ملخص
ربما ينظر إلى تود بالفعل على أنه أحد أبواق روسيا المعاصرة والمصفوفين على قوائم الدفع الشهرية للكرملين، غير أن الرجل بالفعل قد صدق من قبل في رؤاه لانهيار الاتحاد السوفياتي، مما يعني أنه لا يمكن أن يكون كذلك لرؤاه التشاؤمية ضد القيصرية القديمة.
لا يزال زلزال الهجوم الروسي على أوكرانيا، ذاك الذي انطلق قبل عامين، يهز أركان الدوائر الغربية الحضارية والجيوسياسية دفعة واحدة، بل إنه يستدعي تساؤلات مثيرة إلى حد الخوف، ومخيفة إلى حد الرعب لجهة مستقبل الغرب كمفهوم واسع، يحوي البشر والحجر.
في هذا السياق، نحا عديد من كبار المفكرين الغربيين في طريق التساؤل عن الأحوال "الما بعدية"، إن جاز التعبير لواقع حال ومآل أوروبا القارة العجوز، ومن غير أن توفر علامات الاستفهام أوضاع الولايات المتحدة الأميركية، إذ الرابط العضوي بين الجانبين لا يزال قائماً، غير أن الراوي يكاد يجزم بأنه يهترئ يوماً تلو الآخر.
في هذا السياق كان هناك أكثر من صوت من المؤرخين والمفكرين الأوروبيين والأميركيين، الذين استبصروا مآلات الغرب، رجالات من نوعية نيل فيرغسون المؤرخ الأميركي الجنسية البريطاني الأصل، صاحب المؤلفات المتعددة مثل "الصنم... صعود وسقوط الإمبراطورية الأميركية"، و"الساحة والبرج... الشبكات والسلطة".
كان فيرغسون من الأصوات التي قالت مبكراً بالخطر الذي يتهدد الحضارة الغربية، وما ستؤول إليه، وكثيراً ما عقد المقاربات التاريخية، شأنه كشأن غالبية المؤرخين الثقات، بين الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، وبين الإمبراطورية الرومانية.
أخيراً صدر عنوان جديد باسم "نهاية الغرب" لمؤلفه الفرنسي إيمانويل تود، الذي يتوقع فيه نهاية لهذا الغرب، ومصيراً يكاد يتطابق مع مصير الاتحاد السوفياتي سابقاً.
من هو تود؟ وما المنطلقات المغايرة التي يرى من خلال أبجدياتها أزمة الغرب الراهن؟ ولماذا يقدم رؤية ذات طابع دوغمائي من ناحية، وسياسي من ناحية ثانية، ومن غير أن يهمل الجانب العسكري في الأزمة الغربية اليوم؟
تود... رؤية استشرافية للاتحاد السوفياتي
هناك قماشة واسعة لتعريف تود تمتد عبر حقول شاسعة من عند الأنثروبولوجيا، مروراً بالديموغرافيا، علم الاجتماع، وصولاً إلى العلوم السياسية، ويشار إليه بأنه أحد أهم المؤرخين الفرنسيين المعاصرين، من مواليد عام 1951، ويهتم بنوع خاص في أبحاثه بالهياكل الأسرية المختلفة حول العالم، وعلاقاتها بالمعتقدات والأيديولوجيات والأنظمة السياسية والأحداث التاريخية.
رغب تود في بدايات حياته في دراسة علم الآثار، لكن مقدرات الحياة قادته لجهة العلوم السياسية في معهد "باريس" للعلوم السياسية، واستمر في إعداد الدكتوراه التي حصل عليها في التاريخ من كلية "ترينتي" في جامعة "كامبريدج"، وجاءت حول "سبعة مجتمعات ريفية في أوروبا ما قبل الصناعة، دراسة مقارنة للأبرشيات الريفية الفرنسية والإيطالية والسويدية".
لفت تود الانتباه عام 1976، عندما تنبأ في سن الـ25 بسقوط الاتحاد السوفياتي استناداً إلى مؤشرات ارتفاع معدلات وفيات الرضع، وكتب وقتها مقاله الشهير "السقوط النهائي... عن تحلل المجال السوفياتي".
