تعد الموسيقى الهندية من أهم الأنماط الموسيقية في القرن الـ20. لا لأنها موسيقى شعبية تنتمي إلى فترات تاريخية قديمة من الاجتماع البشري، وإنما بسبب تأثيرها على فسيفساء الموسيقى المعاصرة في العالم، هذا الأمر جعلها منذ الستينيات تتربع على عرش الموسيقى الأجنبية الأكثر تأثيراً واستماعاً داخل البلاد العربية.
تحضر الهند اليوم باعتبارها مدرسة موسيقية حرة ومؤثرة في المشهد الغنائي، سواء داخل دول آسيا أو خارجها. لا سيما وأن المتابع للشأن الفني يعثر على تأثير مباشر لها على الموسيقى العربية المعاصرة. والسبب لا تتحكم فيه عوامل تاريخية أو تقنية، وإنما فنية وجمالية تعود أساساً إلى السحر الذي مارسته السينما الهندية على وجدان المشاهد.
ثمة أغان كثيرة صدرت منذ الستينيات لا تزال تحضر الآن كريبرتوار موسيقي غني، يظلل سيرة الأغنية في نفوس الناس. وعلى الرغم من المكانة التي تحظى بها نماذج من الموسيقى الغربية كالروك والبلوز والجاز والميتال في وجدان العربي، فإن الموسيقى الهندية استطاعت التماهي مع طبيعة المجتمعات العربية بحكم استنادها إلى عدد من العادات والتقاليد الصوفية القديمة التي لا يمكن بلورتها إلا من خلال الموسيقى.
وإذا اعتبرت الموسيقى الهندية من طرف عدد الباحثين العرب أقدم الألوان الموسيقية صوفية في العالم. فذلك يعود أساساً إلى الطابع الديني الذي عرفت من خلاله. وتبقى الهواجس الروحية أهم صفة جمالية تتميز بها الموسيقى الهندية الكلاسيكية، كونها ليست بعيدة عن الإنشاد الديني، لكن تعدد الآلات الموسيقية المستخدمة فيها جعلها موسيقى حية تتطور عبر القرون اللاحقة.
تاريخ موسيقي عريق
ترتبط الموسيقى الهندية القديمة بالمجتمع، فهي تروم تقريب الفرد من التعبد بالاستناد إلى كثير من الديانات والأساطير التي يكون مرماها دينياً محضاً، بحيث إن لكل منطقة جغرافية موسيقى خاصة بها تعد ثمرة محاكاة لطبيعة الحياة الاجتماعية السائدة هناك، بل إنها تتنوع داخل كل منطقة معينة وتتغير آلاتها الموسيقية وطريقة أغانيها ورقصاتها، لكنها تظل تشترك في مسألة تهذيب ذوق المجتمع والتشبث بالقيم الكبرى مثل السلم والصفاء والحب والعشق.
وأمام اكتساح الأنماط الموسيقية الغربية المعاصرة للثقافة الهندية بحكم الاستعمار البريطاني وترسباته، لم تتأثر الموسيقى الشعبية بهذا المد الترفيهي. كونها بقيت أمينة إلى فلسفتها الموسيقية الروحية، وظلت حاضرة في وجدان الإنسان الهندي خلال الأعياد الدينية والمهرجانات الفنية والاحتفالات الشعائرية.
هذا الأمر، أسهم في الحفاظ على ديمومتها داخل المجتمع، وجعلها عنصراً مؤسساً للحضارة الهندية على مر تاريخها العريق.
تنويعات موسيقية
هذا وتتأسس الموسيقى الهندية القديمة على ما يسمى "الراجا" و"التالا"، فالأول يعتمد على درجات موسيقية تمثل البنية الباطنية للجملة اللحنية، بينما يأتي الثاني كإطار فني تقدم له سلسلة من الإيقاع المرتجل. وتعتبر المسافة بين الدرجات الموسيقية وإيقاعاتها وأنغامها عاملاً مميزاً للموسيقى الكلاسيكية القديمة. فلحظات الصمت المستقطعة بين كل سلم موسيقي بمثابة سفر روحي في جماليات الآلة ونغمها.
