Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

"غسالة" تولوز لوترك تستلهم أفكار زولا "الطبيعية"

حين يهتم الفنانون الأثرياء في إبداعهم بالطبقات العاملة السفلى من موقع التعاطف الغامض

لوحة "الغسالة" لهنري دي تولوز لوترك (موسوعة الفن الكلاسيكي)

ملخص

رسم تولوز لوترك "الغسالة"، وكان بعد في الـ22 من العمر، ولا يزال في المراحل الأولى من عمله الفني، ومن هنا يبدو في ذلك الحين متأثراً بما كان يعيشه من تأثيرات إبداعية. ولعل اللافت هنا هو أن تلك التأثيرات الأولى لم تكن فنية بقدر ما كانت أدبية بالنسبة إليه، وهو الذي كان يهتم حينها بالقراءة أكثر من أي نشاط ثقافي آخر.

خلال الربع الأخير من القرن الـ19، وفي وقت كانت الحياة الاجتماعية، ومن ثم الإبداعية الفرنسية تعيش نوعاً من مرحلة انتقالية تبعدها إلى حد كبير عن الرومنطيقية السائدة وتميزها عن انطباعية غارقة في جمالياتها، كما عن رمزية تنطحت للحلول مكان التيارات جميعاً، اكتشف عدد لا بأس به من الفنانين الفرنسيين أن في إمكانهم الآن أن يسيروا على خطى ما بدأه أديب تلك المرحلة إميل زولا، عبر روايات اجتماعية تجلى من خلالها نزوع إلى واقعية اجتماعية مفرطة حملت اسم "النزعة الطبيعية"، وقوامها استنساخ شخصيات ومشاهد وعلاقات يؤتى بها من الحياة اليومية لتشغل إبداعات راحت تلاقي نجاحاً لا بأس به. بل بالأحرى راحت تلفت النظر انطلاقاً من كونها تسم بدايات عدد من أولئك الفنانين، وفي الأقل بانتظار سلوك هؤلاء دروباً أخرى أكثر تشعباً وتركيبية. ولعل اللافت أكثر من أي أمر آخر هنا هو أن الفنانين اللذين ينطبق عليهما هذا التوصيف أكثر ما ينطبق، كان ثمة بينهما قاسم مشترك لا بد من الإشارة إليه. فلئن كنا نشير هنا إلى مبدعين متزامنين تقريباً هما هنري دي تولوز لوترك وغوستاف كاييبوت، فإن ما يجمعهما هو كونهما تحدرا من أرستقراطية موسرة، ومن هوس فني معين جعل البداية القوية التي تجمعهما نوعاً من التعبير في لوحات أخاذة عن الطبقات العاملة التي لا ينتمي إليها أي منهما.

 

بعيداً من الخيانة الطبقية

طبعاً لا يمكننا أن نقول هنا إننا نتحدث عما يمكن أن يسمى "خيانة طبقية". كل ما في الأمر أن الفنانين المتعاطفين مع نزعة اجتماعية تنطلق من تعاطف أخلاقي، وجدا في مشاهد وشخصيات تنتمي إلى العمال مواضيع فنية تمكنهم من التعبير عن تلك الأخوة البشرية والتوزع الاجتماعي في الحياة اليومية لا أكثر ولا أقل. ويبدو لافتاً هنا أن تولوز لوترك وكاييبوت، وفي مرحلة واحدة تقريباً، وجدا موضوعاً جذاباً عبر رسم عمال يقومون بعملهم في الحياة اليومية، تماماً كما أن تولوز لوترك بدا على تطابق شبه تام في لوحة له عنوانها "الكواءة"، أو "الغسالة"، مع نزوع زميله إدغار ديغا، بدوره إلى جعل "كواءة"/ "غسالة" من النوع نفسه بطلة للوحة له هو الآخر. والحقيقة أنه لئن كانت اللوحتان تصوران مشهداً داخلياً حميماً من ناحية علاقة كل من "كواءتيهما" بعملها، فإن تولوز لوترك بدا أكثر اهتماماً بالشخصية إذ رسمها في اسكتشات تخطيطية أخرى، وهي تسير في الأزقة حاملة أكياساً مليئة بثياب جمعتها من البيوت كي تقوم في بيتها الخاص بغسلها وكيها. أما اللوحة التي نتحدث عنها هنا وتحمل، كما لوحة ديغا اللاحقة، عنوان "الكواءة"، بكل بساطة، فهي لوحة زيتية ذات حجم متوسط (73 سنتيمتراً عرضاً و95 سنتيمتراً ارتفاعاً). وهي رسمت بين عامي 1886 و1887، وتعد عادة من نتاج بدايات الرسام قبل أن ينصرف إلى حياة الليل الباريسي وتصويرها في لوحات وملصقات أوصلته، وأوصلت ذلك النوع من الفن الخاص جداً إلى الخلود، في تعويض له على مصائبه الجسدية، وعقده النفسية، وهامشيته التي لم تتمكن حتى ثروة عائلته الهائلة ومكانتها الاجتماعية من سد نواقصها فقام الفن بذلك كما نعرف.