عمل تود بعد ذلك لفترة في القسم الأدبي لصحيفة "لو موند" الفرنسية الشهيرة، ثم عاد إلى البحث، وعمل على فرضية تحديد الأيديولوجيات والمعتقدات الدينية أو السياسية من خلال الأنظمة العالمية، وضمن هذه الرؤى في كتاباته مثل "شرح الأيديولوجية: بنية الأسرة والنظام الاجتماعي 1983".
كان تود معارضاً لمعاهدة "ماستريخت" في استفتاء عام 1992 وفي عام 1995، كتب مذكرة لمؤسسة "سان سيمون"، والتي اشتهرت بتعبير "الشرخ الاجتماعي"، الذي استخدمه جاك شيراك خلال الحملة الانتخابية لعام 1995، من أجل تمييز نفسه عن منافسه إدوارد بالادور.
هل كانت رؤيته لانحدار الغرب، ومن ثم هزيمته مقدمات تتصل بالتراتبية الأممية ومقدرات الدول الكبرى حول العالم، وبالتحديد نعني الولايات المتحدة الأميركية؟
غالب الظن أن ذلك كذلك، ففي عام 2001، أصدر كتابه "بعد الإمبراطورية: انهيار النظام الأميركي"، وفيه زعم أن عديداً من المؤشرات التي فحصها مثل الاقتصاد والديموغرافيا والأيديولوجيا، تظهر أن الولايات المتحدة تجاوزت مكانتها كقوة عظمى وحيدة، وأن كثيراً من بقية العالم أضحى حديثاً أكبر بكثير مما كان، وأسرع في النمو على جميع الصعد.
ولعله من المثير للجدل أن تود في هذا الكتاب ذهب إلى القول إن عديداً من محركات السياسة الخارجية الأميركية مصممة لإخفاء ما يراه من ازدواجية الولايات المتحدة.
ولعل الأعجب في ذلك العمل، إظهاره روسيا كشريك أكثر جدارة بالثقة في عالم اليوم من الولايات المتحدة، وعلى رغم أن هذا الكتاب انتشر بصورة واسعة، فإنه لاقى كثيراً من الشكوك.
هل جاء كتاب تود الجديد ليقطع بأن حقبة تاريخية جديدة توشك أن تنفلش، وفجراً مغايراً لما عرفته الخليقة طوال الـ500 عام الأخيرة من سيطرة الغرب، ماضية إلى الزوال؟
هزيمة الغرب وأزمة الحرب الأوكرانية
في الحوار الذي أجرته صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، مع تود، على هامش إصدار مؤلفه الجديد هذا، ربط ربطاً وثيقاً بين أزمة الغرب الحالية من جهة، والحرب الروسية - الأوكرانية من جهة ثانية.
يرى تود أن الحرب لم تنته بعد، ولكن الغرب خرج من وهم الانتصار الأوكراني المحتمل، ولم يكن هذا واضحاً للجميع حين بدأ في تأليف كتابه، لكنه اليوم، وبعد فشل الهجوم المضاد صيف 2023، وملاحظة عجز الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي الأخرى عن إمداد أوكرانيا بالأسلحة الكافية.
من أين يستمد تود رؤيته لهزيمة الغرب؟
البداية دائماً من الداخل الأميركي، وبالتحديد من عند جزئية العجز الصناعي مع الكشف عن الطبيعة الوهمية للناتج المحلي الإجمالي الأميركي.
أما الأسباب فتتمثل في عدم كفاية التدريب الهندسي، وبصورة أكثر عموماً انحدار مستوى التعليم، والذي بدأ بالفعل منذ عام 1965 في الولايات المتحدة، ولهذا كانت إدارة رونالد ريغان مهمومة بتقرير "أمة في خطر" عن حالة التعليم في داخل البلاد.
العامل الثاني يأخذنا إلى تساؤل جذري: "هل لهذا الأمر علاقة بفكرة البروتستانتية - التاريخية، أو مزج الدين بالتعليم، وربطهما معاً بالتقدم الحضاري سابقاً، والآن الانهيار الحضاري؟".
