ملخص
"أجوب أسبوعياً عديداً من الصيدليات المجاورة لمنزلي للعثور على تلك الأدوية، أضطر كثيراً للاستعانة بأصدقائي المقربين وأفراد أسرتي من أجل مساعدتي في الحصول على الدواء في محيطهم، أو اللجوء إلى تطبيقات الدواء ومنصات التواصل الاجتماعي للعثور عليها".... حكايات مرضى السكري في مصر من أجل الحصول على الأنسولين.
أكثر من 35 كيلومتراً اعتاد الرجل الخمسيني طه عبدالعليم أن يقطعها من مدينة طوخ في محافظة القليوبية شمال القاهرة وصولاً إلى صيدلية الإسعاف الحكومية بوسط القاهرة، أملاً في العثور على جرعات أدوية الأنسولين، التي يحتاج إليها بصفة مستمرة، واللازمة لعلاج مرض السكري، الذي أصابه قبل نحو 9 سنوات.
وعلى رغم مشقة الطريق ولهيب الشمس الحارقة، لم يجد عبدالعليم وسيلة أخرى سوى اللجوء إلى تلك الصيدلية الكبرى، بعد أن فقد أمل الحصول على أنواع أدوية الأنسولين في عديد من الصيدليات المجاورة لمحيط منزله والمناطق القريبة منه، وهما دواءا "هيومالوج مكس 25" و"تروليستي 1.5 ملغ"، ما اضطره إلى الاستجابة لنصيحة أحد أصدقائه المقربين بالذهاب إلى تلك الصيدلية التي تضم عديداً من الأدوية الناقصة في السوق المحلية، للحصول على جرعات الدواء التي يحتاجها.
يقضي الرجل الخمسيني، الذي يعمل بإحدى الشركات القانونية، أغلب وقته في هذا المشهد المتكرر الذي اعتاده أسبوعياً من أجل الحصول على دوائه وسط زحام وطوابير طويلة من الرجال والنساء والأطفال الذين ينتظرون الحصول على جرعات الدواء المطلوبة.
رحلة البحث عن الدواء
يحكي عبدالعليم، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "كنت أجوب أسبوعياً عديداً من الصيدليات المجاورة لمنزلي للعثور على تلك الأدوية، كنت أضطر كثيراً للاستعانة بأصدقائي المقربين وأفراد أسرتي من أجل مساعدتي في الحصول على الدواء في محيطهم، أو اللجوء إلى تطبيقات الدواء ومنصات التواصل الاجتماعي للعثور عليها، وحينما كانت تفشل كل محاولاتي أذهب إلى صيدلية الإسعاف نظراً إلى شهرتها وتوافر أغلب الأدوية الناقصة بها"، موضحاً أن توفير دواء الأنسولين "بات أمراً حتمياً وضرورياً وليس رفاهية للتعايش مع مرض السكري وخشية من حدوث مضاعفات بأي وقت".
يؤكد عبدالعليم أن الأزمة لم تعد مقصورة فقط على اختفاء الأنسولين من الأسواق. لكن أيضاً في ارتفاع كلفته حال العثور عليه، بسبب انتشاره في السوق السوداء بأسعار مبالغ فيها. موضحاً "سعر علبة دواء (هيومالوج مكس 25) وصل إلى 880 جنيهاً (18.20 دولار أميركي)، فيما سعر علبة دواء (تروليستي) 3500 جنيه (72.40 دولار أميركي)، بعد أن كان سعرها منذ أشهر قليلة نحو 2500 جنيه (51.71 دولار)، ويُباع في السوق السوداء بنحو 8000 جنيه (165.48 دولار)". متسائلاً "هل يعقل أن يكون هناك نقص في دواء حيوي ومنقذ للحياة مثل (الأنسولين)؟ وكيف يمكن أن نعيش إذا استمرت تلك الأزمة طويلاً؟".
وكان نائب رئيس الوزراء ووزير الصحة والسكان المصري الدكتور خالد عبدالغفار، قد أعلن في مطلع أغسطس (آب) الماضي، في تصريحات صحافية، أن حاجات مصر من الأنسولين سنوياً تصل إلى 27 مليون عبوة من كل التركيزات. منوهاً أن مصر بكل مصانعها تنتج 4 مليارات عبوة من الدواء سنوياً، ولدينا 1.5 مليون مريض يحتاج إلى علاج من مرض السكري مسجل في التأمين الصحي.
