ملخص
هذا الانسحاب من المنظمة الدولية للفرنكوفونية خطوة أخرى على طريق التصعيد مع فرنسا والقطيعة معها، والبحث عن بدائل جديدة بدأت تتجسد في وجود اقتصادي صيني ووجود دبلوماسي أميركي وأمني روسي.
تسعى باريس إلى كتابة صفحة جديدة مع القارة الأفريقية لكن بصيغة مختلفة ربما تكون دبلوماسية أكثر.
يعكس إعلان دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر انسحابها بصورة جماعية من المنظمة الدولية للفرنكوفونية حجم الصعوبات التي باتت تواجهها فرنسا، إذ كانت تراهن في السابق على هذه المنظمة من أجل تعزيز الثقافة واللغة الفرنسيتين في منطقة الساحل الأفريقي والقارة السمراء بصورة عامة.
وجاء هذا التطور غداة إرغام هذه الدول المذكورة، إلى جانب تشاد، فرنسا على سحب قواتها وبعض بعثاتها الدبلوماسية، وذلك بعد صعود حكام جدد استولوا على السلطة في انقلابات عسكرية، ويتبنون سياسات مناهضة بصورة كبيرة لباريس وحضورها في المنطقة.
واتهمت مالي وبوركينا فاسو والنيجر المنظمة الدولية للفرنكوفونية بأنها "باتت أداة سياسية موجهة تتجاهل مبدأ السيادة الوطنية للدول الأعضاء"، ولفتت هذه الدول إلى أنها "تعرضت لعقوبات عقب التغييرات السياسية التي عرفتها"، في إشارة واضحة إلى قيود فرضتها المنظمة عليها إثر الانقلابات التي شهدتها دول الساحل.
تأثير في مكانة فرنسا
وشكلت المنظمة الدولية للفرنكوفونية في عام 1970، وتضم في عضويتها 91 بلداً، وتهدف إلى تعزيز "اللغة الفرنسية والتنوع الثقافي واللغوي والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم التعليم".
في الواقع مهد عدد من الدول في مقدمها النيجر لقرارها الانسحاب من المنظمة الدولية للفرنكوفونية، إذ قامت الحكومة الانتقالية في نيامي بتغيير أسماء الشوارع الفرنسية، ومن بينها ساحة كان يطلق عليها "ساحة الفرنكوفونية".
وقال الباحث السياسي والأكاديمي الفرنسي بيير لوي ريمون إن "هذه الدول الثلاث التي كان لها تاريخ مشترك مع فرنسا ثقافياً عن طريق المنظمة العالمية للفرنكوفونية، ستترتب على انسحابها من هذه المنظمة بطبيعة الحال آثار ليس فقط فيها، لكن في مكانة فرنسا أيضاً في منطقة الساحل".
وتابع ريمون في حديث لـ"اندبندنت عربية"، "الأكيد أن الانسحاب الفرنسي كان عسكرياً في البداية بعد المهمة التي كانت تتولاها باريس بتدريب جيوش بعض البلدان الأفريقية لمكافحة الإرهاب، الآن انتقلنا إلى الموضوع الثقافي ولكلا الحدثين تأثير مباشر في وزن فرنسا في منطقة الساحل بل في أفريقيا كافة".
وشدد على أن "فرنسا سحبت قاعدتها العسكرية من السنغال وسحبت قواتها من عدد من الدول على غرار مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، مما يشير إلى أن أفريقيا تريد أن تقلب صفحة الوصاية الفرنسية، لكن هذا لا يعني أن باريس لن تسعى إلى كتابة صفحة جديدة مع القارة الأفريقية، لكن بصيغة مختلفة ربما تكون دبلوماسية أكثر".
وأكمل ريمون "من أجل أن تتحقق هذه الرؤية الجديدة التي تطمح إليها فرنسا في أفريقيا، لا بد من بذل الوقت وتكثيف شراكة تقوم على مبدأ الندية بين باريس وكثير من العواصم الأفريقية التي إما كانت مستعمرات سابقة أو يجري التعامل معها بمنطق اقتصادي بحت وليس بالضرورة بمنطق التنمية المشتركة واحترام الأفراد".
وتجدر الإشارة إلى أن 44 في المئة من الناطقين بالفرنسية في العالم يوجدون في أفريقيا.
زيادة عزلة فرنسا
وفي عام 2023 فاجأت مالي فرنسا عندما خفضت من مكانة الفرنسية في اللغة الرسمية للبلاد إلى اعتبارها "لغة عمل" وجعل اللغات الوطنية لغات رسمية، وذلك في إطار تعديلات دستورية أشمل وأوسع.