تبدو هذه نقطة إشكالية يبرزها تود، والذي يقطع بأن اختفاء البروتستانتية الأميركية يشكل العامل الثاني في سقوط الغرب.
هل لهذا الفكر علاقة ما بالمفكر الألماني البروتستانتي عالم الاجتماع الأشهر ماكس فيبر؟
يعترف تود بالقول، "كتابي هذا يشكل تكملة لكتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" الذي ألفه ماكس فيبر. فقد تصور فيبر، عشية حرب 1914، أن صعود الغرب كان في جوهره صعود العالم البروتستانتي، إنجلترا والولايات المتحدة وألمانيا. كما كان من حظ فرنسا أنها كانت قريبة جغرافياً من المجموعة الرائدة. فقد أنتجت البروتستانتية مستوى تعليمياً عالياً غير مسبوق في تاريخ البشرية، ومحو أمية شاملاً، لأنها كانت تتطلب أن يكون كل مؤمن قادراً على أن يقرأ الكتاب المقدس بنفسه.
يقطع تود بأن هذا الفكر أسهم في نشوء وارتقاء أخلاقيات العمل، والأخلاق الفردية، والجماعة القوية.
اليوم، وعلى الجانب الآخر، أدى الانهيار الأخير للبروتستانتية إلى انحدار فكري واختفاء أخلاقيات العمل والجشع الجماعي، الاسم الرسمي لليبرالية الجديدة، فقد تحول التفوق إلى سقوط للغرب.
ينفي تود أن يكون هذا التحليل للعنصر الديني ذا دلالة دينية أو يعبر عن أي حنين أو رثاء أخلاقي في داخله، ويعده ملاحظة تاريخية.
روسيا الخيار الأخلاقي المفضل
من بين أهم القضايا الشائكة التي يثيرها تود في كتابه وخارج هذا الكتاب، أي لقاءاته الصحافية، ومقابلاته المتلفزة، الحديث عن روسيا ووضعها في هذا العالم المثير والمضطرب.
هل روسيا اليوم وبحسب تود خيار مفضل لكثير من الأمم والشعوب؟
يرى المؤرخ الفرنسي الذي بدأ حياته الفكرية بميول شيوعية أن العامل الثالث في هزيمة الغرب هو تفضيل كثير من بقاع وأصقاع المسكونة للعالم بقيادة روسية، عوضاً عن قيادة الغرب التي سادت طويلاً... لماذا؟
بحسب تعبيره لقد اكتشف العالم حلفاء اقتصاديين متحفظين في كل مكان كما كانت القوة الناعمة الروسية المحافظة الجديدة مثالاً جيداً.
تبدو هذه الجزئية في حاجة إلى تفكيك، والمعنى الذي يذهب إليه تود، هو أن الأرثوذكسية - الروسية، والتي عملت كحاضنة لروسيا القيصرية طوال سبعة عقود من الشيوعية البغيضة، عادت اليوم لتظهر مثالاً أخلاقياً مكافئاً لما قال به ماكس فيبر قبل 100 عام، ذلك أنها ترفض الإباحية والانحلال، تقاوم المثلية والشذوذ، تسعى في طريق تكريم الأسرة وتعزيز الناموس الطبيعي، وهذه جميعها تعاني تدهوراً مميتاً وقاتلاً في الغرب.
هنا يبدو حديث تود منطقياً وعقلانياً، فقد جعل فلاديمير بوتين من موسكو المعاصرة، مركز جذب روحي وأخلاقي عالمي، ولهذا تعقد المقاربات الفكرية والروحية، بين واشنطن التي يستميت فيها اليسار الديمقراطي لتعزيز الانهيار الأخلاقي، وبين موسكو التي تحارب السقوط الأدبي والروحي.
وفي تحليلات تود للمشهد الروسي المعاصر، لا يهمل أن يظهر كيف أن روسيا، وفي أوج تعرضها لضغوط وعقوبات اقتصادية غربية، أميركية وأوروبية على حد سواء، ظلت قائمة وقادمة في طريق المعراج الروحي والأخلاقي، ومحاولة صون كرامة شعبها، في حين أن النموذج الاقتصادي الرأسمالي، تحول إلى عجلة طاحنة لأقنان الأرض، لا سيما في العالم الثالث.
