ملخص
أحمد صبري أبو الفتوح يرصد تناقضات النفس الإنسانية وينتصر لحقها في الخطأ
رغبة في الاختباء، يمضي الإنسان منذ الأزل، متراوحاً بين الرغبتين. يطوّع التكنولوجيا من أجل تحقيق النقيضين معاً، لكن التطور كان أكثر انحيازاً لرغبة الكشف، وغريزة الفضول. فأتاحت أدواته وتقنياته؛ سبلاً للمراقبة، والكثير من أساليب الاختراق والقرصنة، التي انتهكت بدورها خصوصية الفرد. وتجاوزت حدود التلصص عليه، إلى تحطيم حصونه، وتهديد نقصه الإنساني، وحقه في اقتراف الخطأ... هذه الإشكالية، هي القضية الرئيسة، التي طرحها الكاتب أحمد صبري أبو الفتوح، في روايته "صاحب العالم"، الصادرة حديثاً عن دار الشروق – القاهرة.
شرع الكاتب رحلته السردية، من لغز اختفاء شخصيته المحورية عبد الحميد دهمش، الموظف الكبير المحال على الراتب التقاعدي، الذي يعيش وحيداً بعد هجرة أبنائه، وموت زوجته. ومنح "أبو الفتوح" بطله ملامح مألوفة، تماثل ملامح شريحة عريضة من المصريين، أولئك البسطاء المهمشين، الذين صعدوا بفضل التعليم، درجات على السلم الاجتماعي، ليستقروا بين أصحاب الطبقة المتوسطة، يجنحون للسلم، يمارسون حيل الموازنة بين صوت ضمائرهم، وبين ما يتطلبه استقرارهم وطموحهم الوظيفي، من الصمت، وتجنب الصدام مع انتهازية، باتت ترتع في كل نواحي المجتمع.
ثيمة التلصص
يستدعي الكاتب وسائل التواصل الاجتماعي، ويعزز من خلالها الصبغة الواقعية للسرد. وقد وظفها في بداية رحلته السردية، لدعم غموض اختفاء البطل، ومنحها دوراً رئيساً في تحريك الأحداث، وفي خدمة الثيمة الرئيسة للنص، إذ أضاء اختراق حساب الشخصية المحورية؛ على برنامج "فيسبوك"؛ قضية التلصص وانتهاك قدسية الخصوصية الفردية، وهي القضية المحورية التي طرقها أبو الفتوح، وتتبع تطور أدواتها ووسائلها، بداية من توظيف شخص ما للتجسس على آخرين، ومروراً بالعيون السحرية المنحوتة في الأبواب، ثم الوسائل الأحدث التي أتاحتها التكنولوجيا، والتي تشاركت على اختلافها وتنوعها غاية واحدة، كان باعثها؛ الرغبة في السيطرة والهيمنة.
وقد أبرز الكاتب خطورة التلصص -على اختلاف أدواته- عبر ما رصد من تداعيات على شخوصه، فكان تعقب توحيدة، للبطل عبر العين السحرية، والكاميرا المثبتة في مدخل العقار، وتنصتها عليه من خلف جدران شقتها، سبباً في ضجره، وفراره من حبها، وكذا تصاعد مأزوميتها نتيجة إعراضه عنها، على رغم رغبته فيها. وكان التلصص على الوزير، الذي حل نزيلاً بالسجن، طريقاً مضموناً لإذلاله، وإخضاعه من قبل كبير الليمان. أما التلصص على محادثات عبد الحميد دهمش، فكان سبباً في انقلاب حياته رأساً على عقب، ودافعاً للنمو الدرامي للأحداث، الذي تجلى في محاولاته للهروب من فضيحة مدوية، زاد من وطأتها ما يتسم به من خصائص نفسية، واجتماعية، وقيمية.
"هؤلاء البشر يستطيعون بمجرد ضغطة زر أو كليك على أيقونة أن يسمعوا ويروا كل ما يدور، وهذا بالضبط ما أريد أن أنبهك إليه، إن ما نظن أنه جنة التكنولوجيا هو في الحقيقة جحيمها" (ص200).
تمكن الكاتب عبر الغموض، الذي أضفاه على ما استبق به من أحداث؛ من فتح كوة تسلل عبرها التشويق إلى السرد، ليس عبر الاختفاء الملغز للبطل وحسب، ولكن أيضاً عبر غموض شخصية "صاحب العالم"، والرجل "ذي اللكنة"، اللذين انتهكا قدسية سر الأرمل المتقاعد. وكذا عبر الاستباق بالإشارة إلى صلة البطل ببعض النسوة، على شبكات التواصل (ألفت زاهر، ألارا المراكبي، ليندا بولونيسكي) والتلميح لعلاقتهن بأزمته، التي دفعت به إلى الهروب والاختفاء.
وقد احتفظ السرد بطابعه التشويقي، عبر التدرج في الإفصاح عن الأسرار، التي تكشفت تباعاً، مع تدفق الأحداث، وعبر الصراع الدائر بين البطل، وبين صاحب العالم.
