مع توقيع واشنطن عبر مندوبها زلماي خليل زاد على اتفاق سمي اتفاق السلام مع حركة طالبان، تبدأ مرحلة جديدة في أفغانستان أهم ما فيها عملية الانسحاب الأميركي وعودة طالبان إلى أجزاء من البلاد ودخولها في السلطة.
في واشنطن أسئلة كثيرة حول كيفية التوصل إلى هذا الاتفاق عبر مفاوضات قادتها قطر، وبغياب أساسي للحكومة الأفغانية وسط ظلام يلف المفاوضات حيث لم يطلع الرأي العام بالتفاصيل على ما جرى منذ أشهر.
إدارة ترمب أعلنت موافقتها على هذا الاتفاق ووصفته بأنه يخدم المصلحة الوطنية الأميركية، ولا سيما يؤمن تنفيذ بند من بنود الحملة الانتخابية للرئيس أي سحب القوات الأميركية من دولة وُجد فيها منذ 18 عاماً.
آلية التنفيذ لا تزال في مراحلها الأولى، ونقاط كثيرة تطرح الآن وستُطرح في المستقبل القريب، وأهمها، الاتفاق بحد ذاته يشمل أولاً وقف العمليات العسكرية من قبل طالبان، وبالتالي تجميد عمليات أميركا العسكرية وحلف الناتو، ويتبع ذلك ثانياً انسحاب أعداد كبيرة من القوات الأميركية، وثالثاً تلتزم طالبان بعدم مساعدة أو شن أي عملية ضد أميركا من الأراضي الأفغانية، كما حدث في سبتمبر(أيلول) 2001، وتتعهد طالبان رابعاً باجتثاث مجموعات "القاعدة" و"داعش" من أفغانستان بعامة، ومناطقها بخاصة. هذا هو لب الاتفاق الذي أقنعت قطر واشنطن بقدرتها على انتزاعه من طالبان، فما هي فعلاً نوايا طالبان بما يتعلق بهذه النقاط.
لا نعتقد أن حركة طالبان قد ترفض وقف إطلاق نار مع أميركا إذا كانت النتيجة انسحاب قواتها من البلاد، وهذا أمر طبيعي للحركات المتطرفة، وبالطبع لن تعارض الانسحاب سواء كان جزئياً أو كلياً، وباعتقادنا أن طالبان وبهدف العودة من جديد وتمكنها من السلطة ستلتزم بعدم دعم أي هجمة إرهابية ضد أميركا، وهذا أمر منطقي بالنسبة إلى حركة تريد انتزاع السيطرة على أفغانستان من جديد، والانطلاق نحو الوجود الدولي. أما البند الأخير فلا أعتقد أن طالبان ستكون حازمة في ضربها حلفاءها المتشددين داخل أفغانستان بل ستفعل كما فعلت قوى أخرى في الشرق الأوسط، تمنع بعض الجماعات من التحرك كداعش على وجه الخصوص، ولكنها لن تتخلى عن مشروعها البعيد المدى أي إقامة خلافة في أفغانستان.
ما هي استراتيجية طالبان من وراء الاتفاقية؟ ستسمح هذه الاتفاقية بتمددها في الجنوب وتعزيز مواقعها بعد الانسحاب الأميركي والأطلسي، ثم تسعى إلى دخول كابول عبر النشاط السياسي أولاً وإنشاء مجموعات أمنية تمهيداً لإعادة سيطرتها على العاصمة، وفي هذا الإطار من الممكن أن تكون الدوحة أقنعت قيادة الحركة بالتصرف بحكمة، الانخراط في مؤسسات الدولة أولاً، والالتزام بالاتفاق ودفع الثمن الميداني لذلك بما معناه أن تضع السيطرة على المؤسسات كأولوية قبل السيطرة على مناطق خارجة عن سيطرة نفوذها.