هل تود عميل للكرملين كما يدعون؟
المؤكد وفي ما يبدو ظاهراً أنه ليس كذلك، بل يظهر جلياً في آخر أعماله أنه يريد أن يهرب من المشاعر والحكم الأخلاقي الدائم الذي يحيط بالعالم المعاصر، وأن يقدم تحليلاً محايداً للوضع الجيوسياسي الكوني في اللحظات الآنية، ولهذا يبدو مهتماً للغاية بأزمة أوكرانيا، مع إظهار البعد الخفي للتاريخ من منظوره العقدي والاجتماعي، بالقدر نفسه الذي يهتم به على صعيد التطورات العسكرية على الأرض.
هل فشل الغرب في تطويق روسيا؟
من بين أهم مضمون كتاب تود، ذلك التساؤل المتقدم، وهل فشل الغرب بالفعل في تطويق روسيا من الخارج أو تركيعها من الداخل؟
في واقع الأمر، لا يبدو تود رجلاً متديناً أو نموذجاً أخلاقياً، فهو يحلل الحقائق فحسب، ويوضح كيف أن الحداثة الغربية تبدو مجنونة للعالم الخارجي، وهي ملاحظة عالم أنثروبولوجي، وليس من أتباع الأخلاق الرجعية. ومن الواضح أن أخلاق الغرب اليوم تعتمد على الهندسة المتغيرة التي لا تتمتع بالصدقية في نظر بقية العالم، والغالبية الساحقة من الدول والثقافات والشعوب، ذلك أن الدوائر الحضارية الغربية تنادي بالمساواة والشمول، ولكنها تعيش على العمالة غير المأجورة التي يعمل بها الرجال والنساء والأطفال في العالم الثالث.
يرى تود أن الغرب قد خسر معركته في أوكرانيا، وأن الدعم العسكري لنظام كييف، وجد نفسه عاجزاً عن استخدام أسلحة الدمار الشامل، ليقينه من ضراوة الرد الروسي النووي.
ولعل تود في اللقاءات الصحافية التي جرت معه بعد صدور هذا الكتاب، كان شديد الوضوح في تقديم تفسيرات لصعود روسيا مرة جديدة وفشل الغرب في تطويقها.
على سبيل المثال، ينظر تود إلى مجموعة دول "البريكس"، والمختلفة جداً في طبقاتها الحضارية والعرقية واللسانية، والتي من الصعب كذلك إيجاد أرضية مشتركة في أنظمتها السياسية، فالصين تعمل في منطقة فكرية، والهند منطقة مغايرة، وكلاهما مغاير لروسيا الأرثوذكسية أو البرازيل الكاثوليكية.
ولكن على رغم تلك الاختلافات البنيوية، فإن الصراع الغربي إلى جانب أوكرانيا ضد القيصر بوتين، جعل هذه الدول أقرب ما تكون إلى بعضها بعضاً، بعد أن أراد الغرب عزل روسيا عن العالم.
اليوم، وبعد عامين من محاولة حصار روسيا وخنقها تمهيداً لموتها الأدبي والحضاري، يبدو العكس تماماً هو ما حدث، إذ تنمو في الأفق ظاهرة "البريكس بلس"، إذ إن عديداً من دول العالم تتنادى من حول موسكو، وتجعل منها قبلتها لنظام عالمي جديد، والأمر لم يعد مجرد تنظيرات فكرية، بل هناك محاولات جدية في بلورة نظام تبادل مالي بديل عن نظام "السويفت" المعمول به حول العالم حديثاً، عطفاً على تخليق عملة مغايرة بديلة عن الدولار.
