صوماً مقبولاً وإفطاراً شهياً، وإما وحدة سكنية في "كومباوند" (منتجع مغلق) فاخر بالملايين، أو حفنة من الجنيهات للملايين الباحثة عن سقف تستظل به أو وجبة تسد جوعها أو شبكة صرف صحي تقيها شرور الأمراض وتقي سكان الكومباوندات عيون العشوائيات.
عشوائية المنظومة الإعلانية تتحدث عن نفسها على الشاشات الرمضانية، لكنها عشوائية صادقة لا تعكس سوى واقع الحال في الشارع المصري الذي يشير إلى حركة بناء وتشييد لم يسبق لها مثيل. فبحسب "نشرة الإسكان" الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئـة العامـة والإحصاء في نهاية عام 2020، بلغ إجمالي عـدد الوحدات السكنية المنفذة 281.3 ألف وحدة عام 2018-2019 باستثمارات قدرها 94.6 مليار جنيه (نحو ستة مليارات دولار أميركي). وفي العام السابق 2017-2018، تم تشييد 326.3 ألف وحدة باستثمارات قدرها 107 مليارات جنيه مصري (نحو 6،8 مليار دولار أميركي).
مليارات وشقق وإعلانات
هذه المليارات من الأموال وتلك الوحدات من الشقق السكنية التي تشيدها الدولة لها نصيبها من إعلانات رمضان، الذي يعد الموسم الإعلاني الأكبر والأهم. ملف إنجازات الدولة في ما يتعلق بالإسكان الاجتماعي يتحدث عن نفسه في الفواصل الإعلانية الكثيرة بين المسلسلات الرمضانية. فئات مختلفة من السكن موجهة لفئات مختلفة من المواطنين، بين الطبقة المتوسطة وقرينتها الأعلى نسبياً والأدني نسبياً وصولاً إلى القاعدة، حيث تسهيلات الشراء وتيسيرات السداد ووعود ارتقاء السلم الاجتماعي من باب الارتقاء بنوعية البناء وتحسين الأجواء المحيطة بالسكن.
لكن الأجواء الإعلانية السكنية الرمضانية لم تتوقف عند حدود الإعلان والترويج للإسكان الاجتماعي بدرجاته المنحصرة في نصف الهرم الطبقي فقط. فكان للنصف الآخر نصيب، لكنه يأبى أن يمر مرور الكرام أو أن يتعامل معه المتلقي باعتباره إعلاناً والسلام.
كنبة المشاهدة
أجواء السلام والطمأنينة والطيور الصداحة ونافورات الماء الراقصة ومسابح الأطفال الصيفية والمراكز التجارية الراقية والطبية المتقدمة والمدارس الدولية والجامعات العالمية والنساء المتريضات في الشارع والفتيات الممارسات لليوغا في الحديقة العامة والشباب المتسابقون على الدراجات وأفراد الأمن المنتشرون في كل ركن والورد والياسمين والفل والرياحين تطل من كل صوب وسلالات الكلاب النادرة تمرح في حدائق الفيلات، والباص ينافس المرآة في اللمعان والنظافة مشاهد تباغت المشاهد الرمضاني عشرات المرات وهو قابع على كنبة المشاهدة، التي لو قُدر لها أن تحكي لقالت الكثير عما تموج به إعلانات رمضان. تخمة إعلانية منذ مطلع الشهر وصلت إلى درجة تلال من الشكاوى على باب المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. أغلبها صال وجال في اعتداء الإعلانات المطولة على حق الجمهور في المشاهدة مع انخراط أغلب القنوات التلفزيونية في سباق إعلاني لا يخدم الأعمال الدرامية أو الغرض من إنتاجها.
المجلس من جهته أشار في بيان له قبل أيام، إلى أنه قد يضطر للتدخل لحماية للمشاهدين في حال لم تلتزم القنوات من تلقاء نفسها تقليص المساحات الإعلانية. واستند المجلس في تحذيره إلى المادة 70 من قانون المجلس رقم 180 لعام 2018، التي تعطيه الحق في تحديد حد أقصى للمادة الإعلانية الموجودة في المادة الإعلامية والصحافية في جميع وسائل الإعلام.
