ملخص
يكتب ميشرا عن زيارته إلى الضفة الغربية التي أسهمت كثيراً في تغيير قناعاته تجاه إسرائيل فيقول "ما كان لشيء أن يهيئني لوحشية ووضاعة الاحتلال الإسرائيلي والجدار الملتوي وحواجز الطرق العديدة وكل ما يعذب الفلسطينيين في أرضهم، والشبكة الحصرية العنصرية من الطرق الممهدة اللامعة وشبكات الكهرباء وأنظمة المياه التي تربط المستوطنات اليهودية غير الشرعية بإسرائيل".
لو اكتمل للرئيس الأميركي دونالد ترمب ما يدعو إليه فقد يتحتم تغيير عنوان الكتاب الأحدث للكاتب الهندي بانكاج ميشرا من "العالم بعد غزة" إلى "العالم بغير غزة" أو "العالم ذي الريفييرا الشرق أوسطية" أو "العالم وقد مات ضميره"، إذ صدر الكتاب أخيراً في 300 صفحة عن "دار بنغوين" وقوبل على الفور باهتمام كبير.
نشأ الكاتب والروائي بانكاج ميشرا خلال سبعينيات القرن الماضي في أسرة من القوميين الهندوس تكن إعجاباً عظيماً لإسرائيل على رغم مناصرة الزعماء الهنود للقضية الفلسطينية، ومن خلال جدّه تشرب بانكاج في صباه قصص بطولات الحركة الصهيونية في إقامة دولة إسرائيل لتكون ملاذاً آمناً لليهود في عالم يعاديهم وجيشاً يضرب أعداءهم، فوصل إعجاب الشاب ميشرا بإسرائيل حد أنه كان يعلق في غرفة نومه صورة لوزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان.
غير أننا نصادف ميشرا الآن في حوار مع موقع "الديمقراطية الآن" يعلق على اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" بنبرة تتنافر تماماً مع ما نشأ عليه، "أعتقد أن وقف إطلاق النار في غاية الهشاشة بسبب إعلان ترمب خططه لتطهير غزة عرقياً، فقد تضاءل في اعتقادي حافز 'حماس' وغيرها من الجماعات المسلحة للثبات على الاتفاق، كما أننا نعلم أن النظام اليميني المتطرف في إسرائيل يقر تماماً خطة ترمب ويتلهف لبدئها، فلا أعتقد أننا ينبغي أن نندهش إذا ما انهار الاتفاق بأسرع مما نتوقع الآن".
وليست هذه بالنبرة المنتظرة من مناصر للدولة الإسرائيلية، فلقد تغير ميشرا مع مرور السنين وعدل عن الإعجاب إلى الانتقاد الشديد لإسرائيل ولكل ما ومن يناصرها، ويوضح دافعه إلى تأليف كتاب "العالم بعد غزة" فيقول "أعتقد أن الدافع الأساس هو أن أنهي هذه الوحدة الرهيبة التي شعرت بها شأن كثير من الناس، أعني حال الخواء الناجمة عن حقيقة أن الأقوياء من الساسة في البلاد الديمقراطية والصحافيين والمثقفين إما صمتوا عما يحدث في غزة من إبادة جماعية أو دعموها دعماً شديداً، فأرغم ذلك كثيرين على إعادة النظر لا في سرديات تاريخ الشرق الأوسط أو التاريخ الإسرائيلي أو التاريخ الفلسطيني وحسب، وإنما في التاريخ الأوسع للتفوق الغربي وحركة إنهاء الاستعمار، كما شهدنا انقساما عالمياً هائلاً في المواقف حيال الأعمال الوحشية في غزة، فكانت جنوب أفريقيا هي الرائدة في رفع دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، ونرى الآن عقاب ترمب وماسك الشديد لها لاجترائها على ذلك".