بين الواقعية والفانتازيا
في زخم واقعية النص مرر الكاتب لمحة من الفانتازيا، عبر شخصية "صاحب العالم"، الذي يمتلك العالم، ويهيمن على كل شيء. لكنه أتاح للقارئ في الوقت نفسه، حرية التعاطي مع هذه الشخصية، إما باعتبارها رافداً للفانتازيا، أو استقبالها كدلالة رمزية، تحيل إلى واقع يهيمن فيه الأقوى، الذي يمتلك التكنولوجيا، وما تتيحه من أدوات للتلصص والمراقبة، أو التعاطي معها، كشخصية واقعية تحاول التلاعب بالبطل وابتزازه. ولم ينته الكاتب لإثبات أي من تلك الاحتمالات حول حقيقة "صاحب العالم"، وإنما عزز ضبابيته. واستفاد من تلك الضبابية في خلق فجوات سردية، تدفع القارئ طوعاً إلى ملئها، على نحو يضمن كسر سكونية السرد. "قبل أن تغادر هبة اليأس اعترف بأنه ليس من الحصافة استبعاد الفرضية الأولى، صحيح أن عقله يرفض تصديق أن هذا العالم الذي يمتد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ويسكن قاراته بلايين البشر... يرفض أن يصدق أن يكون هذا العالم مراقباً عبر قلة من الناس يدعون أنهم مجلس إدارته" (ص96).
وإضافة إلى قضيته الرئيسة حول التلصص، وانتهاك الخصوصية، طرق أبو الفتوح العديد من القضايا الأخرى، التي تؤرق الواقع المجتمعي، فتعرض لقضايا الفساد، الوصولية، البيروقراطية، غياب الشفافية، الفقر والتهميش. واستدعى من الموروث والفلكلور الشعبي، ما يتصل بالطبقة الاجتماعية، التي انحدرت منها شخوصه، ما دعم تلك القضايا وعزز في الوقت نفسه من واقعية النص.
تنوع الصراع
على رغم التزام البطل الحياد، وتجنبه التورط في مناصرة الفساد، أو في محاربته، لم يتمكن من تفادي نصيبه، مما قدره له الكاتب من الصراع، سواء على المستوى الخارجي "بينه وبين صاحب العالم"، أو في عوالمه الداخلية، التي تأرجحت نفسه عبرها، بين الوفاء لزوجة مريضة، والانصياع إلى رغباته الإنسانية، بين كراهية الفساد ومقاومته، والتزام الصمت خشية الأثمان، التي تفرضها هذه المقاومة. واتسق مع ولوج الكاتب إلى عوالم بطله الداخلية، وتعرية ما يعتمل فيها من صراعات؛ لجوؤه إلى تيار الوعي، واستخدام المونولوغ الداخلي. كذلك ترجم الحوارات الصامتة، التي تحدثتها عيون شخصياته (عبد الحميد دهمش وتوحيدة...)، ومنحها لغة عبر صوت الراوي العليم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعبر الاسترجاع والتذكر، استدعى أبو الفتوح صراعات أخرى، اندلعت بين الشخوص الثانوية في النص، كتلك التي نشبت داخل السجن بين مرزوق مرزبة وسعيد عتوبة، وبين الوزير المختلس والمعلم جابر الزاد. وأبرز عبر هذه الصراعات؛ التماثل بين الحياة داخل السجن، والحياة خارجه. فالكل يمارس التلصص، والكل يسعى للسيطرة. وكما أسهم الصراع في زيادة التشويق، وفي النمو الدرامي للأحداث، وشى كذلك بمساحات العطب داخل النفس الإنسانية، تناقضاتها وتراوحها بين الخير والشر، الجبن والجسارة، الإقدام والإحجام، المجد والخسارة، المثابرة والاستسلام. ومرر الكاتب عبر تلك التناقضات، رؤى تنحاز للنفس الإنسانية الناقصة، والضعيفة، والمجبولة على الخطأ، بينما تدين تطفل التكنولوجيا، في عصر الانتصار الساحق، لكل ما هو بغيض ومميت للروح.
أثرى الكاتب شخوصه بسمات التحول، على المستويين النفسي والاجتماعي. فتحولت بعض الشخوص، مثل الحاج صبحي وزوجته، من الفقر إلى الثراء. وبدّل الحب رقة حال عطوان شبار المراكبي البسيط، ليصبح "عطية المراكبي"، زوج الأميرة الخديوية. كذلك صعد دهمش من الطبقة الدنيا، إلى طبقة اجتماعية أعلى، وتحولت عداوته لمرزوق مرزبة إلى صداقة وطيدة. وتخلت توحيدة عن حيادية شعورها حيال جارها الأرمل، إلى الوقوع في حبه. وتحولت حسناء من الصحة إلى المرض، ومن الانخراط في محيطها إلى الانعزال عنه. وتحول البطل من الاتزان النفسي، إلى التيه والاضطراب، بعد انكشاف سره. وقد عززت كل تلك التحولات جاذبيىة ودينامية السرد. "رأته في كاميرا المدخل فتخيلت أنه سيقفز في الهواء طرباً، وفجأة، وقبل أن يخرج من البوابة توقف، ومد يده في جيبه وأخرج التليفون ووضعه على أذنه، وتسمر في مكانه فترة، ثم عاد أدراجه إلى الشقة مستخدماً المصعد، ولما وصل رأته من العين السحرية، كاسف البال، مستسلماً لإرادة لا تدركها، ووشت ملامحه بأن هناك تغيراً قاسياً يحدث" (ص46).
وقد عمد الكاتب إلى كسر نمطية الشخوص، والعلاقات الإنسانية، عبر التمرد على المألوف والمعتاد، فالشابة التي تزوجت بمن هو في عمر أبيها، لم تتبرم من مرضه، ولم تخنه، وإنما أحبته، وأخلصت له حتى مماته. وحين واتتها الفرصة لتعيش حياة جديدة، وقعت على رغم جمالها وشبابها، في حب جارها المتقاعد. وقد انسحبت هذه الصورة المثالية للمرأة، على كل الشخوص النسائية في النص، فكنّ دائماً الأكثر تضحية، والأكثر صبراً وحباً. أما الخطيئة فقد دُفعن إليها دفعاً، تحت وطأة الحب، والحرمان، والتغرير.