ملخص
ليست الحقيقة في هذه القصة مفاجئة فقط، بل مرعبة وموجعة، لكن المخرج يجبر الجمهور على مواصلة الفرجة ولا يتيح لهم فرصة الإشاحة بأنظارهم عن الخشبة ولو للحظة واحدة.
إنها ليلة الانتخابات، ويظهر "أوديب" كسياسي متألق من القرن الـ21، يعد بإصلاح الأوضاع.
يقود أنصاره حملة تدعو إلى الصدق والشفافية، مستخدمين ملصقات جذابة مستوحاة من أسلوب حملة باراك أوباما، لكن وعلى رغم ذلك يبدو واضحاً أن ماضيه القديم القذر سيلاحقه.
على خشبة المسرح، هناك ساعة رقمية تعد الثواني والدقائق إلى... ماذا بالضبط؟ في هذه النسخة الجديدة من "أوديب"، يبرع الكاتب والمخرج روبرت آيك في تحويل هذه التراجيديا الإغريقية، التي يعرف الجميع (تقريباً) نهايتها، إلى تجربة مشوقة مليئة بالتوتر تترك أثرها المؤلم في المشاهدين مثل نقش وشم دقيق على الجسد.
انطلقت المسرحية من أمستردام عام 2018 باللغة الهولندية، ثم انتقلت إلى مهرجان إدنبرة الدولي بعد عام.
هذه العروض المتأخرة على مسارح ويست إند في لندن تحتفظ بالروح الأوروبية نفسها التي حملها الإنتاج الأصلي، ولكن مع طاقم تمثيلي جديد يتألق بفضل الكيمياء الواضحة بين نجمي العرض، مارك سترونغ وليزلي مانفيل.
يجسد سترونغ نسخة من أوديب مفعمة بقدر كبير من النزاهة والشجاعة المخيفة في بعض الأحيان، بينما تضفي مانفيل حساً هشاً من الجاذبية إلى دور زوجته جوكاستا.
في هذه النسخة من "أوديب"، صعد البطل إلى السلطة بوعده بتفكيك النفاق وفتح الأبواب أمام الشفافية المطلقة، ولكن سرعان ما يبدأ قصره المبني على المبادئ بالتداعي تحت ثقل ماضيه الغامض والمليء بالتناقضات.
القدر قاسٍ، قديم، وماكر، يدخل العراف الأعمى تيريسياس (يؤديه سامويل بروير) إلى مكتب أوديب الأبيض والنظيف ليخبره بنبوءته، لكن السياسي يتجاهل ذلك باعتباره مجرد "تهويل من عصر جديد"، في إشارة ذكية من المخرج إلى التشابه بين الأساطير الإغريقية القديمة وعودة الخرافات والشعبوية في عصرنا الحديث.
لكن أوديب هنا، وعلى رغم كونه معاصراً، ليس محصناً ضد الممارسات التقليدية، وهو ما يعكسه آيك من خلال استخدام لغة مليئة بالألغاز والتلاعب بالألفاظ والكلمات، بطريقة موازية للتضليل في الخطب السياسية المعاصرة، تقول جوكاستا "نحن نعيش تحت أغطية محشوة بالأكاذيب"، في إشارة إلى تراكم الخداع من حولهم.
يصل أولاد الزوجين الثلاثة إلى العشاء في ليلة الانتخابات، حاملين معهم حقائق محرجة، يعبر آيك بمهارة عن صراحة هؤلاء الشباب، إذ يتصارع التوأمان إيتيوكليس (جوردان سكوين) وبولينيسيس (جيمس ويلبراهم) كأنهما ذئبان صغيران متوحشان، ويكشف كل منهما بصورة فاضحة أسرار الحياة العاطفية للآخر.
أما أنتيغون (فيا سابان)، المعروفة بصراحتها القاسية، فتدخل في مواجهة مع جدتها ميروب (جون واتسون) الملتزمة بالتقاليد، في مشهد يشبه شفرات السكاكين التي تشق اللحم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتم هنا تناول العلاقات الجنسية والعاطفية بأسلوب مرح وساخر أحياناً، إذ تقوم جوكاستا باستفزاز أوديب باستمرار، وتسخر من نبوءة تيريسياس المستحيلة التي تنبأت بأنه سيمارس الجنس مع أمه، مما يجعل الكشف النهائي عن الحقيقة صادماً ومؤلماً أكثر.
هناك قوة واضحة في الطريقة التي يعيد فيها أوديب وجوكاستا تقييم علاقتهما الجسدية المتغيرة على خشبة المسرح، إذ تعتلي مانفيل سترونغ وتتلوى فوقه، ليتحول عناقهما الحميم الشهواني إلى رمز لميلاد جديد، يتركهما ينزفان في النهاية.
وعندما تضطر جوكاستا إلى ارتداء ملابس زوجة السياسي الأنيقة، تشعر بالخجل للحظة وهي تكشف صدرها العاري أمام زوجها، كما لو أنها حواء المطرودة من الجنة، وتشعر بالضياع في دور كان في السابق يبدو طبيعياً تماماً.
يلتزم إيك عمداً بالتقاليد الدرامية اليونانية القديمة من خلال حصر مسرحيته في إطار زمني واحد، مع تطور الأحداث في الوقت الفعلي. وهذا الالتزام لا يؤدي إلا إلى زيادة التأثير عندما يكسر في النهاية التقاليد، مما يضيف طبقة إضافية من الصدمة.
ليست الحقيقة في هذه القصة مفاجئة فقط، بل مرعبة وموجعة، لكن آيك يجبر الجمهور على مواصلة الفرجة ولا يتيح لهم فرصة الإشاحة بأنظارهم عن الخشبة ولو للحظة واحدة.
يستمر عرض مسرحية "أوديب" على خشبة مسرح ويندام حتى الخامس من يناير (كانون الثاني) 2025.
© The Independent