ملخص
السرقات في الحروب منذ أقدم العصور بين الأعمال الفردية والجريمة المنظمة وتولد خلفها سلسلة عنف مرافق يكاد لا ينتهي.
قد يكون جاسوساً أو عميلاً أو سارقاً، وفي كل الأحوال لا بد من محاسبته، هكذا يعتبر الشباب الذين أوقفوا سارقي بيوت النازحين في الضاحية الجنوبية لبيروت وضربوهم وعلّقوهم مكبلي الأيدي ومعصوبي العيون على أعمدة الشوارع في منطقة الغبيري، معنونين بلافتة كتب عليها "حرامي".
صور وفيديوهات لهؤلاء اللصوص انتشرت أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي، فأيد بعضهم قصاصهم لجعلهم درساً لمن تسول له نفسه أن يحذو حذوهم، بينما لفت آخرون إلى أن توقيفهم ومحاسبتهم من ضمن مهمات القوى الأمنية.
وقال رئيس بلدية الغبيري معن خليل في اتصال مع "اندبندنت عربية" إن ربط السارقين على أعمدة منطقته "تصرفات فردية"، وفيما لم يقبل أي طرف أمني التعليق على الموضوع بصورة رسمية، إلا أن شعبة العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي منذ أيام نشرت منشوراً عبر منصة "إكس" قالت فيه إن أحد اللصوص "استغل نزوح سكان صور وجوارها ليدخل منازل بعضهم ويسرق من داخلها، وشعبة المعلومات تكشف عن هويته وتعتقله".
ولدى سؤال رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي في لبنان العميد جوزيف مسلم عن الأمر، قال إنه يكتفي بالمنشور السابق، وأضاف أن "هذه حوادث فردية، والحرامي حرامي في الحرب وفي السلم".
سرقة تحت الركام
على عجل بعد إنذار أو غارة، غادر أهل الضاحية والجنوب بيوتهم. منهم من حملوا ما تيسر مما خف وزنه وغلا ثمنه من أوراق مهمة ومجوهرات ومال، ونزحوا إلى مكان ظناً أنه أكثر أمناً، ومنهم من لم يحملوا سوى حياتهم ورحلوا. وفي الحالتين من البيوت المدمرة على أصحابها أو الخالية، ومن البيوت التي هجرها ناسها، استغل بعضهم هذا الفراغ الموحش والدامي في آن لينهب ما تبقى.
يقول شاب لبناني إنهم يشكون بأي شخص يأتي ويصور ويراقبون أرزاق الناس ويحاولون حمايتها قدر المستطاع. وقد يكون هذا ما حدث عندما اشتبه بعضهم في الصحافي يهوشع ترتكوفيسكي الذي كان يحمل جواز سفر بريطانياً ليتضح بعد تفتيشه أنه يحمل جواز سفر إسرائيلياً أيضاً بعدما وصل إلى لبنان قبل أسبوعين كإعلامي ورحل لاحقاً إلى أميركا بعد تدخلها، وفقاً لصحيفة "إسرائيل هيوم".
كذلك لاحظ شباب المنطقة وجود بعض الغرباء الذين دخلوا إلى البيوت بعد خروجهم منها حاملين بعض الأجهزة الإلكترونية أو الأغراض الثمينة. وعن سبب عدم تسليمهم مباشرة إلى الجهات الأمنية، قال الشاب نفسه إن مشهد سرقة الناس المنكوبة لم يتحمله أحد.
وعن ضرب السارقين وتعليقهم، ذكر "على رغم أنه لم يشارك بصورة مباشرة في هذا، لكنه يجد أن من قام بالأمر محق حتى يتعلم الآخرون ألا ينهشوا أرزاق الناس الذين يكفي أنهم ربما ناموا في العراء أو نزحوا أو ربما قتلوا في الغارات".
سلسلة العنف
يبدو جلياً أن عنف الحروب يولد عنفاً اجتماعياً وساحة فوضى وسلسلة لا تنتهي من الانتهاكات على جميع الصعد. وكأن الحرب وحدها لا تكفي وطأتها على المتضررين منها فيأتي من يسرق ما تبقى من أرزاق، مستغلاً غياب الأهالي وضعف الأمن في المناطق المدمرة، فيدخل السارقون إلى البيوت المدمرة بصورة جزئية ليستحصلوا على ما بقي صالحاً للاستخدام أو البيع، ويقتنصون الفرصة، فيقع بعضهم بيد أشخاص يشتبهون فيهم، فيقومون بمحاسبتهم بعقاب علني على أنه عقاب شعبي.
