ملخص
يكره سكان غزة أوامر الإخلاء ويعتبرونها أكبر عذاب لهم، ففي جولة القتال الأولى التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، أجبرت إسرائيل نحو 1.7 مليون نسمة من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون فرد، على إخلاء مناطقهم السكنية.
التقط سيراج قصاصة ورقية وقرأ "إلى سكان منطقة بيت حانون، من أجل أمنكم عليكم الإخلاء فوراً إلى مراكز الإيواء المعروفة، جيش الدفاع الإسرائيلي يحذركم من البقاء في أماكنكم"، هز الأب رأسه وبدت ملامحه متوترة من أوامر الإخلاء الجديدة ورحلة النزوح القسرية التي لم يرتح من عذابها.
ضرب سيراج كفاً بكف وقال صارخاً "كأن الأرض ضاقت بنا، كأنها تلفظنا"، ثم هرع مسرعاً إلى بيته المدمر جزئياً ولكنه يعيش فيه على رغم أضراره الخطرة، يبلغ أسرته الاستعداد لرحلة نزوح جديدة.
لطمت زوجة سيراج خديها عندما سمعت الخبر، ومباشرة سألت "أين سنذهب"، لا إجابة من معيل الأسرة، واكتفى بقول "عليكم تجهيز أنفسكم فوراً"، وبدأ هو في تحضير الأخشاب وقطع النايلون المقوى ليعيد صناعة خيمة يحتمي فيها ويأوي عائلته من التشرد.
رحلة النزوح الأولى
فجر الثلاثاء الـ18 من مارس (آذار) الجاري استأنفت إسرائيل حربها ضد قطاع غزة بهدف القضاء على حركة "حماس"، وإجبارها على الإفراج عن الرهائن المحتجزين لديها، وبعد الضربات الجوية مباشرة بدأ الجيش في توزيع أوامر الإخلاء.
يكره سكان غزة أوامر الإخلاء ويعتبرونها أكبر عذاب لهم، إذ في جولة القتال الأولى التي بدأت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أجبرت إسرائيل نحو 1.7 مليون نسمة من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون فرد، على إخلاء مناطقهم السكنية.
وحشرت إسرائيل النازحين في منطقة إنسانية جنوب غزة في المواصي غرب مدينة خان يونس، وكانت تلك المساحة ضيقة لا تتجاوز 65 كيلومتراً مربعاً، لكن يعيش فيها نحو 1.7 مليون مشرد في خيم بالية مهترئة.
عاش النازحون حينها فترة زمنية طويلة امتدت نحو 16 شهراً واجهوا خلالها ظروفاً قاسية ومرعبة، إذ كانت مناطقهم تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، فلا شبكة صرف صحي ولا ماء صالح للشرب أو للاستخدام ولا كهرباء، فقط مجرد رمال بحرية، وعلى رغم هذا العذاب كانت المنطقة الإنسانية تتعرض للقصف وحرمان الغذاء.
عندما توقفت الحرب موقتاً في المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، سمحت إسرائيل للنازحين المتعبين المرهقين بالعودة إلى مناطق سكنهم، حينها شعر العائدون بالقليل من الراحة النفسية، وأخذوا يعيدون تأهيل ما تبقى من بيوتهم ويعيشون في أنقاض خطرة، لكن على رغم ذلك يشعرون بأنهم مرتاحون في مناطقهم وإلى جانب أقاربهم.
نزوح المناطق نفسها
ما لبث هذا الشعور كثيراً حتى تلاشى بسرعة عندما عادت الحرب واستأنفت إسرائيل توزيع أوامر الإخلاء وحشر النازحين في مناطق ضيقة لا حياة فيها معدومة المقومات، وأعادتهم إلى حياة يكرهونها وتذكرهم بأيام مرعبة قاسية عاشوها في بدايات الحرب.
جهز الأب الحائر سيراج أمتعته القليلة وحمل على كتفه أعمدة خشبية وربط على ظهره قطع النايلون المقوى، ثم سار ببطء متبع مرهق مطأطأ الرأس، يقول "اعتقدنا أن عذاب النزوح قد انتهى، يا ليتنا متنا قبل أن تعود الحرب من جديد".