ويضيف ميشرا "رأينا أيضاً فزع الرأي العام في معظم العالم من فداحة الرد الإسرائيلي وعدم تناسبه مع الفعل نفسه، ورأينا الرأي العام يطرح أسئلة عن الديمقراطيات الغربية نفسها من قبيل: ما الذي حدث هنا؟ ولماذا تدعمون هذه المجزرة اللانهائية لآلاف البشر؟ أعتقد أنني وجدت نفسي في موقف كثير من المتحيرين في الرد الإسرائيلي على السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وكان لدي في الأقل خيار أن أحول ألمي وحيرتي إلى محاولة للفهم من خلال الكتابة، لكن الواقعة تبقى محيرة ونحن الآن في طريقنا إلى الجزء الأكثر احتداماً فيها".
ويكتب بن هوبارد مستعرضا ًالكتاب "نيويورك تايمز - 9 فبراير (شباط) 2025" فيقول إن القوميين الهندوس من حول ميشرا كانوا ينظرون إلى نجاحات دولة إسرائيل فتتعاظم في أعينهم إخفاقات الهند، وفي ذلك يكتب ميشرا أن "القومية الهندوسية بدت بالمقارنة مع إسرائيل أشبه بمأساة، إذ حرمها الانفصاليون المسلمون من دولة موحدة بعد أن سمح تراخي غاندي ونهرو بتقسيم كارثي للهند عام 1947".
ويضيف بن هوبارد "كانت قراءة الأدب هي التي ساقت ميشرا إلى تجاوز دروس أسرته، فبقراءة منتقدي القومية من أمثال رابندرانت طاغور والكاتب الصهيوني آحاد هاعام، ضاق بما يعده الآن نموذجاً للهيمنة العرقية في الهند وإسرائيل، وتغيرت قناعاته أكثر عندما زار الضفة الغربية عام 2008 وشهد بنفسه المعاناة الفلسطينية في ظل سيطرة الجيش الإسرائيلي، وكتب أنه شعر بالانزعاج لأن "من يضطهدونهم الآن هم ضحايا الغرب السابقين، وأنه شعر بنبرات عرقية عميقة كان لها أثر فيه بوصفه منتمياً إلى بلد له تجربة سابقة مع الاستعمار، فرأى ميشرا أن الفلسطينيين يشبهونه وأنهم 'يعيشون كابوساً بات بالنسبة إلي ولأسلافي في ذمة الماضي' فرجع إلى وطنه بإحساس من أفاق بعد غفلة".
ويكتب ميشرا عن زيارته إلى الضفة الغربية التي أسهمت كثيراً في تغيير قناعاته تجاه إسرائيل فيقول "ما كان لشيء أن يهيئني لوحشية ووضاعة الاحتلال الإسرائيلي والجدار الملتوي وحواجز الطرق العديدة وكل ما يعذب الفلسطينيين في أرضهم، والشبكة الحصرية العنصرية من الطرق الممهدة اللامعة وشبكات الكهرباء وأنظمة المياه التي تربط المستوطنات اليهودية غير الشرعية بإسرائيل".
ويكتب بن هوبارد أن "الكتاب يستكشف خيوط التاريخ والذاكرة والهوية والسياسة المتشابكة، ساعياً إلى إلقاء الضوء على دلالة الحرب بين إسرائيل و'حماس'، وعلى رغم أن تفكيره في إسرائيل قد تغير فقد بقي رأيه ثابتاً في أن العنف في الشرق الأوسط يتعلق بما هو أكثر من قتال طائفي محدد في جزء من الكوكب بإرث حروب كبرى، وبانهيار الـ 'كولونيالية' وظلال الـ 'هولوكوست' وظل دائماً مثقلاً بصراعات أخرى تمثل مرايا له، وكلما تعمق ميشرا في بحثه ازدادت تأملاته تنوعاً".
