Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سنّار" رمز وحدة السودان وسلطنته الزرقاء

يعتبرها المؤرخون نموذجاً وطنياً ذابت فيه الولاءات القبلية لمصلحة القومية

أحد آثار السلطنة الزرقاء بمدينة سنار السودانية (حسن حامد)

ملخص

 يعتبر مؤرخون أن مملكة سنّار شكلت البداية الحقيقية للسودان الذي برز حديثاً، إلى جانب إسهامها في انتشار الدين والثقافة الإسلامية واللغة العربية.

دفعت الحرب والمعارك التي لا تزال محتدمة على أرض سنّار الولاية إلى بؤرة الأحداث والاهتمام من جديد عبر استدعاء أمجادها ودورها في تاريخ السودان، بوصفها مهد أول مملكة إسلامية نشأت في البلاد منذ خمسة قرون مضت.

ويضع التاريخ سنّار ضمن المدن والمناطق ذات الدلالات التاريخية الثقافية الإسلامية التي صنعت نموذجاً مميزاً وباكراً للوحدة الوطنية عبر دولة عرفت بـ "السلطنة الزرقاء"، وتحولت من مجرد عاصمة لمنطقة أو إقليم إلى إرث حضاري للسودانيين كافة، يعكس التنوع الثقافي والتراثي وعمق الوحدة السياسية والاجتماعية بين كل مكونات المجتمع.

موقع وذاكرة

جغرافياً تقع مدينة سنّار على الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق في ولاية تحمل الاسم نفسه في الجزء الجنوبي من وسط السودان، وعلى بعد نحو 500 كيلومتر من جنوب شرقي العاصمة الخرطوم بعدد سكان يقارب 160 ألف نسمة.

ويشير باحثون في التاريخ إلى أنه بجانب مكانتها الثقافية والروحية في السودان، مزجت مملكة سنّار بين التراث والتحديث في عملية نهضة البلاد ووحدتها الوطنية، إذ ولأكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن شكلت نموذجاً ذابت فيه الولاءات القبلية لمصلحة الولاء القومي.

وتاريخياً تعد سنّار من المدن ذات الدلالات الثقافية والإسلامية للحضارة السودانية القديمة، ونموذجاً للوحدة الوطنية حين كانت عاصمة لأول مملكة إسلامية قامت في البلد الأفريقي على أنقاض مملكة علوة المسيحية التي اتخذت من منطقة سوبا بالعاصمة الخرطوم عاصمة لها ومقراً في العصور الوسطى (500 - 1504) ميلادية، وبعد سقوط مملكة كوش كآخر الممالك النوبية الثلاث التي اعتنقت المسيحية بعد مملكتي نوباتيا والمقرة.

وبسقوط مملكة علوة أصبحت سنّار أول كيان سياسي نشأ في منطقة امتداد سودان وادي النيل خلال القرن الـ 16 الميلادي، وهي أول مملكة اعتنق حكامها الإسلام واعتبروه لاحقاً الدين الرسمي للمملكة.

 

 

وتضم مدينة سنّار كثيراً من المواقع الأثرية، أبرزها قصر السلطان والمسجد الكبير وحوش الحريم إلى جانب مجموعة من القباب البيضاء اللون التي اشتهرت بها المملكة، في تناسق وتنوع معماري يرتبط بمناخ والبيئة الطبيعية السائدة بالمنطقة.

ويعتبر كثير من المؤرخين أن مدينة سنّار شكلت البداية الحقيقية للسودان الذي برز حديثاً، إلى جانب إسهامها في انتشار الدين والثقافة الإسلامية واللغة العربية.

وخلال العصر السنّاري ازدهرت الصوفية وانتشرت الخلاوي التي أقامتها الجماعات الصوفية لتدريس القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية.

التحالف القوي

وبحسب مفتش الآثار السوداني عبدالله النزير فإنه وبحلول عام 1504 سقطت سوبا عاصمة مملكة علوة المسيحية في أيدي تحالف جيوش العبدلاب والفونج التي قادها عبدالله جماع، لتقوم على أنقاضها مملكة سنّار الإسلامية التي حكمت حتى سقوطها وتدميرها على يد جيش محمد علي باشا عام 1821.