تعيد فصول النزوح نفسها، فقد أمرت إسرائيل سكان المناطق نفسها بالإخلاء، وأجبرتهم تحت تهديد النار والغارات على ترك بقايا منازلهم وخيامهم التي نصبوها فوق الركام والهرب نحو مناطق لا يعرفونها ليحتموا بها.
في المرافق التعليمية
كان الفجر بالكاد قد تنفس، حين بدأ صهيب رحلة نزوحه الجديدة، يسير على طرقات غير معبدة مليئة بالحفر والحجارة المتناثرة يبحث عن أي مكان يقيم فيه خيمته، طول رحلة النزوح القاسية التي قضاها مشياً على الأقدام كان يحدث نفسه.
يتساءل صهيب "أين سنذهب؟ الحرب شلت تفكيرنا، فرحنا عندما عدنا إلى مساكننا، أجبرنا على النزوح القسري في بداية الحرب، تنقلنا خلالها لمناطق عدة في القطاع، قبل أن نعود من جديد لنصب خيام على أنقاض منزلي المدمر".
يضيف "شعرت بالاستقرار موقتاً، لكن اليوم للمرة الأولى أحس أن حياتي لا فائدة منها، كل يوم تشريد وترهيب وتعذيب، فكرة النزوح مقلقة مرعبة، الجميع يخاف منها، لأن لا أحد يعرف أين سيذهب".
خطوات العائلة كانت ثقيلة تروي حكاية النزوح المتكرر، وبعد ساعات طويلة من المشي المرهق، حاملين متاعهم القليل وخيامهم التي كانوا يقيمون فيها، وصل صهيب إلى الجامعة الإسلامية المدمرة ليحتمي بها.
اختار صهيب أقل المباني ضرراً وجلس في غرفة واحدة وشرع في ترقيعها وتصليحها، نصب النايلون المقوى مكان النوافذ ووضع الشوادر مكان الباب، ثم أخذ يفكر في تدبير الماء والطعام وشحن الهواتف، وأوضح "نسكن في مؤسسات مقصوفة ومدمرة، ووضعنا صعب جداً"، تحمل ذاكرة الرجل كثيراً من ذكريات النزوح المؤلمة، واليوم يعود مجدداً ليجد نفسه نازحاً مرة أخرى لكن إلى المجهول.
أنبوبة أوكسجين وطفلة مريضة
مع بزوغ الشمس وصلت قافلة النازحين الجدد من عائلة عمران إلى منطقة المواصي، يقول الأب "ذهبت إلى منطقة النزوح السابقة، وبدأت على الفور بنصب خيمة من قطع أقمشة وأعمدة خشبية نقلتها معي في كل رحلة نزوح".
ويضيف عمران "نسكن في مناطق تفتقر إلى كل الخدمات والخصوصية من جديد، عادت مراكز الإيواء للامتلاء من جديد، لا أعتقد أن النازحين الجدد قد يجدون مكاناً لهم، النازحون هنا تختزل أحلامهم في الحصول على شربة ماء وتحصيل لقمة يسدون بها قرقرة بطونهم الجائعة".
تجلس سعاد على قارعة الطريق إلى جانب أمتعة النزوح، وإلى جوارها ينشغل أولادها في تجهيز خيمة للعائلة، تقول الجدة "داخل الخيمة الصغيرة ستنام ثلاث عائلات، مضطرون، ماذا نفعل؟ لم نجد مكاناً".
بين عائلة سعاد طفلة تعاني صعوبة في التنفس، وتستخدم جهاز الأوكسجين، تحسس الجدة على رأسها، وتضيف "تخيل أبوها معه طفلة مريضة، ومضطر إلى النزوح بها من مكان لآخر، مع أنبوبة الأوكسجين".
تعتبر الجدة سعاد أن النزوح موت بطيء وشعور لا يوصف فيه ألم وهلع وتوتر وخوف وانعدام الرغبة في الحياة، ولكن سكان غزة مجبرون عليه لحماية أرواحهم من الموت والعذاب.
من جانب إسرائيل يقول المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي "سوف نبدأ هجوماً قوياً ونحن نقاتل ’حماس’ وليس سكان غزة، لذلك نطلب من المدنيين النزوح والإخلاء، وقريباً سنبدأ في عمليات ترحيل كبيرة للقضاء على الحركة".