وفي حين يسيطر الإحساس بالغضب على الكتاب الذي ألفه ميشرا قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الراهن بين إسرائيل و"حماس"، "فما كان لهذا الاتفاق أن يخفف حدة الانتقاد الذي يكيله للحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة التي ينتقد إمدادها إسرائيل بالسلاح الذي دمر حياة المدنيين"، ويكتب هوبارد أن الكتاب أكثر من محض سيرة لميشرا أو استعراض لتطوره الشخصي، فهو يكتب في المقدمة عن الأثر الكبير لأحداث السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب، محدداً غاية إضافية للكتاب في " شعرت أني شبه مرغم على تأليف هذا الكتاب، لأخفف حيرتي وإحباطي من هذا الانهيار الأخلاقي الشامل".
وأضاف في ما ينقل عنه هوبارد أنه أراد لكتابه أن يكون دعوة إلى "التضامن بين البشر" بما يتجاوز الانقسامات العنصرية والعرقية، لكن الكتاب أيضاً "اتهام غاضب ورصين لدور الغرب في إنشاء إسرائيل وكل ما نجم عنه".
ولكي يحقق ميشرا غايته الطموحة بأن يكون كتابه عودة للتضامن بين البشر تتجاوز الاختلافات العرقية والعنصرية، فإنه يتسلح، بحسب ما يكتب هوبارد، بقائمة ببليوغرافية واسعة النطاق، وبخاصة في ما يتعلق بحقائق الـ "هولوكوست" قبل أن "تشوهها هوليوود فتتحول إلى أداة للمدافعين عن إسرائيل يصدون بها أي نقد".
ويستقوي ميشرا أيضاً باقتباسات من عدد كبير من الناجين من الـ "هولوكوست" والمؤرخين والمثقفين الإسرائيليين والفلسطينيين والكُتاب الأفرو- أميركيين، بل وتمتد قائمته لتشمل وودي آلن، "ويبدو أن الهدف من ذلك هو أن يفاجئ القراء بانتقادات لإسرائيل من مصادر غير متوقعة، عسى أن يكون ذلك سبيلاً إلى أن يتقبلوا سبلاً أخرى لفهم التاريخ".
يكتب رئيس قسم الأخبار الدولية السابق في "صحيفة غارديان" البريطانية تشارلي إنغليش مستعرضاً الكتاب (غارديان - 8 فبراير 2025) فيقول إن "شرور الـ 'كولونيالية' الغربية هي أساس تحليل ميشرا الذي يؤكد أن جميع القوى الغربية عملت متآزرة من أجل دعم نظام عنصري عالمي بات الطبيعي فيه تماماً للآسيويين والأفارقة أن يتعرضوا للإبادة والإرهاب والسجن والنبذ، بل إن النازية في رأيه لم تكن إلا امتداداً للـ 'كولونيالية' استوردها هتلر إلى أوروبا، وما كانت الـ 'هولوكوست' إلا تدفقا طبيعياً لإبادات أخرى اقترفها البيض في حق شعوب بأنحاء العالم".
وفي حواره مع موقع "الديمقراطية الآن" يقول ميشرا "إنني أعتقد أنه من المهم بحق ألا نقتصر على التفكير في الماضي أو التاريخ، أي التاريخ الأوسع لما يجري اليوم في غزة، فعلينا أن نفكر أيضاً في الحاضر، وهذا أيضاً بعض مما أتناوله في الكتاب، فهل غزة تشير إلى شيء أكبر من محض الحلقة الأحدث في حلقات صراع قديم في الشرق الأوسط؟ وهل هي نذير بوصول أنظمة حكم عنصرية عرقية يمينية متطرفة إلى السلطة في أرجاء العالم الغربي؟ إنني أقول في الكتاب إننا نشهد انهياراً أخلاقياً وسياسياً بل أقول إنه أيضاً انهيار فكري، وانهيار أكبر وأشمل مما سبق أن عرفنا على مدى أعمارنا بلا أدنى شك".