من سيكسب الإعلان؟
لكن وسائل الإعلام، وتحديداً شاشات التلفزيون التي كسبت قدراً ضخماً من الإعلانات، وما يعنيه ذلك من مكاسب مادية ورواج اقتصادي وتجاري، لم تلتفت إلى المحتوى السكني في الإعلانات، الذي يقول البعض إنه "مثير للفتنة الاجتماعية" تصل في نظر آخرين لدرجة اعتباره "خطراً على الأمن القومي ومهدداً للسلم العام ومستنفراً للاستقرار" ويثير غضب فريق ثالث فاض به الكيل من استخدام الفقر والفقراء سلاحاً لتهديد الأغنياء وتحديد إقامتهم وتقييد اختياراتهم.
اختيار السلعة أو المنتج التي يتم الإعلان عنها أو عنه تحدده السوق والعرض والطلب، وهو ما يجعل الإعلان عن منتجع سكني فاخر أو صنف سمن أو شاي أو سكر أو معكرونة اختياراً لا علاقة للقناة به.
الكومباوند منظومة رمضانية
الكم المذهل من إعلانات "الكومباوندات" في القاهرة والجيزة وما بينهما والعاصمة الجديدة والساحل الشمالي، أصبح منظومة رمضانية مستقلة على الشاشات. الإعلان الواحد قد يستغرق أربع أو خمس دقائق ويزيد. في الإعلان أبطال وبطلات ومنهم فنانون وفنانات وأحياناً حفنة منهم. وقد يتحول الإعلان إلى فيلم وثائقي يسجل حياة سكان الكومباوند بدءاً من رنة المنبه الأنيق في غرفة النوم الفارهة، مروراً بتناول الإفطار في التراس المطل على المساحة الشاسعة أو الحديقة الغناء ثم التوجه للعمل أو النادي أو المركز التجاري بسيارات مليونية، وانتهاء بترفيه المساء والسهرة مع الأصدقاء والصديقات الخارجين جميعاً لتوهم من النوادي الصحية والكوافيرات وعيادات التجميل. كل هذا والمشاهد الرمضاني مثبت في مكانه يتابع ما يهيأ له أنه التفاصيل اليومية للحياة العادية خلف أسوار الكومباوند الشاهقة.
أسوار البؤس
وما هي إلا ثوان معدودة حتى تباغته أسوار أخرى لإعلان آخر، لكن هذه المرة هو إعلان يستجدي القلوب الرحيمة لتتبرع بحفنة من الجنيهات لعلاج مريض أو إيواء مشرد أو الإفراج عن غارمة أو ستر أرملة أو زواج يتيمة أو إطعام جائع والقائمة طويلة. وتنافس إعلانات المرض والتشرد والفقر واليتم والجوع إعلانات الكومباوندات في السرد والتوثيق مع اختلاف الأبطال. الأبطال هنا هم فئات الشعب المطحون والمقهور والمحروم. وجوه بائسة وظروف معيشية مجحفة وآهات ودموع مدغدغة للمشاعر ومحفزة على التبرع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التبرع عبر مناشدات عشرات الإعلانات صار هو الآخر منظومة رمضانية قائمة بذاتها. ويبدو الأمر أحياناً، لا سيما في ظل تواتر وتتابع إعلان الكومباوند حيث الوحدة السكنية الواحدة ببضع ملايين من الجنيهات ثم إعلان "اكفل أسرة فقيرة" أو "اكفل أيتاماً في بيت بلا سقف" أو "اكفل قرية من دون شبكة صرف صحي ومياه شرب" أو "اكفل أماً غارمة" أو "شارك في بناء مستشفى لعلاج السرطان في الصعيد" أو "لعلاج الحروق في الجيزة" أو "لعلاج الأطفال مرضى القلب في أسوان" بحيث يشعر ساكن الكومباوند أو من يخطط لسكنه بالذنب حين يقارن بين ملايينه التي ينفقها على الرفاهية والفخامة حياة "الكوميونيتي" (المجتمع) الذي يشبه بعضه بعضاً، وبين ملايين الفقراء بلا مأوى أو علاج أو زواج أو طعام أو ملابس حيث "الكوميونتي" الذي لا يشبه نظيره الأول. يلمح الخبثاء إلى أن التواتر ربما يكون مقصوداً حيث يكفر ساكن الكومباوند عن ثرائه ورفاهه وفخامته بدعم فقير أو جائع أو يتيم أو مريض أو بائس.
بؤس وبحبوحة
وبين بؤس إعلانات التبرعات وأموال الزكاة والصدقات من جهة وبحبوحة إعلانات "الكومباوندات" وحياة "الكوميونيتي" الراقية و"الستايل أوف لايف" (أسلوب الحياة) المتفرد قطاعات عريضة من الشعب القابع على كنباته. بين هذه القطاعات من تلجأ إلى منصات التواصل الاجتماعي لتصب جم الغضب إما على "كوميونيتي" الكومباوند أو على بؤس التبرعات، لكن الغلبة للغضب الأول.