ويطلق بعض الأشخاص إشاعات أن منطقة ما ستدمر على شكل إنذار ليتضح لاحقاً أنهم هواة إثارة فتن ومخاوف ويعتقلون كما حصل في بلدة طاريا البقاعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما يدخل بعض النازحين أحد البيوت المقفلة والفارغة والمملوكة لإيواء عائلاتهم، فتتصدى لهم القوى الأمنية لتنظم الأمر وتفتح أماكن أخرى للإيواء بموافقة أصحابها.
وما بين هذا وذاك، يبدو الأمر قبل تدخل القوى الأمنية كسلسلة رعب من الآثار العنيفة للحروب التي تكاد لا تنتهي. فالحروب عبر التاريخ لم تكُن فقط ساحات للمعارك العسكرية أو المواجهات السياسية، بل أيضاً فرصاً للنهب والسرقة، إذ يعتبر استغلال الفوضى الناتجة من الحروب عاملاً أساسياً في انتشار السرقات وأعمال العنف الأخرى، سواء ضد الممتلكات الخاصة أو العامة، أو حتى ضد الأصول الثقافية والتراثية.
أسباب النهب في الحروب
من أكثر الأسباب شيوعاً للنهب في الحروب الفوضى وانعدام النظام، وانشغال الأنظمة الأمنية بما هو أكثر إلحاحاً في تنظيم شؤون الناس أو حمايتهم، قد يشجع الطامعين لارتكاب السرقات من دون عقاب. ويأتي العامل الاقتصادي الذي يتدهور في الحروب كسبب يدفع كثيرين إلى استغلال الفرص إما لسد رمق العيش أو لزيادة ثرواتهم عبر النهب والسرقة.
هذا على صعيد الأفراد، إلا أن التاريخ يحفل بنهب وسرقات في الحروب أكثر تنظيماً، تقوم بها الدول وجهات أمنية وحكومية، إما لاستهداف الهوية الوطنية للعدو مما يسمى "الإبادة الثقافية" فتسرق الممتلكات الثقافية، أو بهدف تمويل الجيوش عن طريق نهب الثروات أو سرقة الموارد الاستراتيجية.
ويُعدّ نهب روما في ثلاثة أيام عام 410 ميلادي من أشهر حوادث النهب في التاريخ، فعندما سقطت على يد جحافل القوط الغربيين بقيادة ألاريك الأول، تمت سرقة كثير من الثروات والممتلكات الثقافية من المدينة. ويعتبر هذا الحدث علامة فاصلة في انهيار الإمبراطورية الرومانية، ولم تقتصر الخسائر على الممتلكات المادية، بل شملت أيضاً التراث الثقافي للمدينة التي كانت تعتبر مركز الحضارة الرومانية مثل ضريح أغسطس وهادريان ومحراب فضي ضخم من قصر لاتيرانو وكنوز أخرى، إضافة إلى حرق كنائس إيميليا وجوليا.
وخلال الحرب العالمية الثانية، استولى النازيون على كثير من الأعمال الفنية القيمة من مختلف دول أوروبا، بخاصة من المتاحف والمجموعات الفنية اليهودية التي استرجعت وعرضت 150 قطعة منها في المتحف اليهودي في نيويورك عام 2022.
أما في التاريخ الحديث، فبعد غزو أميركا للعراق عام 2003، تعرضت المتاحف والمواقع الأثرية لعمليات نهب واسعة النطاق، فسرقت آلاف القطع الأثرية من المتحف الوطني العراقي في بغداد التي يعود بعضها للحضارات القديمة مثل السومرية والبابلية. واعتبر الأمر مسؤولية أميركا لعدم اتخاذها تدابير كافية لحماية التراث الثقافي العراقي واستمرت الجهود الدولية لاستعادة بعض هذه القطع لأعوام عدة.
ومنذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، تعرضت كثير من المواقع الأثرية فيها للنهب، خصوصاً في مدينة تدمر التاريخية. وتمت هذه السرقات بصورة منظمة من قبل جماعات مسلحة عدة ومن بينها تنظيم "داعش" ليُصار إلى بيع هذه الكنوز الأثرية في السوق السوداء بهدف تمويل بعض عملياتها العسكرية.
وفي إطار الجهود الدولية لمكافحة السرقات أثناء الحروب تم إنشاء "اتفاقية لاهاي" لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاعات المسلحة، بهدف منع تدمير أو نهب المواقع الثقافية وتعزيز جهود استعادة الممتلكات المسروقة. وتقوم "يونيسكو" بدور مهم في الحفاظ على التراث العالمي ومكافحة الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية.
ومما لا شك فيه أن السرقات أثناء الحروب صغيرة كانت أو كبيرة، فردية أو منظمة هي أحد أوجه الكارثة الإنسانية التي تصاحب الحروب المدمرة، تأتي لتلبس الحرب ثوباً آخر من البشاعة والظلم والعنف.