إن ما يميز الموسيقى القديمة أنها ظلت تحافظ على أصولها وكافة معتقداتها بالإيقاع والنغم واللحن. فهي لم تسع جاهدة إلى محاكاة الموسيقى الغربية المعاصرة ولا تأثرت بأي نمط موسيقي آخر، وإنما عملت على الانصهار بشكل أقوى وأكثر حميمية مع موروثها التاريخي، فعملت على تطويع تاريخها الفني وتحويله إلى ذاكرة موسيقية لا تنضب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح عدد من الباحثين الأجانب أنه ينبغي التمييز بين الموسيقى التقليدية العريقة التي كانت تغنى في المعابد الدينية والموسيقى الشعبية التي تبرز جمالياتها داخل بعض الساحات والفضاءات المفتوحة، كونها موسيقى تلتحم بالرقص ويحاولان معاً محاكاة بعض الأوضاع الاجتماعية داخل الهند.
يقول الباحث محمد منصور الهدوي "توجد أقدم سجلات للموسيقى الشعبية الهندية في الأدب الفيدي الذي يعود إلى 1500 قبل الميلاد، حتى إن بعض العلماء والخبراء يشيرون إلى أن الموسيقى الشعبية الهندية يمكن أن تكون قديمة قدم البلاد نفسها".
لكن في مرحلة العصور الوسطى أصاب الموسيقى الهندية تغير كبير بعد أن تأثرت ببعض نماذج الحضارة الإسلامية. يقول الباحث المغربي سعيد بوكرامي "تأثرت الموسيقى بعادات بعض الطوائف الإسلامية الذين وصلوا إلى البلاد من الشمال عن طريق أفغانستان وبلاد فارس. وأضفى الموسيقيون من هذه الطوائف عليها نكهات عربية وفارسية. وهكذا ولدت الموسيقى الهندوستانية التي بلغت أوجها في العصر المغولي. أما في الجانب الآخر، فقد بقيت الموسيقى أكثر ارتباطاً بالطقوس الدينية الهندوسية وبالرقص، وتعرف هذه الموسيقى بأنها كارناتاكية نسبة إلى منطقة كارناتاكا الجنوبية".
زخم الآلات الموسيقية
إن المتأمل لطبيعة الموسيقى الهندية منذ القدم إلى الآن يكاد لا يستطيع القبض عن مجمل موسيقاها، بسبب كثرتها وغزارتها داخل النوع الواحد، إذ كلما اختلفت هذه الأنماط الموسيقية تتعدد آلات عزفها من منطقة إلى أخرى، ما يجعل عملية الاشتباك مع تاريخها أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً. ومن أنماط الموسيقى الشعبية الهندية بيهوغيث وأوتاراكاندي ولافاني وباندافاني وبهاتيالي وغيرها.
وتأتي هذه الأنواع الموسيقية الشعبية على شكل محاكاة للاجتماع الهندي، إذ ترصد موضوعاتها بعض حالات الطبيعة والحب والصداقة، في حين يغنى بعضها بشكل خاص داخل المهرجانات الدينية من خلال سرد أهم البطولات التاريخية والإعلاء من قيمة أبطالها وتمجيدهم من خلال حركات الرقص على الأصابع والدوران باستخدام آلات موسيقية غنية تتنوع بين الناي والسيتار والطبل والهارمونيوم والكارتال والآلات الوترية.
الموسيقى الهندية عربياً
يعثر المشاهد العربي داخل كل فيلم سينمائي هندي على أغنية واحدة تحاكي في جمالياتها الموسيقى الهندية القديمة، هذا مع إعطاء قيمة أكبر لنظيرتها المعاصرة، التي وإن تبدت بمحافظتها على بعض الآلات الموسيقية الكلاسيكية، فإنها تؤكد مدى انسلاخها من الهوية الموسيقية الهندية ولهاثها وراء النموذج الغربي، لكن هذه الموسيقى المعاصرة هي التي يعرفها بشكل أقوى العالم العربي، من خلال أفلام أميتاب باتشان وشاروخان وسلمان خان وأكشاي كومار وأمير خان وكارينا كابور وبريتي زينتا وكاجول ومادهوري ديكشن.
وهي أيقونات سينمائية هندية كرست نموذج الموسيقى الغربية المعاصرة في أفلامها، هذا الأمر جعل كثيراً من موسيقى بعض الأفلام السينمائية منهارة، لكون منطلقاتها الموسيقية متصدعة وغربية في مجمل تصوراتها وغير قادرة على تصوير الواقع الهندي أمام ما يعرفه من تحولات اجتماعية.
