ملخص
يشهد "حزب الله" بوادر تصدع داخلي غير مسبوق بعد اغتيال قياداته البارزة، مما أعاد الجدال حول وجود أجنحة متصارعة داخل الحزب. وتصاعدت الشكوك بعد إطلاق صواريخ من جنوب لبنان من دون تبنٍّ رسمي على رغم خضوع المنطقة لرقابة صارمة من الحزب، مما فسره البعض بأنه دليل على تباين داخلي.
بعد ثلاثة عقود من القيادة المركزية والانضباط الحديدي بدأت تظهر بوادر تصدع غير مسبوق في مواقف وتصريحات مسؤولي "حزب الله" تعكس ارتباكاً داخلياً يفتح الباب واسعاً أمام الحديث عن تيارات وأجنحة متباينة في التوجه داخل التنظيم، إذ بدأ تأثير اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله ومعه أبرز قادة الصفين الأول والثاني، خلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل ينعكس بوضوح وعلانية.
وأخيراً شهد جنوب لبنان تصعيداً أمنياً تمثل في إطلاق مجموعة من الصواريخ نحو إسرائيل من بلدة تقع شمال نهر الليطاني، مما أثار تساؤلات حول الجهة المسؤولة عن هذا الهجوم، بخاصة مع نفي "حزب الله" أية صلة له بهذه العمليات. وفي بيان رسمي أكد الحزب التزامه اتفاق وقف إطلاق النار، ونفى أية علاقة له بإطلاق الصواريخ من جنوب لبنان، فيما خرجت قيادات في صفوفه لتؤكد وقوفهم خلف الدولة اللبنانية.
هذا النفي أثار تحليلات متعددة حول إمكان وجود انقسامات داخلية أو صراعات أجنحة داخل "حزب الله"، إذ يجمع الخبراء العسكريون على أن المناطق الجنوبية للبنان تخضع لرقابة صارمة من قبل الحزب، مما يجعل من الصعب تنفيذ أية عمليات عسكرية من دون علمه أو تنسيقه وتسهيل من قبله، بالتالي يطرح البعض احتمال وجود جهات داخل الحزب قد تكون وراء هذه العمليات من دون التنسيق مع القيادة المركزية، مما يعكس تباينات في الرؤى أو الاستراتيجيات داخل الحزب، وصولاً إلى حد حديث البعض عن ما يشبه معسكرين داخل الحزب الواحد، سعسكري وسياسي.
هذه الفرضية تتعزز عند النظر إلى حوادث سابقة شهدت تناقضات في تصريحات مسؤولي الحزب. فعلى سبيل المثال خلال أحداث طريق مطار بيروت الرافضة لمنع هبوط الطائرة الإيرانية، نفى الأمين العام للحزب نعيم قاسم مسؤوليتهم عن تلك الأحداث، في حين تبنتها أطراف أخرى داخل الحزب معتبرة إياها وسيلة للضغط على الحكومة اللبنانية لعدم الرضوخ للإرادة الإسرائيلية.
علاوة على ذلك يأتي التصعيد الأخير المتمثل بإطلاق صواريخ نحو إسرائيل في وقت تشهد فيه المنطقة توترات متزايدة، بخاصة مع تصاعد العمليات العسكرية الأميركية ضد الحوثيين في اليمن والتصريحات الإيرانية الداعمة لـ"المقاومة"، مما قد يشير إلى محاولة بعض الأجنحة داخل الحزب إرسال رسائل إقليمية من خلال هذه العمليات.
وعلى صعيد متصل شهدت المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، بخاصة في منطقة القصر قرب الهرمل (شرق)، اشتباكات مسلحة ألقيت مسؤوليتها على الفصائل العشائرية وعصابات التهريب. وعلى رغم نفي "حزب الله" أيضاً علاقته بهذه الاشتباكات فإن إعلان الحزب لاحقاً عن مقتل أربعة من عناصره في تلك المواجهات يثير تساؤلات حول مدى تورطه الحقيقي فيها، وما إذا كانت هذه الاشتباكات تعكس صراعات نفوذ داخلية أو مع قوى محلية أخرى.