تأثيرات واضحة

كما نوهنا قبل سطور، رسم تولوز لوترك "الغسالة"، وكان بعد في الـ22 من العمر، ولا يزال في المراحل الأولى من عمله الفني، ومن هنا يبدو في ذلك الحين متأثراً بما كان يعيشه من تأثيرات إبداعية. ولعل اللافت هنا هو أن تلك التأثيرات الأولى لم تكن فنية بقدر ما كانت أدبية بالنسبة إليه، هو الذي كان يهتم حينها بالقراءة أكثر من أي نشاط ثقافي آخر. ومن الواضح، في "الغسالة" في الأقل، أنه واقع تحت تأثير إميل زولا بالنظر إلى أن ثمة في عدد من روايات زولا وصفاً للغسالة "جرفيه"، التي كانت هي نفسها تلك التي رسمها إدغار ديغا في اللوحة التي أشرنا إليها. ومع ذلك قد لا تبدو الغسالة التي رسمها تولوز لوترك نسخة من غسالة زولا أو ديغا، بل تبدو كأنها تمهد لنساء كثيرات سيرسمهن تولوز لوترك لاحقاً، وإن بواقعية فوتوغرافية أقل، وبألوان أكثر صخباً. ففي نهاية الأمر واضح في لوحة تولوز لوترك أن الغسالة هنا أكثر تأملاً وهي، حتى وإن بدت مستغرقة في عملها بكل جهد واهتمام، فإنها أكثر انحناء نحو حلم بعيد ما. نحو مستقبل يختلف وربما اختلافاً جذرياً عن واقعها. وما نظرتها الشاخصة بعيداً بل حتى في ما هو وراء النافذة، مصدر الضوء الوحيد في الغرفة الضيقة التي تمارس فيها عملها يبدو واضحاً مدى إتعابه لها رغم إخلاصها في القيام به، ما تلك النظرة سوى التعبير البديهي عن تطلعها إلى مستقبل تريد أن تصنعه على مزاجها في تصميم يلوح ليس فقط من خلال نظرتها وشعرها الذي يغطي نصف وجهها، بل كذلك وخصوصاً عبر تمسك قبضتها اليسرى بحافة طاولة الكوي التي تستند إليها.

تعبير عن حداثة ما...

مهما يكن من أمر فقد يكون من المفيد هنا أن ننقل عن مؤرخي تلك المرحلة من الذين اهتموا بسوسيولوجيا الفن، نظرتهم إلى هذه اللوحة كما إلى أعمال كاييبوت المنتمية إلى الحقبة الزمنية نفسها مكانياً، كما إلى الحياة اليومية الباريسية زمانياً، بوصفها، على رغم أكاديمية فاقعة رصدوها فيها، تعبيراً عن حداثة ما "تقف بالتناقض التام مع نوع من أمثلة لوضعية المرأة في المجتمع عبرت عنه النزعة المثالية الصاعدة نازعة من المرأة واقعاً يجعلها جزءاً من الطبقة العاملة كعاملة، أو كربة بيت وأم وزوجة تعيش في بيئة الطبقة العاملة من دون أن تكون قوة فاعلة أو كائناً حالماً، أو ما يشبه ذلك...". فامرأة تولوز لوترك هنا هي جزء فاعل من تلك الطبقة في حد ذاتها، وهو من منطلق سوسيولوجي عثر فيها على تعبيره الفني. والحال أن تأكيد هذا الأمر هنا كان يستنجد بالاسكتشات الأخرى التي رسمها تولوز لوترك لوضعيات مختلفة تصور فيها تلك المرأة العاملة نفسها في تعبيرات مختلفة عن علاقتها بعملها. وتبدو قوة هذه الفرضية من خلال تأكيد الرسام، ومن درسوا لوحته هذه على أن المرأة - الموديل في تلك اللوحة، وملحقاتها ليست امرأة محدداً لها اسم وتاريخ، بل إنها تقدم لنا عبر قيمتها في سوق العمل، وإن كانت هي تبادر من خلال "حلمها البعيد" بمنح نفسها تلك الخصوصية الممحية تماماً، في لوحة ديغا، والتي من الواضح أنها لم تخطر في بال تولوز لوترك وهو يرسم اللوحة. ولكن، في المقابل، خطر في باله، بالتأكيد، أن يحدد من خلال الضوء الغامر الآتي من فسحة الحرية المنشودة الوحيدة في اللوحة: أي النافذة، تطلع الغسالة إلى ما قد يتجاوز وضعها الطبقي.

بين رفاق طيبين

والحال أننا إن كان في مقدورنا وبصدد هذه اللوحة تحديداً، أن نتحدث عن تلك العزلة المطلقة للمرأة - الموديل التي يرسمها تولوز لوترك هنا، فإنه ليس من شأننا، في المقابل، أن نربط بينها وبين عزلة ما، يمكن أن نعزوها إلى الرسام انطلاقاً منها عبر مفهوم لغة الذات العزيز علينا عادة. ففي نهاية الأمر لا بد من أن نشير هنا إلى أن الحقبة التي أنجز فيها الرسام هذه اللوحة، كانت واحدة من الحقب الأكثر احتفاء بالحياة في تاريخه، التي قربته بأشد ما يمكن من العدد الأكبر من أصدقاء سيملأون حياته. فهو عند بدايات تلك الحقبة (1884 - 1855) كان قد انتقل للعيش نهائياً في مونمارتر، وتعرف إلى فان غوخ ليرتبط معه بصداقة ستدوم طالما الرسام الهولندي يعيش في باريس، ثم ارتبط بالشاعر ستيفان مالارميه قبل أن يتعرف بسوزان فالادون (رسامة) التي أضحت موديله وعشيقته، واستوحى منها ومن صديقاتها، رسوماً عديدة راح ينشرها في الصحف، ولسوف تكون هي تلك الرسوم الكاريكاتيرية التي غيرت من توجهاته الفنية مبعدة إياه عن تلك الأمثلة "الطبيعية" بل حتى الفوتوغرافية التي نجدها في لوحة "الغسالة".

المزيد من ثقافة