حال الشاب الثلاثيني يوسف محمد لا تختلف كثيراً عن عبدالعليم، إذ يضطر لخوض رحلة شاقة يومياً بالمرور على عديد من الصيدليات المجاورة لمحيط منزله بمنطقة السادس من أكتوبر من أجل البحث عن دوائي الأنسولين "لانتوس" و"اكترابيد" لعلاج حالته المرضية بعد إصابته بمرض السكري.
يقول الشاب الثلاثيني، الذي يعمل موظفاً بأحد البنوك، خلال حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إنه اكتشف إصابته بمرض السكري من الدرجة الأولى نتيجة عوامل وراثية قبل عدة سنوات، ما جعله يواظب على تناول جرعات الأنسولين حتى يستطيع التعايش مع المرض.
ويضيف، "آخذ جرعة 20 ملل يومياً كل 24 ساعة من دواء (لانتوس) المعالج لمرض السكري، يصل سعره في الصيدليات إلى 870 جنيهاً (17.99 دولار) وأشتري العلبة الواحدة التي تكفيني لمدة 15 يوماً، بينما سعر دواء (أكترابيد) 195 جنيهاً (4.03 دولار)، وتعتمد جرعات الدواء منه على كميات الأكل التي يتناولها قبل كل وجبة، وتكفي العلبة الواحدة لمدة تراوح ما بين أسبوعين وثلاثة أسابيع".
وأجرت "اندبندنت عربية" جولة ميدانية على عدد من الصيدليات المنتشرة في مناطق مختلفة في نطاق محافظتي القاهرة والجيزة، للتأكد من مدى توافر أدوية الأنسولين من عدمه، إذ أكد أغلب أصحاب الصيدليات عدم توافر جميع أصناف أدوية الأنسولين. وعزا بعضهم السبب في ذلك إلى امتناع الشركة عن صرف الحصة المقررة منها، فيما أرجع آخرون ذلك لرغبة الشركات في رفع سعرها خلال الأيام المقبلة.
وتباينت آراء عديد من المتخصصين في السوق الدوائية، ممن تحدثت معهم "اندبندنت عربية" بشأن تلك الأزمة، إذ يرى بعضهم أن الأزمة "لا تزال خانقة" في ظل ندرة الأنسولين واختفائه في عديد من الصيدليات وارتفاع أسعاره في السوق السوداء بأسعار باهظة، بينما يرى آخرون أن هناك انفراجة تشهدها السوق المحلية في الوقت الراهن، ومن المرجح انتهاء الأزمة برمتها أواخر سبتمبر (أيلول) الجاري.
السوق السوداء ملاذ المرضى
وإلى ذلك، يقول المحامي الحقوقي ومدير جمعية الحق في الدواء محمود فؤاد، إن مصر "لا تزال تعاني أزمة واضحة تتمثل في نقص الأنسولين، الذي يعد من الأدوية الحيوية المنقذة للحياة"، منوهاً إلى أن مصر تستهلك سنوياً نحو 22 مليون عبوة من الأنسولين فيما يوجد نحو 12 مليون مريض بالسكري. مضيفاً "75 في المئة من أدوية الأنسولين اللازمة لعلاج مرضى السكري يجري استيرادها من الخارج والبقية منتج محلياً".
ويشير فؤاد، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن الحكومة المصرية "حاولت مواجهة الأزمة التي شهدتها السوق المحلية خلال الفترة الماضية بضخ مليون عبوة من الأنسولين منذ أسبوعين، ثم تلتها بـ 170 ألف عبوة أخرى، ثم 370 ألف عبوة من الأنسولين المنتج محلياً قبل يومين، ومن المُزمع أن تضخ مليوناً و500 ألف عبوة أخرى مستوردة من الخارج خلال الأيام القليلة المقبلة".
