية عديدة، فإن هذه الظروف نفسها أدت إلى موت عديد منهم قبل وصولهم إلى إسرائيل سواء لأسباب أمنية أو غيرها".
ويقول أنور، "على رغم البعد الإعلامي الذي صاحب عمليات ترحيل اليهود الإثيوبيين (الفلاشا)، ولا يزال أثره في ردود فعل عربية وسط محاولات وصول إثيوبيين آخرين يحلمون بإسرائيل، فإن من المهم تقييم التجربة حتى نهايتها، فماذا جنى الأوائل من مكاسب؟". ويوضح أن "غالبيتهم يواجهون تمييزاً عنصرياً وعدم نيل حقوقهم أسوة بنظرائهم القادمين من أوروبا. وهذا أدى إلى احتجاجات مستمرة للمطالبة بحقوق السود الإثيوبيين (الفلاشا)، وقد انتقلت هذه المطالبات إلى فئات إسرائيلية أخرى".
وعن توقعاته لملف اليهود الإثيوبيين الفلاشا يوضح أنور أنهم "لا يشكلون أثراً في إثيوبيا، سواء في بقائهم أو رحيلهم".