وعلى الرغم من أن المرابطين والمرابطات من المشاهدين والمشاهدات يدونون ويغردون في رمضان بغرض تحليل وانتقاد وتقييم الطبق الأساس والمكون الاستراتيجي في هذا الشهر ألا وهو الدارما الرمضانية، إلا أن جانباً يبدو أنه الأكبر اختار أن يحلل وينتقد ويقيم ويرصد الإعلانات، وتحديداً مكون السلم الاجتماعي الذي يهدده صراع "كومباوند الأغنياء" و"التبرعات للبؤساء".
استبدل الزحام بفيلا
وذهب البعض إلى حد مطالبة الدولة وأجهزتها الحد من هذا الكم المذهل من إعلانات المنتجعات الفاخرة. تساؤلات عدة تدور حول الخطاب الإعلاني الذي يطالب المتضررين من زحام شوارع القاهرة التقليدية بهجرها والإسراع بشراء فيلا في منتجع مغلق، أو التعاقد على شاليه في مدينة بعيدة راقية حيث حمام السباحة الخاص وحديقة غناء تطرح الخضروات والفواكه. هل يراعي المحتوى معايير السلم الاجتماعي ومقاييس الحقد الطبقي في بلد كانت نسبة الفقر فيه تصل إلى 40 في المئة من السكان. وحتى بإعلان وزارة التخطيط قبل أيام عن وصول نسبة الفقر إلى 28.5 في المئة في العام المالي الجديد 2021-2022، تبقى المعايير قيد التشكك. هذه الإعلانات تحولت إلى مادة بحث ونقاش وتدوين وتغريد على مدار اليوم.
جائحة الناس اللي فوق
وعلى مدار اليوم يجد المشاهدون أنفسهم مشتتين بين جنة حياة "الكومباوند" ونار إعلانات التبرعات، وهو التشتت الذي دفع البعض إلى اتباع مبدأ "داوها بالتي كانت هي الداء". داء "الناس اللي فوق" في مقابل "الناس اللي تحت" والجائحة الناجمة من ذلك في إعلانات رمضان بالغة التناقض دفع أحد نشطاء "يوتيوب" يدعى محمد يسري إلى عمل إعلان هو الآخر، ولكن من نوع خاص، إذ صور مقاطع عدة في شوارع القاهرة الشعبية وتحدث عن حياة الناس "الطبيعية" مقارناً بين ما يرد في إعلانات "الكومباوندات" وما يرد في شوارع القاهرة الشعبية بطريقة ساخرة.
ردود ذكية
المثير أن عدداً لافتاً من المصريين من المنتمين لقاعدة الهرم الطبقي أو "الناس اللي تحت" سارعت إلى عمل نسختها الخاصة بها من أحد إعلانات "الكومباوندات"، حيث مجموعة كبيرة من نجوم الصف الأول يقارنون بين المنتجعين التابعين للشركة نفسها في "التجمع" على أطراف القاهرة و"الشيخ زايد" على أطراف الجيزة، وهما من أرقى أحياء مصر. الفيديوهات المحملة على "يوتيوب" تحمل رسالة مفادها، أن القاعدة العريضة من المصريين ممن لا تحلم بمجرد التفكير في الانتقال لمنتجع سكني في هذه المناطق تعي تماماً أن هذه الإعلانات لا علاقة لها بها. كما تعكس الفيديوهات الساخرة قدراً معتبراً من خفة الظل والذكاء والرضا بالحال مع الوعي الكامل بالهوة السحيقة بينهم وبين "اللي فوق".
وبين "الناس اللي فوق" و"اللي تحت" واقع لا تعكسه الإعلانات وتتخوف الغالبية من مجرد التلميح له. فالفئة الأخيرة هم عمال البناء والنظافة والحدائق وعاملات المنازل والسائقون والخفراء وأفراد الأمن الذين يعملون في "الكومباوندات" المستفزة للسلم الاجتماعي والمكدرة للصفو المجتمعي. وهذا يعني أن سكان "الكومباوندات" المستفِزين هم من يدفعون رواتب قطاعات من سكان الأحياء الشعبية والعشوائية من المستفَزين ويبقون على بيوتهم مفتوحة على الرغم من الاستفزاز والاستنفار.