إضافة إلى ذلك، فإن قضية الحرب في الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وبداية مأساة غزة وبداية الحروب، تبدو قضية حرجة في قلب الدوائر الغربية، فقد بدأ جزء ليس بقليل من الرأي العام الأوروبي يدرك أن النفور من الاتحاد السوفياتي لم يكن أيديولوجياً، أو مرتبطاً بالنظام الشيوعي، بل بالجغرافيا السياسية القديمة التي كانت سائدة في منطقة "الأنغلوسفير"، ذلك أن روسيا التي قطعت أوصالها بلا رحمة، واشترتها بأسعار زهيدة في تسعينيات القرن الـ 20 بتواطؤ من الأوليغارشيين في عهد بوريس يلتسين، باتت تشكل مركز الوطن، وقلب العالم وفقاً لهالفورد ماكيندر والجغرافيا السياسية الإمبريالية البريطانية، تلك المصفوفة التشغيلية التي تبنتها الولايات المتحدة واعتمدتها ولم تولد تفكيراً بديلاً، بل إنها تجسدت في الأنانية الذاتية التي تتسم بها العولمة، ومعاداة الإنسانية التي يتسم بها المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي أنشأه ديفيد روكفلر، وذراعه العلمانية هنري كيسنجر، على حد تعبير تود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المثير أكثر هو أن تود يكاد يقدم تفسيراً أو تبريراً لما قام به بوتين في أوكرانيا قبل عامين ونصف العام تقريباً... كيف؟
هو يرى أنه وفقاً للنظرية الإمبريالية أعلاه، فإنه كان ولا بد من عزل روسيا عن بقية العالم، مما تعهدت به أوكرانيا بالفعل منذ عام 2014، أي بعد الانقلاب الذي جرى فيها بزخم استخباراتي غربي لا يلين، وربما غزوها بحسب تود، هو ما أجهض هذا التطويق المراد لروسيا، وقد أثبتت ساحة المعركة صحة تخميناته.
وينبه تود إلى ما يسميه "الإدراكات البوتينية"، فالروس يدركون تفوقهم الصناعي والعسكري، لكنهم يدركون أيضاً ضعفهم الديموغرافي في المستقبل، ويريد بوتين تحقيق أهدافه الحربية من خلال توفير الرجال واتخاذ الوقت الكافي. وهو يريد الحفاظ على ما اكتسبه في المجتمع الروسي بدءاً من الإحياء الديموغرافي، الذي يستغرق طويلاً، وهو لا يريد عسكرة روسيا، بل إنه يهتم بتعزيز تنميتها الاقتصادية، وسيكون التجنيد العسكري أكثر صعوبة في السنوات المقبلة. وعليه فلا بد من أن تهزم أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي الآن، من دون السماح بأي توقف، لا سيما بعد أن عادت ربع أراضي أوكرانيا التي كانت تحت سيطرة روسيا قبل الحرب إلى السيطرة الروسية.
أميركا والغرب وحصار روسيا
حتى الساعة تبقى الولايات المتحدة الأميركية رأس النصل الغربي في مواجهة روسيا والصين، إيران وكوريا الشمالية، وبقية هوامش محور الشر الرباعي الجديد.
في هذا الإطار يتساءل تود كيف تسعى أميركا للفرار من كلف الانهيار الغربي المحتوم؟
في حوار متلفز لتود مع قناة BFMTV قال تود إن الولايات المتحدة عالقة في أوكرانيا نتيجة خداع الذات في شأن قوة إمكاناتها الاقتصادية. أضاف، "الولايات المتحدة وقعت في فخ في أوكرانيا، ووجدت نفسها في قلب المواجهة مع روسيا، وقد نشأ هذا الفخ بسبب القومية الأوكرانية، وأوهام واشنطن حول إمكانية التسبب في اختفاء روسيا، وعجزها عن رؤية الحالة المدمرة لإمكاناتها الصناعية". وأكد أن "الغرب حكم على أوكرانيا بمعاناة رهيبة من خلال عرض الوهم بأن لديها ما يكفي من الوسائل لدعم كييف في الحرب".
في هذا السياق يضعنا تود أمام علامة استفهام تكررت كثيراً وطويلاً أخيراً "هل أميركا تسعى لعرقلة التقارب الأوروبي الروسي؟".