ويضيف "العالم منذ القرن الـ 19 يقوم على نظام واضح العنصرية من الإمبريالية والرأسمالية، وأعتقد أن بعض أفضل الناس في آسيا وأفريقيا قد قاوموا هذا النظام العالمي وانتصروا في نهاية المطاف، وبدءاً من منتصف القرن الـ 20 أقاموا الدول القومية التي نجدها الآن في أرجاء آسيا وأفريقيا والتي باتت سياسياً واقتصادياً وجيو-سياسياً أشد رسوخاً، فضلاً عن ثورة عقلية أراها قائمة ومستمرة منذ عقود عدة، لكن من أغرب الأمور على الإطلاق أننا نرى الولايات المتحدة ترجع للوراء، وهذا جزء من التفكك الأميركي الكبير، إذ ترجع إلى نظام القرن الـ19 والإمبريالية الجشعة الحريصة على الاستيلاء على الأرض"، كما نرى في طرح الاستيلاء على غزة حين قال دونالد ترمب حرفياً "سنأخذ غزة ولن يكون علينا أن نشتريها، فما من شيء يشترى، سنأخذ غزة" وحينما يسأله صحافي عما يعنيه بهذا يقول "ما من سبب للشراء، فما من شيء ليشترى، إنها غزة، منطقة مزقتها الحرب وسنأخذها".
ويقول ميشرا إن "الناس يتكلمون منذ وقت طويل عن أن هياكل الإمبريالية العنصرية وعقلياتها التي تكونت في القرن الـ 19 لا تزال حية إلى حد كبير، فكان من يقولون ذلك يتعرضون للاستخفاف لكننا الآن نرى عياناً بياناً ما يثبت صحة هذه الأفكار، فما يقوله ترمب اليوم واضح للغاية ويمكننا أن نرى كيف تراكمت هذه الثروة، وهذه السلطة العظيمة على مهل، ونرى كيف أن بعضهم خائفون من فقدان تلك السلطة بسبب صعود الصين وسيطرتها، وعلى رغم أنهم الأقوى في العالم فهم يرجعون لأكثر أشكال التوسع سفوراً".
ويرى بن هوبارد أن إنهاء الاستعمار إطار شديد الضخامة للعقود الثمانية أو نحو ذلك من التاريخ الإنساني، ويقر بأن ذلك الإطار يوسع نطاق البحث في كتاب ميشرا لكنه لا يطرح كثيراً من الرؤى لتفسير صراع الشرق الأوسط، فميشرا نفسه "بعد أن يصف حركة إنهاء الاستعمار بأنها 'ثورة لا يمكن إيقافها' يخلص إلى أنها قد لا تحدث فارقاً كبيراً على أية حال، فيتنبأ بأن إسرائيل في نهاية المطاف ستطرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة".
ويكتب بن هوبارد أن هذه النبوءة صدمته عند قراءته الكتاب للمرة الأولى، ولم يخفف من هذه الصدمة إلا دعوة الرئيس الأميركي إلى نقل الفلسطينيين وتجاوزه إلى حد القول بالاستيلاء على غزة، "قد يتوقع المرء من ميشرا بعد الاحتجاج بالغ القوة بأن إنهاء الاستعمار غير وجهات النظر العالمية تغييرا عميقاً أن يتنبأ بمقاومة جديدة وفعالة للتهجير الجماعي أو يتوقع في الأقل قدراً من الأمل في أن دعوته إلى نظرة أكثر تعقيداً إلى الماضي قد تلهم بتغيير ما لولا أن التشاؤم يغلب التفاؤل عند ميشرا".
غير أن الأمر قد يكون بعيداً من بساطة التفاؤل أو التشاؤم، فلو صح أن كفاح الفلسطينيين من أجل حريتهم جزء من كفاح مماثل لشعوب العالم المضطهدة منذ منتصف القرن الـ 20، ولو صح أن إسرائيل محض جزء متخلف عن المشروع الاستعماري الغربي فقد لا يكون غريباً الخروج من هذا التحليل بنتيجة مفادها أن حركة التاريخ نفسها منحازة لأحد طرفي هذا الصراع، وأن فيها غنى للفلسطينيين عن التفاؤل ووقاية أكيدة من التشاؤم.
العنوان: THE WORLD AFTER GAZA: A History
تأليف: Pankaj Mishra
الناشر: Penguin