منتصف العقد الماضي أجرى "معهد بلاكسميث"، المتخصّص في الأبحاث البيئية المركبة بالتعاون مع منظمة "الصليب الأخضر"، دراسة رائدة حول مخاطر النفايات السامة في العالم شملت ثلاثة آلاف موقع لدى أكثر من 50 دولة. وقد خلصت الدراسة إلى نتيجة صادمة مفادها أن أكثر من 200 مليون شخص حول العالم معرضون للموت البطيء جراء انكشافهم على مواقع نفايات شديدة السمية، وأن تداعيات هذا الانكشاف لا تقل خطورة عن التهديدات التي تمثلها أمراض مثل الملاريا والسل تجاه الصحة العامة.
كمثال على خطورة هذا النوع من النفايات، أوردت الدراسة ساحة مخلّفات "أغبوبلوشي" الواقعة في العاصمة الغانية أكرا، باعتبارها الموقع الأكبر والأكثر سُمِّية لحياة البشر نظراً لتشبع تربتها بمستويات جد مرتفعة من الرصاص، مع كل مايعنيه ذلك من مخاطر صحية داهمة على زهاء ربع مليون شخص يسكنون في محيطها. وقد أضحت ساحة "أغبوبلوشي" مكبّاً عالمياً للنفايات الإلكترونية، إذ تستورد غانا زهاء 215 ألف طن سنوياً من هذه المخلّفات وتحديداً من أوروبا الغربية، وتضيفها إلى 129 ألفاً أخرى من النوع نفسه تنتجها محلياً كل عام. وقد حلّت مدينة "تشيرنوبيل" الأوكرانية، التي تعرّضت لانصهار أحد مفاعلاتها النووية خلال ثمانينيات القرن الماضي، في المرتبة الثانية؛ تلاها حوض نهر سيتاروم الملوث في إندونيسيا. ومن بين أسوأ عشرة مواقع للنفايات السامة في العالم حددت الدراسة ثلاثة مواقع في كل من أفريقيا وأوروبا وآسيا إضافة إلى موقع واحد في أميركا اللاتينية. وأوردت الدراسة أن عشرات آلاف الأشخاص يلاقون حتفهم سنوياً نتيجة تعرضهم لمخاطر الإغراق بالسموم المختلفة التي تزخر بها مقالب النفايات وساحاتها الخطرة عبر العالم.
تلوث ثلاثي الأبعاد
"تُطلق مواقع النفايات الخطرة سمومها الكيماوية والإشعاعية في الهواء والماء والتربة، ما يُعرض جماعات بأكملها للخطر. وقائمة المواقع السامة هذه غير خافية عن الحكومات المعنية، بل على دراية كافية بها" بحسب ما يقول الدكتور جاك كارافانوس، مدير أبحاث معهد بلاكسميث وأستاذ الصحة العامة لدى جامعة مدينة نيويورك في مقالة له نشرها على موقع "بيور إيرث"، ويضيف، إن غانا وضعت منذ 10 سنوات، خطة لترسيخ مكانتها الدولية في مجال تكنولوجيا المعلومات وبدأت في سبيل ذلك في استيراد حواسيب مستعملة من أوروبا. وقد أدت تلك الخطة العشوائية وغير المدروسة إلى تحويل "أغبوبلوشي" إلى مقلب للنفايات الإلكترونية السامة بكل ما تتضمنه من مكونات خطرة مثل: الرصاص والزئبق والزرنيخ والكادميوم والسيلينيوم ومعوقات اللهب والكروم السداسي المتكافئ، بكميات تفوق الحد الأدنى الآمن.
تُعرّف النفايات السامة بوصفها المخلّفات التي يمكن لكميتها وتركيزها وخصائصها الطبيعية والكيماوية والبيولوجية أن تضر بصحة الإنسان أو الكائنات الحية أو البيئة. وقد وضعت "اتفاقية بازل" الخاصة بضبط انتقال النفايات الخطرة، مبادئ دولية بشأن التحكم في نقلها عبر الحدود والتخلص الآمن منها وتحديد خواصها الخطرة. وتشمل "قائمة بازل" 14 خاصّية لهذه النوعية من المخلفات، منها: القابلة للانفجار أو الاشتعال؛ والمعرضة للاحتراق الذاتي؛ والمطلقة للغازات القابلة الاشتعال أو السامّة لدى ملامسة الماء أو الهواء؛ والبيروكسيدات العضوية والسامّة والمعدية؛ والمواد السامّة ذات الآثار المتأخرة أو المزمنة.