وفقاً لفؤاد، فإن المشكلة تكمن في أن أغلب كميات أدوية الأنسولين التي جرى ضخها في السوق المحلية كانت ترسل إلى صيدلية الإسعاف الحكومية، فيما تُرسل لبقية الصيدليات حصص محددة تختلف بحسب حجم الصيدلية، وما يُفاقم الأزمة أن شركات التوزيع "كانت تتعمد التفاوض مع الصيدليات بإقناعهم بالحصول على مكملات غذائية من أجل أخذ بعض حصص الأنسولين، وهو ما جعل الصيادلة يشتكون من ذلك الأمر، وتسبب في تضخم الأزمة".
ويؤكد مدير جمعية الحق في الدواء أنه أصبحت هناك سوق سوداء في بيع أدوية الأنسولين، مستشهداً "السعر الرسمي لعبوة الأنسولين (مكستارد) يصل في الصيدليات إلى 92 جنيهاً (1.90348 دولار)، فيما يُباع في السوق السوداء بأكثر من 500 جنيه (10.34 دولار)".
ويضيف، "المريض من الممكن أن يتحمّل أي شيء إلا نقص تلك الأدوية التي تعتبر من أساسيات الحياة اليومية له"، مضيفاً أن الأنسولين الموجود في السوق المحلية "لا يكفي لتلبية حاجات جميع المواطنين حالياً".
وكان رئيس هيئة الدواء الدكتور على الغمراوي أعلن في تصريحات تلفزيونية أواخر يوليو (تموز) الماضي، أن مصر تستهلك نحو 350 ألف عبوة من الأنسولين شهرياً، وقد يصل الاستهلاك إلى 500 ألف عبوة كحد أقصى. مشيراً إلى أنه من أغسطس إلى ديسمبر (كانون الأول) المقبل، سيكون هناك أكثر من 5 ملايين عبوة من الأنسولين المستورد من الخارج، إضافة إلى الإنتاج المحلي، لتلبية حاجات السوق. مؤكداً أنه سيجري اتخاذ كل الإجراءات القانونية ضد أي صيدلية تبيع الأدوية بأسعار أعلى من التسعيرة المعلنة، التي قد تصل إلى حد الغلق.
وأضاف أن هناك ثلاث شركات تنتج الأنسولين في مصر. وجرى ضخ 400 ألف عبوة من الأنسولين في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) إلى الصيدليات، مضيفاً أن الكمية التي ضُخت في السوق تغطي الطلب المطلوب، مشيراً إلى أن الشركة الأولى تقوم بإنتاج 1.1 مليون عبوة من الأنسولين محلياً، ومنوهاً إلى أن بعض المواطنين يشترون الأنسولين ويخزنونه بدافع الخوف من نفاده، مما قد يؤدي إلى انتهاء صلاحيته من دون الاستفادة منه.
هل تصدير الأنسولين السبب؟
على النقيض من الطرح السابق، يقول رئيس شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية الدكتور علي عوف إنه "لا توجد أزمة نقص أنسولين في الوقت الراهن"، منوهاً إلى أن الأزمة حُلت تدريجاً منذ مطلع أغسطس الماضي، بعد ضخ الحكومة نحو 900 ألف حقنة أنسولين، لافتاً إلى أن كل صيدلية تحصل على ما بين 5 إلى 50 علبة بحسب حجم الصيدلية، ويجري توزيعها طبقاً لتعليمات هيئة الدواء المصرية، مشيراً إلى أن حجم الأنسولين المتوافر في السوق المحلية "يكفي لتلبية الحاجات لمدة شهرين مقبلين".
ويضيف عوف، خلال حديثه لـ "اندبندنت عربية"، "أزمة نقص الأنسولين في السوق المصرية التي حدثت خلال الفترة الماضية حدثت بعد تعرض أحد مصانع الأنسولين بإحدى الدول الأوربية لمشكلة نتج منها تفاقم الأزمة في مصر"، مشيراً إلى أن مصر تحتاج إلى أكثر من 20 مليون حقنة أنسولين من القطاعين الخاص والحكومي سنوياً.
وكانت منظمة الاتحاد الدولي للسكري (IDF)، أصدرت تقريراً حمل عنوان "أطلس مرض السكري" في منتصف فبراير (شباط) من عام 2022، ووفقاً للإحصاءات المذكورة في التقرير، جاءت مصر بين الدول العربية الأعلى بعدد المصابين بمرض السكري الذين تتراوح أعمارهم ما بين 20 و79 سنة، لتصل نسبتهم إلى 20.9 في المئة، وإجمالي عددهم إلى 10.9 مليون شخص خلال عام 2021، وتلتها في المرتبة الثانية السعودية على الصعيد العربي بنسبة بلغت 18.7 في المئة، بإجمالي 4.3 مليون شخص، ثم السودان 18.9 في المئة، ومجموع 3.5 مليون شخص.