تيارات متضاربة
ووفق مصادر أمنية لبنانية مطلعة يعيش "حزب الله" حالاً من الانقسام الداخلي المتنامي تتجاوز الخلافات الظرفية لتأخذ صورة صراع بين أجنحة متباينة التوجهات، وبرز داخل الحزب تياران أساسيان منذ ما قبل التهدئة: الأول يقوده مسؤول وحدة الارتباط وفيق صفا يدفع باتجاه التمسك بالسلاح، والثاني يقوده الأمين العام نعيم قاسم ورئيس تكتل الحزب النيابي محمد رعد، ويفضل التهدئة الموقتة لإعادة تنظيم الصفوف واستيعاب تداعيات الضربة العسكرية الكبيرة التي تلقاها الحزب، في حين يبدو أن هناك أجنحة عسكرية ميدانية يقود أحدها رئيس الأركان خليل حرب وأخرى يقودها مسؤول الجنوب في الحزب أبو علي الطبطبائي.
تشير المصادر إلى أن خطاب قاسم خلال تشييع الأمين العام السابق حسن نصرالله وخلفه هاشم صفي الدين قبل نحو شهر عُد بمثابة إشارة داخلية إلى اعتماد خط المهادنة، إذ أعلن أن "المقاومة الآن تتنحى لمصلحة الدولة"، وهو ما فسره خصوم هذا التوجه داخل الحزب بأنه تراجع عن نهج المواجهة.
وعلى رغم مرور أكثر من شهرين على التهدئة تؤكد المصادر أن "الخلافات بين تيارات الحزب بدأت تظهر بصورة أوضح"، ويتهم الخط المتشدد خصومه بالتراجع والانصياع للضغوط الدولية، فيما يتهم التيار المهادن الطرف الآخر بالمجازفة بمصير الحزب والبيئة الحاضنة له، بعد الضربات الكبيرة التي تلقاها في الأشهر الأخيرة من الحرب مع إسرائيل، وتحديداً ضربة أجهزة الـ "بيجرز" واغتيال كل قيادات الصف الأول وعلى رأسهم الأمين العام السابق حسن نصرالله.
وتلفت المصادر الأمنية إلى أن التباين لا يقتصر على التكتيك السياسي أو العسكري، بل يمتد إلى ملف العلاقة مع إيران، إذ يتمسك جناح بموقف طهران المتشدد في وجه التصعيد الأميركي والإسرائيلي، بينما يفضل جناح آخر التخفيف من حدة الارتباط، أقله في العلن، لتفادي عزلة سياسية وأمنية داخل لبنان.
أما أخطر نقاط الخلاف فتتمثل، وفق المصادر، في ملف تسليم السلاح وتطبيق القرار الدولي 1701. ففي حين يعد بعض المسؤولين داخل الحزب القرار محصوراً بمنطقة جنوب الليطاني، ترى جهات أخرى أن مضمونه يشمل كامل الأراضي اللبنانية، ويستوجب بالتالي إعادة النظر في استراتيجية السلاح خارج إطار الدولة.
وترى الجهات الأمنية أن هذا التباين يعكس انقساماً عميقاً في الرؤية الاستراتيجية للحزب، كما يتسع ليطاول البيئة الشيعية والمحور (محور الممانعة) برمته، إذ بدأت تطرح تساؤلات حول جدوى استمرار المواجهة بالصورة التقليدية في ظل المتغيرات المتسارعة.
انقسام وصراع أجنحة
يكشف الكاتب السياسي سيمون أبو فاضل عن معطيات دقيقة تؤكد وجود صراع أجنحة داخل "حزب الله"، متحدثاً عن تفكك داخلي وتمدد في الخلافات بين القيادات، ومؤكداً أن "الحزب لم يعد قادراً على اتخاذ قرارات حاسمة، وأن قياداته تعيش حال ندم، لا عملية تقييم داخلية جدية، بعدما أدركوا حجم الدمار الذي تسببت فيه سياساتهم للبيئة الشيعية والجنوب اللبناني". وأشار إلى أن "حزب الله" تآكل عسكرياً وأمنياً، ولم تعد لديه القدرة على خوض مواجهة جديدة"، موضحاً أن القرار الحزبي بات محصوراً ضمن توازنات داخلية هشة، إذ يمنع على الحزب القيام بأي تصعيد ضد إسرائيل من دون حسابات إيرانية دقيقة، وهو ما بدا جلياً في الانضباط الميداني على جبهة الجنوب. وأشار إلى وجود "أجنحة" عدة تتصارع في ما بينها وتقودها مجموعة من القيادات البارزة تشكل مراكز نفوذ مؤثرة داخل الحزب، ومنهم مستشار الأمين العام للحزب حسين خليل، وابنه جواد نصرالله اللذان يملكان رؤية ميدانية مختلفة، وينسقان بينهما، وحسن حيدر الذي تولى أدواراً بعد مقتل قادة سابقين، إضافة إلى أبو علي الطبطبائي المسؤول عن قطاع الجنوب. وأوضح أيضاً أن هذه القيادات لم تعين رسمياً في مناصب واضحة، بل تسيطر على النفوذ من خلال أمر واقع، ما يعكس وجود نوع من اللامركزية التنظيمية داخل الحزب.