على الرغم من مصادقة معظم حكومات العالم على "اتفاقية بازل" إلا أن غالبية الدول النامية تفتقر إلى الآليات العملية اللازمة للتصدي للمشاكل الملحة المتعلقة بتوليد هذه النفايات وإدارتها ناهيك عن استيرادها. ولا تزال تشريعاتها قاصرة عن تغطية النواقص الحادة في البنى التحتية الضرورية لإدارة النفايات الخطرة، كما تفتقر إلى الموارد البشرية المدربة القادرة على التعامل مع جوانب المشكلة التي عادة ما تكون معقدة تقنياً.
أمراض واختلالات
يزيد تعرض البشر الطويل الأجل للنفايات الخطرة والمخلفات السامة من احتمالات حدوث اختلالات لدى الأجنّة وانخفاض وزن الأطفال الحديثي الولادة، ووقوع اضطرابات في جهاز المناعة وأعطال للغدد الصماء، وأعراض مرَضية مثل الصداع والتعب والأرق. وقد وثَّقت دراسة لوكالة حماية البيئة الأميركية، مسحت نحو 600 موقع نفايات خطرة في الولايات المتحدة، ارتباطات جوهرية بينها وبين ازدياد الوفيات الناتجة من سرطانات الرئة والمثانة والمريء والمعدة والأمعاء الغليظة والمستقيم، وسرطان الثدي لدى الاناث. وعادة ما يكون الأطفال والفئات الحساسة الأخرى مثل النساء الحوامل والمدخنين، أكثر عرضةً لها وتأثراً بنتائجها. وغالباً ما تحدث تعرّضات ثانوية لدى الفئات الأخرى لدى نقل العناصر السامة والتخلص منها بشكل غير مأمون، حينما ترتشح مثلاً داخل مصـادر بيئية مثل الهواء والماء والتربة وسواها، ما يؤدي إلى تراكمها داخل السلسلة الغذائية وتحديداً الأسماك التي تعد غذاء رئيساً لملايين الفقراء حول العالم.
لعل أكثر ما يؤرّق "منظمة الصحة العالمية" من هذه المعضلة، مسألة إدارة النفايات الطبية والتخلّص الآمن منها بشكل سليم. ذلك أن نحو 20 في المئة منها معدية أو سامة أو مشعّة. ويمكن لها وللخطرة بيولوجياً، مثل بقايا الدم وأعضاء الجسم المنزوعة جراحياً والأدوات الحادة الملوثة كالإبر والمباضع المستعملة، أن تؤدي الى تفشي أمراض معدية وأوبئة مميتة، مثل التهاب الكبد الوبائي وفيروس الإيدز خصوصاً في أوساط المجتمعات الفقيرة والتجمعات السكانية والعمالية الأكثر هشاشة.
ثمة نوع أكثر خطورة من النفايات يتولّد خلال الحروب والنزاعات المسلحة، من استخدام ذخائر ذات خصائص كيماوية كالقنابل الفوسفورية والقذائف ذات الرؤوس المغلفة باليورانيوم المستنفد، ومن ركام المنشآت التي تعرضت للقصف، مثل ألياف الأسبستوس. وإذا لم يتم تنظيف هذه المواقع بحسب الأصول فإنها ستشكل خطراً كبيراً على البيئة وصحة البشر، خصوصاً لدى العاملين في تلك المواقع والمتردّدين عليها والساكنين بجوارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك في أميركا
لا تقتصر المشكلة هذه على دول العالم الثالث. ففي الولايات المتحدة يقيم شخص واحد من بين كل ستة أميركيين تقريباً في نطاق خمسة كيلومترات من موقع نفايات خطيرة، مع أن قلة قليلة فقط من هؤلاء تعلم مكان تلك على وجه الدقة. وتندرج المواقع ضمن برنامج "صندوق الدعم الفائق" الذي أطلقه الكونغرس الأميركي عام 1980 بعد الجدل الكبير الذي أُثير في حيّ "لوف كانال" في مدينة نياغارا فولز في ولاية نيويورك. إذ انبرى سكان الحي بكل شراسة إلى مهاجمة شركة "هوكر للمنتجات الكيماوية" بعدما عثروا على براميل من نفاياتها بالساحات الخلفية لمنازلهم التي بنيت في الأصل فوق مطمر سابق.