وتأتي هذه الخطوات المتسارعة من دول الساحل الأفريقي، بالتزامن مع حضور روسي لتعويض فرنسا سواء في المجالات العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية، إذ بدأت تنتشر مراكز ثقافية روسية مما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل باريس في المنطقة.
واعتبر الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية علي السيد أنه "لم يعد لفرنسا الامتداد على مستوى الدول الأفريقية والعالم، مستقبل الفرنكوفونية يبدو كمستقبل باريس في العالم، إذ لم تعد دولة قوية تسيطر على بعض الدول كما في فترة الخمسينيات والستينيات، ومستقبل الفرنكوفونية يواجه الاضمحلال والتردي".
وأردف السيد في تصريح خاص أن "عزلة فرنسا ستزداد على المستويات كافة في أفريقيا، خصوصاً امتداداتها الثقافية والاقتصادية، لأن الدول الأفريقية أصبحت واعية بعد أن هاجرت وذهبت لأوروبا وأميركا وبريطانيا، وعادت لدولها لتدرك سلبيات التدخل الفرنسي في دولها التي تسيطر على موادها الأولية من دون أية استفادة من حضورها".
وأكد أن "الفرنكوفونية بحد ذاتها أنشئت حتى تبقى فرنسا على تواصل ثقافي واقتصادي واجتماعي مع الدول الأفريقية، لذلك هي منذ البداية منظمة تخدم فرنسا ومصالحها".
تراجع وعداء متنام
أما المحلل السياسي النيجري محمد أوال، فيرى أن "هناك عداء يتنامى من السلطات الانتقالية في دول الساحل الأفريقي يدفع نحو تراجع فرنسا وأدواتها العسكرية والدبلوماسية والثقافية".
وأضاف أوال في تصريح خاص "في مقابل هذا لم نر أية مراجعات في الخطاب الفرنسي تجاه دول الساحل الأفريقي، وهو ما يزيد من حدة التوتر بين هذه الدول وباريس على غرار تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون الأخيرة التي تحدث فيها عن ضرورة التوجه بالشكر لبلاده عما قدمته لدول الساحل".
وبين أن "هذه التصريحات على سبيل المثال أثارت غضباً أفريقياً، وبذلك يعطي الخطاب الفرنسي الرسمي ذرائع لدول الساحل المذكورة للقيام بخطوات جديدة تقلص من نفوذ باريس".
أزمة بنيوية
وتواجه فرنسا منذ أعوام اتهامات بالسيطرة على ثروات دول الساحل على غرار اليورانيوم والذهب، وبالفعل تعتبر النيجر على سبيل المثال من أكبر مزودي باريس بـ"الكعك الأصفر"، بحسب ناشطين بيئيين.
ويعتقد مدير مركز الأطلس للتنمية والبحوث الاستراتيجية عبدالصمد ولد أمبارك أن فرنسا تعيش "أزمة بنيوية" في علاقتها مع أفريقيا، بعد أن كانت حليفاً استراتيجياً لدول القارة في فترة ما بعد الاستقلال.
وذكر ولد أمبارك أنه "لمس بعض القادة إخفاقات سياسية وتنموية واقتصادية وعسكرية فرنسية في القارة، مما خلق نوعاً من التمرد على الواقع الأفريقي والتبعية لفرنسا من دون مقابل، وبدأ يطفو على السطح كثير من الخلافات بين العواصم الأفريقية وباريس، بالتالي فرنسا تعيش قطيعة مع أفريقيا تجسدت في المجال الدبلوماسي والعسكري، والآن مقاطعة الثقافة الفرنسية".
وقال "نحن أمام وضع جديد في أفريقيا تجاه فرنسا، وبالتالي هذا الانسحاب من المنظمة خطوة أخرى على طريق التصعيد مع فرنسا والقطيعة معها والبحث عن بدائل جديدة بدأت تتجسد في وجود اقتصادي صيني ووجود دبلوماسي أميركي وأمني روسي، مما يعني أن فرنسا فقدت رسمياً امتدادها في أفريقيا عن طريق هذه البدائل المتاحة التي تعيش صراع نفوذ في الساحل الأفريقي".
ولفت ولد أمبارك إلى أنه "لا شك أن هذا التطور سيزيد من عزلة فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي، مما يعني أن المنظمة الدولية للفرنكوفونية تواجه مستقبلاً قاتماً في أفريقيا، باعتبار العامل الثقافي الذي بدأ يتغير بصورة عامة".