مؤكد أنه منذ أن أطلق الجنرال الفرنسي الأشهر شارل ديغول طرحه الخاص بأوراسيا، أي ذلك القطاع الجغرافي الممتد من المحيط الأطلسي في أوروبا غرباً، إلى جبال الأورال في آسيا شرقاً، وواشنطن لا تشعر بكثير من الراحة، من هنا نتفهم السر وراء المحاولات الأميركية الجادة والمجهدة لوضع العصا في دواليب العلاقات الأوروبية - الروسية عامة، والألمانية الروسية بخاصة.
الأميركيون يقولون الآن إنهم سيصنعون صواريخ "الباتريوت" في ألمانيا، وهذا بالطبع بسبب عدم قدرتهم على تصنيعها بأنفسهم، إذ لم تعد لديهم الموارد الصناعية اللازمة. هنا يبدو واضحاً أن أحد أهداف واشنطن هو منع التقارب بين روسيا وألمانيا، مما يعني أنها تنتهج سياسة الإرهاب الجيوسياسي.
ما الذي يسعى الأميركيون وراءه على وجه التحديد؟
بحسب صفحات كتاب تود، فإنهم يتطلعون لفرض وضع راهن يسمح لهم بإخفاء هزيمتهم، ولكن الروس لن يقبلوا بذلك، فهم يدركون ليس فقط تفوقهم الصناعي والعسكري الفوري، بل، أيضاً، ضعفهم الديموغرافي في المستقبل. ومن المؤكد أن بوتين يريد تحقيق أهدافه الحربية من خلال الاقتصاد في القوى العاملة. وهو يأخذ وقته في هذا، إذ يسعى إلى الحفاظ على إنجازات استقرار المجتمع الروسي، وهو لا يريد إدخال روسيا في سباق تسلح، ذلك أنه حريص على تنميتها الاقتصادية.
يدرك بوتين، أيضاً، أن الطبقات الديموغرافية الجوفاء قادمة، أي تراجع تعداد سكان روسيا، ولهذا فإن التجنيد العسكري سيصبح أكثر صعوبة في غضون بضع سنوات، من ثلاث إلى خمس سنوات على الأرجح، وعلى هذا، فلا بد من أن يهزم أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي معاً، ومن دون أن يعطيهم أي فرصة للتوقف.
وفي الطريق إلى الخروج من هذه الحرب، سيتعين على الجميع أن يدركوا أن القوى العالمية تضعف، وأن أعداد سكانها تتقلص، كما يرى أن "الولايات المتحدة ستضطر إلى التخلي عن الطموحات الإمبريالية، والانسحاب من روسيا وكل المناطق الأخرى التي غذت فيها الصراعات"، ولعله في سياق بحثه عن أسباب تراجع القيادة الغربية للعالم، يتوقف تود عند الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية، وهل هي أحد أهم أسباب التدهور الحادثة على صعيد المنحنى الحضاري المنكمش والمنكسر للغرب؟
يعترف تود بالقول "لقد قمت بتحليل مفصل لمزاج الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة... ماذا كانت النتيجة؟
اكتشف المفكر الفرنسي تود أن ممثلي تلك الطبقة، لا يتمتعون بأي أخلاق، إنهم يفضلون الحرب والمال فحسب، إنهم يرغبون في إثارة الفوضى في أوراسيا.
هل يقودنا هذا القول إلى مخاوف تعمق من فكرة تراجع الغرب؟
انفصال أوروبا عن الولايات المتحدة
كثيراً ما اعتبرت الولايات المتحدة الأميركية القارة الابن البكر، لنظيرتها الأوروبية، ويكفي المرء الإشارة إلى المهاجرين البيوريتانيين الذين ارتحلوا أوائل القرن الـ 17 على متن السفينة "ماي فلاور"، وهؤلاء كانوا نواة أميركا الجديدة، تلك التي استطاع الرجل الأبيض أن يستولي عليها بقوة السلاح من أصحابها الأصليين، أي الهنود الحمر.