يشرف "صندوق الدعم الفائق"، وفق ما يذكر في موقعه الإلكتروني، على أكثر من 1700 موقع مُلوَّث يعمل على تطهيرها وإعادة تأهيلها. وقد نشأ بعض هذه المواقع في سبيل الحفاظ على الأمن القومي، مثل الـ1518 كيلومتراً مربعاً في هانفورد في ولاية واشنطن، حيث ظلت مفاعلات البلوتونيوم تنتج قنابل ذرية منذ إقامة مشروع مانهاتان في أربعينيات القرن الماضي. أما بعضها الآخر فهو بقايا مناجم باطنية سابقة، مثل "فوهة بيركلي" في مدينة بيوت في ولاية مونتانا، حيث كان يُستخرج النحاس قبل أن تمتلئ بالمياه الملوثة. وثمة مواقع كانت تحتضن مصانع للمواد الكيماوية ومعامل لصهر المعادن ومخازن للحبوب، مُشبعة بالمواد الكيماوية المطهِّرة. ويُعدّ وجود الماء، بقدرته على نشر المواد الملوثة، قاسماً مشتركاً بين العديد من تلك المواقع، ومنها قناة غوانوس في مدينة نيويورك وأجزاء من نهر هدسون ومرفأ "نيو بدفورد" في ولاية ماساتشوستس.
على الرغم من النقص المزمن في التمويل، أتمّت وكالة حماية البيئة الأميركية تطهير زهاء 400 موقع حتى الآن، وأكملت تشييد محطات معالجة في حوالى 1200 موقع آخر. لكن الصورة ليست وردية بالكامل، فحتى في الأماكن التي تمت السيطرة فيها على النفايات فهذه لم تختفِ بعد، إذ تقدّر الوكالة أن أقل من 90 موقعاً في قائمتها ما زالت خارج السيطرة، ويمكن أن يتعرض سكانها للتسمّم في المستقبل. ويظل التمويل مشكلة دائمة، إذ كان "صندوق الدعم الفائق" يرتكز في تمويله سابقاً على دعامتين: القانون الذي كان يُلزم الشركات المتسبّبة بالتلوث سابقاً بتمويل التطهير؛ ثم "صندوق كبير" (كان يُموَّل من الضرائب على النفط الخام والمواد الكيماوية) يمد الوكالة بالمال الضروري لتطهير المواقع عندما كانت تفشل في استخلاصه من تلك الشركات. لكن الكونغرس تخلى عنهما عام 1995؛ فصار البرنامج برمّته يتلقى تمويله اليوم من ضرائب المواطنين الأميركيين كافة، وما فتئ يعاني نقصاً في الموظفين، بل إن ميزانيته شبه مفلسة.
يبقى السؤال مطروحاً: كيف يمكن للبشر أن يعيشوا قرب أرض ملوثة؟ في هذا السياق يقول علماء البيئة إن علينا ابتكار سبل إضافية لاستغلال المواقع الملوثة بدلاً من استحداث أخرى جديدة. وهم يعتقدون أن الملوثة أشبه بالنفايات التي تنتج من حسن استغلالها السَّماد، وأن كل ما نحتاجه هو إعادة تدويرها فحسب، كما حدث لموقع "روكي ماونتن آرسنال" الذي كان مخصصاً لإنتاج المواد الكيماوية تحديداً مادة الديلدرين الشديدة السمية، التي كانت تقضي في دقائق معدودة على طيور الزرزور في أعقاب التهامها ديدان الأرض وهي ترتجّ من التشنج. أصبح هذا الموقع اليوم ملاذاً للحياة البرية، بعدما تغير مشهده الطبيعي كلياً، إذ هُدمت المرافق الكيماوية وتمت تغطيتها بـ"حاجز حيوي" (أسفلت مسحوق وفوقه طبقة تربة سمكها متر) لمنع الحيوانات من الحفر والوصول إلى الطبقة الملوثة، فيما تعمل الآبار في هوامش الملاذ على منع تسرب المياه الجوفية الملوثة. وأدت عملية التدوير هذه إلى عودة النسور الصلعاء خلال الشتاء، وثيران البيسون وكلاب البراري والأيائل الطويلة الأذنين.