وفي حمأة هذا الجدل بين الموسيقى القديمة والمعاصرة، نرى كثيراً من الأغاني العربية وقد تأثرت في نظامها الإيقاعي بالموسيقى الهندية المعاصرة. وتحضر بأشكال مختلفة ومتنوعة، إما بجعل موسيقاها متضمنة في الموسيقى العربية أو من خلال تحضير نسخ غنائية عربية لبعض أغاني الأفلام مثل أغنية فيلم "فان" (2016) لمخرجه مانيش شارما، التي أعاد العمل عليها المغني المغربي عبدالفتاح الجريني (1985)، ثم أعاد التجربة مرة أخرى مع فيلم "رئيس" (2017) لمخرجه راهول دولاكيا، عبر أغنية "زاليما"، هذا إضافة إلى النسخة العربية من أغنية فيلم "دووم 3" التي أدتها المغنية اللبنانية نايا (1988).
رافي شانكار رائداً موسيقياً
يعتبر رافي شانكار (1920-2012) بمثابة الأب الروحي للموسيقى الهندية في المرحلة الحديثة، لكونه أول موسيقار تشبع بالموروث الموسيقي الهندي القديم وعمل على إخراجه من المحلية. من خلال الدخول في عملية تجريب موسيقي مذهل توجته موسيقاراً كبيراً وأحد أهم أعلام الموسيقى في تاريخ الفن الهندي، فقد مزج رافي شانكار بين الأداء والتأليف والعزف، وهي صفات فنية ظلت مفقودة، خصوصاً إذا تميزت ببراعة العزف وجودة الأداء وقوة التكثيف.
لم يكن ابن مدينة بينارس الهندية يتطلع إلى أن يغدو أكبر موسيقي هندي في القرن الـ20، بعد أن عشق آلة "السيتار" وتعلق بحبها وهو لا يزال يافعاً. إن الذين ولدوا معه كانوا يتحدثون عن كون جسده لم يفارق أرض المدينة، وهو يحمل الآلة الضخمة ويعزف عليها عزفاً شجياً متفرداً جعله بعد سنوات يتعاون مع الموسيقي البريطاني جورج هاريسون أحد كبار فرقة "البيتلز"، حيث عملا معاً على نمط موسيقي لم يكن مألوفاً في ذلك الحين. وهو ما ترك لدى رافي انطباعاً جيداً بضرورة انفتاح الموسيقى الهندية القديمة على نظيرتها الغربية. بحكم ما تلمسه شانكار منذ الستينيات من ثورة فنية بدأت تطال القوالب الغنائية الكلاسيكية والأنماط الموسيقية المعاصرة وضرورة تحقيق حداثة موسيقية كونية.
هكذا بدأ رافي شانكار في تلحين نصوص قديمة وإعادة الاشتغال عليها موسيقياً، بما يجعلها تخدم مشاعر المواطن الهندي المعاصر، لذلك لم يذهب الفنان إلى محاكاة الشكل الموسيقي الغربي، وإنما حاول مزج الموسيقى الهندية معه. لم يصدق الأوروبيون في بداية الأمر هذا التواشج الموسيقي الذي ظل عالقاً في ذاكرتهم الموسيقية، لكن منطق القبول هذا يأتي أولاً من السياق التاريخي الغربي الذي كان يدعو واقعه إلى التمرد والانفلات من سلطة التدوير الموسيقي المنتظم كما تبلور في الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، ثم المكانة التي يشغلها السيتار في وجدان شانكار وقدرته على إنتاج نغم أسطوري شجي يترك في القلب حزناً ويزرع في العين دمعاً. إنها سحر أنغام موسيقية صوفية ماورائية تتدفق على آلة السيتار مثل شلال يتسم بالصفاء والهدوء.
أكسب رافي الموسيقى الهندية صورة عالمية غدت تتطلع إليها منذ مرحلة الستينيات بالاشتغال مع فرق موسيقية غربية متنوعة، فقد غذت موسيقاه وجدان الآخر وجعلته يفهم ويستوعب طبيعة الحضارة الهندية والأسس الفنية والجمالية التي ارتكزت إليها في صياغة إرثها الموسيقي.
يقول الباحث شاكر نوري عن آلة السيتار التي اشتهرت بها شانكار، إنها تعود إلى "أصل فارسي، وهي تحتوي ثلاثة أوتار شبيهة بالعود الفارسي. أما الآلة الحديثة فأصبحت بعتبات ونقوش، ولها سبعة أوتار معدنية، بعضها يستعمل للحن والآخر للدندنة، كما أن عنقها الطويل ينتمي إلى شكل يشبه القرع. وافتتن بهذه الآلة الوترية المعقدة، التي تحتضن ستة أوتار لحنية و25 وتراً عاطفياً، مبدعون كثر".