وذكر أبو فاضل أن التصدعات الداخلية لا تزال مضبوطة تحت مظلة واحدة، هي "الولي الفقيه"، لكنها آخذة بالاتساع، وقد ظهرت مؤشراتها في تصريحات علنية مثل ما قاله النائب السابق نواف الموسوي وغيره من الأصوات داخل الحزب، مؤكداً أن هناك "كثراً من نواف الموسوي" داخل الحزب، يتحدثون وينتقدون، وإن بصوت خافت. ولفت إلى أن الحزب اليوم غير قادر على التصرف بسلاحه كما في السابق، مشيراً إلى أن الجيش اللبناني بدأ بتفكيك بعض مستودعات الأسلحة، وأن هناك ضغوطاً دولية لإخضاع هذا السلاح للرقابة، وسط حديث داخلي عن ضرورة حفظ بعض الأسلحة لدى الجيش، بدل تدميرها أو تهريبها. وختم بالإشارة إلى أن الصراع داخل الحزب لن يصل إلى انقلاب داخلي، لكنه يؤسس لمسار تراجعي واضح في بنية القرار، وربما لمزيد من التحلل في النفوذ والهيمنة داخل البيئة الشيعية، التي بدأت تشهد بروز أصوات سيادية ومعارضة مستقلة تطالب بنهاية مرحلة السلاح والانتظام في مشروع الدولة اللبنانية.
المهادنة والتصعيد
ويبدو أن الخلافات تتعمق داخل صفوف "حزب الله" لتكشف عن تباين استراتيجي حاد بين جناحين: أحدهما يدفع نحو التهدئة وإعادة التموضع، والآخر يطالب بالتصعيد والمواجهة، وفق المتخصص في الشؤون العسكرية العميد المتقاعد يعرب صخر الذي يرى أن ما يجري داخل الحزب لا يختصر بـ"خلافات سطحية أو انشقاقات"، بل هو "اختلاف جوهري في التوجهات"، ويقول "بدأت الخلافات قبل اتفاق وقف إطلاق النار، وتجلت بوضوح في خطين داخل الحزب: أحدهما يسعى إلى الاستمرار في المواجهة، بينما يطالب الآخر بالمهادنة الموقتة، لالتقاط الأنفاس وإعادة التنظيم بعد الهزيمة الكبيرة التي تلقاها الحزب من إسرائيل"، ويشير صخر إلى أن خطاب الأمين العام نعيم قاسم خلال تشييع القادة حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، عكس ميلاً واضحاً نحو خيار المهادنة. فقد أعلن قاسم أن "المقاومة تتنحى لمصلحة الدولة، وعلى الدولة أن تتولى المسؤولية"، في موقف يصفه صخر بأنه "تراجع مقصود في اللهجة العسكرية لـ(حزب الله)"، ومؤشر إلى رغبة لدى بعض القيادات بإعادة التموضع تحت غطاء الدولة، ولو موقتاً. ويضيف أن هذه الخلافات لا تنفصل عن المشهد الإقليمي، لافتاً إلى أن إيران تواجه تصعيداً أميركياً متزايداً، في ظل إدارة "لا تبدو مستعدة لتقديم حلول وسط في الملف النووي والعقوبات". ويقول "الضغوط الأميركية على طهران تتصاعد، وإسرائيل تستعد لفتح أكثر من جبهة بعد حصولها على دعم عسكري نوعي من الولايات المتحدة بقيمة 3 مليارات دولار، يشمل قنابل خارقة للتحصينات. المنطقة كلها تقف على حافة الانفجار"، ويعتبر أيضاً أن الحزب "يعاني صعوبة في التكيف مع المتغيرات"، ويتمسك البعض بالتوجه الإيراني الرافض أية تسوية، بينما يفضل آخرون الالتزام بخط التهدئة المرسوم ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، لتفادي الخسائر الإضافية.