الصورة الكبرى لا يختلف عليها اثنان من العارفين بخبايا هذه الجماعات وهي سعي الحركة على المدى المتوسط والبعيد إلى إعادة إقامة دولة إسلامية في أفغانستان ربما لا تكون على نمط الإمارة البدائية التي أقامتها بين عامي 1996 و2001 ولكن على نمط مؤسسات شبيهة بتلك التي أقامتها جماعات "الإخوان" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سؤال آخر يدور حول ماذا يمكن أن يحصل في الواقع، إثر هذه الاتفاقية ستحشد طالبان قدراتها للانتشار أولاً في جنوب البلاد والسيطرة عليها و"طلبنتها" ثم التمدد، والسعي إلى الحصول على مساعدات مالية تكون شرعية مع توقيع الاتفاق. "شرعنة" الحركة ستعطيها القدرة على فتح أبواب الحصول على مساعدات والانخراط في مشاريع مالية، وهذا الاتفاق سيعطي طالبان شرعية قانونية للسيطرة على السلطات المحلية وتمثيل أفغانستان في الخارج أيضاً، أما الانطلاق من مرحلة التثبيت والانخراط في الدولة إلى مرحلة المواجهة مع قوى الشمال المتمثلة في الحكومة وحلفائها فستقررها طالبان ومستشاروها الدوليون بحسب التوقيت الملائم، وبالتالي ستعمل على تعزيز نفوذها قبل ضرب الخصوم، أما بحال وجود فرصة حقيقة لضرب القبائل والقوى الشمالية المعارضة لها فلن تتوانى عن ذلك في أي وقت.
ستكون هناك تداعيات إقليمية لهذا الاتفاق، أولاً تعزيز نفوذ قطر والإخوان المسلمين بسبب رعايتهم الاتفاق وقدراتهم على التواصل الدولي، وسيكون أيضاً هناك تنسيق بين طالبان باكستان وطالبان أفغانستان وسينتج حواراً مع حلقات أمنية في إسلام أباد، وبالمقابل فإن حكومة كابول وحلفاءها في الشمال لن يكون أمامهم سوى البحث عن حلفاء آخرين بالإضافة إلى ما سيتبقى من نفوذ أميركي، وهذا يعني قيام قوى الشمال بمد يدها إلى قوى التحالف العربي خصوصاً السعودية والإمارات ومصر، واحتمال إقامة جسر بين كابول والهند لإقامة توازن إقليمي أكبر.
من ناحية أخرى وبسبب الانقسام المقبل بسبب الاتفاقية، فإن إيران ستحاول مد نفوذها عبر جماعات (الهزارا) الشيعية الموجودة داخل أفغانستان والاستفادة من المواجهة الاستراتيجية بين الجنوب الطالباني والشمال المعتدل، بالإضافة إلى محاولات روسية وصينية للاستفادة من الوضع الجديد في أفغانستان، أما واشنطن فستكون لها علاقات مع الطرفين عبر حلفائها الإقليميين قطر تركيا من ناحية، ودول التحالف العربي من ناحية ثانية.
وإسهام قطر في إعادة حركة طالبان إلى المعادلة الأفغانية والإقليمية والدولية، ينبثق أساساً من تحرك اللوبي القطري الإخواني في واشنطن الذي أقنع البيروقراطية الأميركية وجزءاً من إدارة ترمب بأن في مصلحتهم الانسحاب عبر اتفاق مع طالبان ما يساعد على تنفيذ بند من برنامج ترمب الانتخابي، ويخفّف وزر الحرب والخسارة المادية والعسكرية في أفغانستان. وهذا يعني أن طالبان الجديدة ستكون أكثر "إخوانية" من دون أن تتخلى عن الكتلة الأكثر راديكالية داخلها، وسوف تظهر اعتدالاً سطحياً ولكن لن تتنازل عن استراتيجيتها البعيدة المدى. وفي واشنطن الرأي العام منقسم بين القاعدة الانتخابية للرئيس ترمب التي ستعتبر هذه الاتفاقية إحدى إنجازاته وبين قاعدة رأي واسعة داعمة للرئيس ولكنها لا تثق بطالبان، والأشهر المقبلة سوف تشهد نقاشاً بين الطرفين وصولاً إلى إعادة تحديد السياسة الأميركية حيال أفغانستان بعد الانتخابات.