وعلى أنقاض مملكة علوة المسيحية نشأت سنّار عام 1504 ميلادية، كأول مملكة إسلامية في السودان بعد دخول وانتشار الإسلام في البلاد، وسرعان ما تحولت إلى بؤرة للإشعاع الثقافي والإسلامي في أفريقيا، إذ كان أهل السودان في ذلك العهد يعرفون بـ "السنّارية" ويطلق عليهم كذلك لقب "السنانير".

ووفق أستاذ التاريخ السوداني حسن حمزة جاءت نشأة المملكة نتيجة تحالف قوي بين القبائل التي تسكن وسط السودان وعلى وجه التحديد بين العبدلاب وزعيمهم عبدالله جماع، والفونج بقيادة عمارة بن الملك عدلان الشهير بـ"عمارة دنقس"، وبالفعل تمكن هذا الحلف من الانتصار على مملكة علوة المملكة المسيحية النوبية الثانية والقضاء عليها.

أما في السياق الإداري فاتفق زعيما التحالف المنتصر على أن يكون لـ"عمارة دنقس" حكم مناطق علوة السابقة، كونه الأكبر والأقدم في مشيخة المنطقة، واتخذ من مدينة قري عاصمة لهم، على أن يحكم عبدالله جماع الإقليم الغربي منها واختار مدينة سنّار عاصمة لهم عام 1504، وبذلك أفرز هذا التحالف والاتحاد أول مملكة إسلامية سودانية تطبق النظام الفيدرالي اللامركزي، وعاشت خلالها البلاد فترة طويلة من الاستقرار.

أسماء ومسمى

عرفت مملكة سنّار التي ازدهرت وذاع صيتها وقوي مركزها لقرون عدة من الزمان فاستمرت زهاء 360 عاماً، أيضاً بـ "السلطنة الزرقاء"، وتربع على سدة حكمها سلسلة من الحكام الأقوياء وأسسوا أقوى حلف كنموذج يحتذى في الوحدة الوطنية، وقد تفاوتت وتباينت الروايات في شأن منشأ اسم سنّار، فهناك من المؤرخين من رده لأصل الكلمة في اللغة النوبية القديمة وتعني "عاصفة المطر" لوقوعها في حزام المنطقة المدارية المطيرة، بينما أرجعه آخرون لاسم امرأة تدعى "سنّار" كانت أول من سكن تلك المنطقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعرف عن ملوك سنّار اهتمامهم الكبير بالعلم، فأسسوا ما عرف بـ "رواق السنّارية" داخل الأزهر الشريف في العاصمة المصرية القاهرة، والخاص بطلاب مملكة سنّار المبتعثين إلى هناك، كما أنشأوا وقفاً بالمدينة المنورة لاستقبال زوار مملكتهم إلى الأراضي المقدسة، ولا يزال بعض آثار هذه الأوقاف قائماً، كما انتشرت ما تعرف بـ"الخلاوي"، وهي مدارس تقليدية لتحفيظ القرآن والتي تسمى أيضاً بـ"الكتاتيب"، وشجعوا هجرة علماء الدين الإسلامي إلى السودان، وبلغ مجد مملكة سنّار ذروته في عهد الملك بادي الرابع، خصوصاً في جوانب التجارة والانفتاح الاقتصادي، إذ امتدت علاقاتها وقوافلها التجارية إلى أجزاء واسعة من أفريقيا والجزيرة العربية ووصلت حتى الهند.

تكريم الرمزية

وفي ضوء الرمزية التي تمثلها المدينة، وتقديراً لمكانتها التاريخية والثقافية والدينية، اختيرت سنّار عاصمة للثقافة الإسلامية بواسطة المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) عام 2017.

وأوضح أستاذ التاريخ السوداني حسن حمزة أن مدينة سنّار تكتسب أهمية وقيمة تاريخية كبيرة كونها كانت عاصمة مملكة السلطنة الزرقاء، أول دولة طبقت اللامركزية في نمطها الإداري للحكم، والتي تعتبر أحد مطالب كثير من الشعوب السودانية الآن، إلى جانب أهمية موقعها الإستراتيجي الرابط بين ما بين النيل الأبيض وولايات كردفان ومنطقة المناقل والنيل الأزرق، مما جعل السيطرة عليها تعني السيطرة والتحكم في كل تلك المناطق.