ويحذر صخر من أن الحزب "قد يعود إلى التصعيد"، بخاصة في ظل تصاعد اللهجة السياسية لبعض قياداته، الذين يلوحون مجدداً باستخدام القوة، مما يعكس استمرار الجدال الداخلي حول هوية الحزب ومساره في المرحلة المقبلة. وفي رأيه فإن إحدى أبرز نقاط الخلاف داخل الحزب تتعلق بمسألة تطبيق القرار الدولي 1701 وتسليم السلاح، فبينما يصر بعض المسؤولين على أن القرار ينطبق فقط على جنوب الليطاني، يلفت صخر إلى أن "القرار يشمل كل الأراضي اللبنانية، ويبدأ من الجنوب ليتوسع تدريجاً إلى كامل الجغرافيا اللبنانية"، معتبراً أن تجاهل هذه النقطة هو محاولة للالتفاف على المضمون الحقيقي للقرار. ويختم بالتأكيد أن الحزب "يعيش حالاً من الإنكار للواقع الجديد". ويضيف "بدأ يتنصل من التزاماته السابقة، والاتجاه العام يسير نحو مزيد من السلبية. هذا الخيار هو سبب التوتر القائم، وقد يقود إلى انفجار جديد في الربيع المقبل".
مايسترو واحد
من زاوية مكملة يرى المحلل السياسي إبراهيم ريحان أن وجود تيارات داخل "حزب الله" أمر طبيعي في ظل تعقيد بنيته الحزبية - الأمنية - العسكرية، لكنه يوضح أن الخلافات على رغم حدتها "لن تصل إلى مرحلة التصفيات أو الانقسامات الحادة" لأن الحزب لا يزال يعمل ضمن مركز قرار واضح. ويقول ريحان "قد تختلف المقاربات حول ملفات الجنوب أو تسليم السلاح أو إدارة وقف إطلاق النار، لكن في النهاية يبقى الحزب خاضعاً لتوجيه واحد، هو التوجيه الإيراني. ما تطلبه طهران ينفذ من دون نقاش". وبينما لا يستبعد وجود هوامش داخلية للتعبير أو النقاش، إلا أن ريحان يعد القرار الاستراتيجي محصوراً بـ"مايسترو واحد"، مما يجعل الصراع داخل الحزب مضبوطاً، وإن كان يعكس توتراً داخلياً حقيقياً حول المستقبل والدور في ظل تحول البيئة الإقليمية والدولية.
التمسك بالسلاح
في المقابل يشير المحلل السياسي المقرب من "حزب الله" فيصل عبدالساتر إلى أن الحزب في بنيته التنظيمية مرتبط بشجرة لا تتعلق بشخص واحد، مهما كانت مكانته. وأشار إلى أن "الحزب يمتلك هيكلية تنظيمية متماسكة تضمن استمراريته وتماسكه، حتى في ظل غياب شخصيات قيادية بارزة". وأضاف أن الحزب يجري مراجعات داخلية دورية للتكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية، مع الحفاظ على ثوابته العقائدية والتنظيمية.
وفي ما يتعلق بالحديث عن صراعات الأجنحة داخل الحزب، نفى عبدالساتر وجود مثل هذه الصراعات، مؤكداً أن الحزب يعمل بآليات تنظيمية واضحة وشفافة، تضمن وحدة الصف واتخاذ القرارات بصورة جماعية. وأشار إلى أن بعض التعيينات والتغييرات التي تحدث داخل الحزب تأتي في إطار تعزيز هيكليته وتطوير أدائه، وليست مؤشراً إلى وجود انقسامات داخلية. وشدد على أن "حزب الله" يظل متمسكاً بسلاحه كوسيلة للدفاع عن لبنان وحماية سيادته، معتبراً أن أية محاولة لنزع هذا السلاح تعني أخذ لبنان إلى الحضن الإسرائيلي، وأن نزع سلاح الحزب دونه حرب في لبنان.