عبر نحو أربعة قرون تعرضت تلك العلاقة لمد وجزر، وشد وجذب، تدافع في الزحام الأممي، وصدام في الظلام الإمبريالي، لا سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، غير أن الحرب الباردة، بدورها، تركت انطباعاً بأن العلاقة بين الجانبين زواج كاثوليكي لا تنفصم عراه لا في الحال ولا الاستقبال.
يرى تود أن رغبة واشنطن الدائمة في تأجيج الصراعات في مختلف أنحاء العالم تشكل خطورة بالغة ويقول "في بحثي أحذر من الهوس بالعدمية في الولايات المتحدة، التي تسعى باستمرار إلى الحرب والعنف. لقد فقدت الطبقة الحاكمة مصفوفتها البروتستانتية، وهي لا تعرف إلى أين تتجه وتستمر في إثارة الصراعات في كل مكان".
هل لهذا السبب ينصح تود الأوروبيين بالانفصال عن الولايات المتحدة؟
"إن أفضل ما يمكن أن يحدث لأوروبا هو انسحاب الولايات المتحدة".
هذا الحديث يجد رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر عند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الرجل الذي تكلم قبل أن تتفشى جائحة "كوفيد-19" عن الحاجة إلى قوة عسكرية أوروبية، حتى وإن لم تكن بديلاً عن "الناتو"، ففي الأقل تأتمر بأوامر الأوروبيين أنفسهم، ولا تجد ذاتها في حاجة إلى أوامر الأميركيين في الحل والترحال. على أن كورونا، أوقفت هذا السعي ضمن مخططات ومحركات أوروبية عديدة، كانت تتطلع لتغيير بوصلة العلاقات ما بين واشنطن وبروكسل.
ولعل كورونا عينها، قدمت فرصة ذهبية لأميركا من خلال تعطير صفو العلاقات الأوروبية – الصينية بنوع خاص، والتي خشيت واشنطن من أنها ستشكل حقبة أوراسية جديدة.
والشاهد أنه على رغم بضعة أعوام خلال الجائحة وبعدها، شهدت تحسناً في تلك العلاقات، فإن الذين تابعوا تصريحات ماكرون قبل أسابيع قليلة في برلين، عن مكانة أوروبا بالنسبة لأميركا، يقطعون بأن الحلف الغربي، الحضاري الإنسانوي، والعسكري الأمني، ناهيك بالاقتصادي المجتمعي، يتعرض لضربات متفاقمة.
قال ماكرون إن أميركا لا تهتم لأوروبا، مصالحها ليست مع الأوروبيين كما كانت الحال خلال الحرب العالمية الثانية أو في زمن الحرب الباردة، لقد تغيرت الأفضليات.
هل يقصد ماكرون بذلك الاستدارة الأميركية نحو آسيا؟
حكماً هو لا يزال غاضباً من واشنطن التي أقنعت أستراليا بأن تغير صفقة الغواصات الفرنسية بأخرى أميركية من نوعية "فرجينيا" النووية.
ماكرون يعرف أن أهداف واشنطن الرئيسة هذه الآونة تتمثل في حصار الصين والإطباق عليها، ومعاقبة روسيا وجعلها تدفع أثماناً عالية وغالية لتجرُّئها على رفض مخططات أوكرانيا، ولهذا يبدو الشرخ المجتمعي الذي تحدث عنه تود، من قبل، ماض قدماً في طريق الحضارة الغربية.
هل من خلاصة؟
ربما ينظر إلى تود بالفعل على أنه أحد أبواق روسيا المعاصرة، والمصفوفين على قوائم الدفع الشهرية للكرملين، غير أن الرجل بالفعل قد صدق من قبل في رؤاه لانهيار الاتحاد السوفياتي، مما يعني أنه لا يمكن أن يكون كذلك لرؤاه التشاؤمية ضد القيصرية القديمة.
هنا لا يتبقى سوى الاعتقاد بقوة في رؤيته لنهاية الغرب، والكتاب يحتاج إلى قراءة متأنية معمقة، تربط الديني بالسياسي، وفي هذا تجرؤ على العلمانية الغربية التي قادت أوروبا وأميركا إلى الهاوية.