إسهامات عالمية

وعن دور مملكة سنّار في تراث وتاريخ العالم أجمع وليس السودان وحسب، يقول الباحث في تاريخ السودان القديم عباس أحمد الحاج إنها من المدن العريقة جداً، لكن يبدو أن السودانيين لا يزالون يجهلون تاريخهم.

 

 

وأوضح الحاج أن مملكة سنّار لها بصمة عالمية في تاريخ العدالة والقوانين، فقد انتشرت القوانين والأعراف السنّارية وذاع صيتها في كل العالم آنذاك، متابعاً "زار القانوني الأميركي توماس جفرسون والذي أصبح لاحقاً ثالث رئيس للولايات المتحدة مملكة سنّار للاستفادة من تجربتها القضائية، فأخذ عنها قانون نظامي 'الجودية' و'المحكمين' ويتولى فيهما أهل الحل والعقد من الأعيان علاج بعض القضايا قبل وصولها إلى المحاكم".

وأضاف أن وصول الحرب والمعارك إلى مدينة سنّار أعاد تذكير الناس بأمجاد وتاريخ السلطنة الزرقاء التي كانت تتمتع بنظام قانوني وعدلي وقضائي متفرد، ففي حين كان ديوان الحكم يضم تسعة دواوين ظل ديوان القاضي المكون من خمسة طوابق هو الوحيد المفتوح مباشرة على مقر السلطان".

أما السبب في ذلك، بحسب الباحث، فيعود لأن السلطان كان يتابع المحاكمات، وإذا رأى أن القاضي أصدر حكماً غير عادل غادر مقعده (الككر) ليذهب مباشرة إليه لمراجعته ومناقشته في شأن الحكم الذي أصدره، وإذا اقتنع بعدالته يوافق.

ومن الأشياء المتفردة في النظام القضائي السنّاري، وفق الحاج، حجب المتخاصمين عن منصة القضاء، حيث كانت هناك منطقة عالية تعرف بـ"دكة من ناداك"، وهي مكان يحجب عن القاضي رؤية الطرفين المتحاكمين ليتعامل معهما من خلال أصواتهما فقط إمعاناً في العدل.

بداية النهاية

وتضافرت أحداث تاريخية مهمة شهدتها المملكة خلال النصف الثاني من القرن الـ 18 لتسهم في تفكيك المملكة بصورة تدريجية ومن أهمها ظهور ملوك ضعفاء من ملوك الفونج، وبرزت سطوة أكبر للوزراء على الملوك إلى جانب حالات تمرد وسط كثير من القبائل خلال تلك الفترة، مثل قبائل التاكا في الشرق والشكرية في الوسط، وإعلان خروجها عن طاعة السلطان، كما أعلنت قبيلة الشايقية انفصالها أواخر القرن الـ17.

وتواصلت خلال الـ40 عاماً الأخيرة من حكم مملكة سنّار كثير من الاضطرابات والفتن التي صحبتها سلسة من الثورات والحروب الأهلية كان يقودها زعماء بعض القبائل والمشيخات، بسبب الضعف الذي بدأ يمزق كيان المملكة وانعكس بدوره على حكم السلاطين، فضربت الفوضى البيت الحاكم حتى باتت فترات الحكم قصيرة بسبب عدم الاستقرار، وضعفت مكانة رجال الدين.

 

 

وأسهمت كل تلك العوامل مجتمعة في إضعاف مملكة سنّار وبدت وكأنها تحتضر عند اجتياح إسماعيل باشا لها أوائل القرن الـ19.

ومع الضعف والتمزق التقى رجال الدين في المملكة إسماعيل كامل باشا، الابن الثالث لمحمد علي، أثناء زحفه نحو العاصمة سنّار، وقدموا له فروض الطاعة في مقابل الأمان على أنفسهم، وبعد ذلك سلم السلطان بادي ابن طبل نفسه لجيش إسماعيل باشا الذي دخلها عام 1821، معلناً بذلك نهاية الممالك الإسلامية في السودان.

اقرأ المزيد

المزيد من متابعات