وبشأن تصدير الأنسولين المصري للخارج، يقول رئيس شعبة الدواء، إن مصر "لا تصدر أنسولين للخارج لا سيما بعد الأزمة التي شهدتها السوق خلال الفترة الماضية، التي يجري حلها حالياً، لكن المتعارف عليه أن الأنسولين المصري مطلوب في شرق أوروبا وأفريقيا، لأن المادة الخام به جيدة وسعر التكلفة أقل".
وكان وزير الصحة والسكان الدكتور خالد عبدالغفار قد كشف عن تصدير مصر للأنسولين المحلي خلال الفترة الماضية إلى أميركا الجنوبية، في وقت تشهد الأسواق عدم توافره بالصيدليات، سواء المحلي أو المستورد. وبرر عبدالغفار، بمؤتمر صحافي في 6 أغسطس الماضي، تصدير الأنسولين على رغم حاجة الأسواق لأي كميات منه، قائلاً إن مصر "لم تصدر إلا شحنة واحدة صغيرة فقط".
يُعضد الطرح السابق، حديث رئيس لجنة التصنيع الدوائي بنقابة الصيادلة الدكتور محفوظ رمزي، موضحاً أن أزمة نقص الأنسولين بدأت حادة للغاية ثم أصبحت تشهد أخيراً انفراجة نسبياً بعد ضخ المصانع أكثر من مليون و200 ألف عبوة خلال الأيام الماضية لشركات التوزيع. متوقعاً حل الأزمة نهائياً في نهاية سبتمبر (أيلول) الجاري.
ويضيف رمزي، لـ"اندبندنت عربية"، "الأزمة كانت بسبب عدم قيام شركات التوزيع بضخ كميات الأنسولين كاملة إلى الصيدليات، لكنها ترسل حصصاً محددة (كوتة) لكل صيدلية، واللجوء للتفرقة في المعاملة بين الصيدليات الكبيرة والصغيرة"، مردفاً "الصيدليات الصغيرة والمتوسطة تعرّضت للظلم في الحصول على كوتة الأنسولين من شركات التوزيع، وحاولت هيئة الدواء السيطرة على هذا الأمر، والتدخل من خلال نظام التتبع الدوائي لضمان وصول الدواء إلى جميع الصيدليات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ذلك السياق، تقول عضو لجنة الصحة بمجلس النواب الدكتورة إيرين سعيد، إن بعض الصيدليات استغلت أزمة نقص الأنسولين في السوق المحلية خلال الفترة الماضية وخزنت كميات كبيرة منه للاستفادة من بيعه للمواطنين بأسعار أعلى من كُلفتها الحقيقية، مشيرة إلى أن عديداً من المواطنين كانوا يلجأون إلى السوق السوداء ومنصات التواصل الاجتماعي لشراء الدواء بأي سعر، نظراً إلى حاجتهم الملحة إليه، منوهة إلى أن أغلب الأدوية الحيوية ومن بينها أدوية الأورام يتم بيعها بأسعار باهظة في الوقت الراهن.
وتضيف عضو لجنة الصحة، خلال حديثها إلى "اندبندنت عربية"، أنها تلقت استغاثات عديدة من المواطنين خلال الفترة الماضية في هيئة التأمين الصحي والمستشفيات يشكون عدم العثور على الأنسولين وصرف الحصص بكميات أقل من المعتاد، موضحة أنه أصبح هناك تحسّن ملحوظ أخيراً في تلك الأزمة بعد ضخ الحكومة كميات كبيرة من الأنسولين في السوق.
وتشير إيرين إلى أن أزمة الدولار التي شهدتها الدولة المصرية في السنوات الماضية، أجبرت عديداً من أصحاب المصانع على وقف خطوط الإنتاج، بسبب عدم قدرتهم على توفير المواد الخام، وهو ما أثر في عديد من أصناف الأدوية، من بينها الأنسولين.