Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

كورتيس يارفين داعية "التنوير الظلامي" في أميركا

كيف أصبح المبرمج والمدون المجهول بـ"الحبة الحمراء" فاعلا إيديولوجيا خطيرا ومؤثرا على إدارة ترمب وخصوصا نائب الرئيس؟

كورتيس يارفين عدو الليبرالية والديمقراطية (مدونة Unqualified Reservation)

ملخص

أيديولوجية المدون الأميركي كورتيس يارفين، الذي ينضوي تحت إطار اليمين الجديد ويلهم جمهوريين كثر، تعتبر الديمقراطية الليبرالية "عدواً منحطاً" تعزز في الواقع رؤية للحكم تفضل الاستبداد على المبادئ الديمقراطية

وسط التغيرات الجذرية التي تجري بها المقادير في الداخل الأميركي، لا سيما على الصعيد الأيديولوجي، طفا على السطح أخيراً اسم كورتيس يارفين وحركته الجديدة التي عرفت باسم "التنوير المظلم أو الظلامي"، والتي تصب بصورة أو بأخرى في تعديل وتبديل صورة الولايات المتحدة التي نعرف.

في أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2024، وبعد الفوز الكبير الذي حققه ترمب في الانتخابات الرئاسية، كشفت تقارير حديثة عن أن مدوناً غير معروف بصورة واسعة، نجح إلى حد كبير في التأثير في الإدارة المقبلة للرئيس المنتخب دونالد ترمب، كما وجد أيضاً أن الأشخاص العاديين يعرفون عنه أقل حقاً.

من هو هذا المدون؟

إنه كورتيس يارفين، الشخصية البارزة في الحركة الرجعية الجديدة، والذي يكتسب زخماً متزايدا في إدارة ترمب، لا سيما بالنسبة إلى نائب الرئيس جي دي فانس، والعهدة على صحيفة "الغارديان" البريطانية.

وتعد أيديولوجية كورتيس الديمقراطية الليبرالية "عدواً منحطاً" تعزز في الواقع رؤية للحكم تفضل الاستبداد على المبادئ الديمقراطية.

تبدو أفكار يارفين في الواقع، متسقة مع الإجراءات الأخيرة التي يتخذها الرئيس ترمب منذ أن وصل إلى سدة الحكم، لا سيما تلك التي تشمل مناورات قانونية ضد منتقدي وسائل الإعلام وتعبئة قاعدة "أميركا عظيمة ثانية"، ضد المشرعين الجمهوريين المعارضين.

تشمل استراتيجيات كورتيس يارفين الدعوة إلى حملة "غضب" لتطهير موظفي الحكومة، ورفض أحكام المحاكم التي تتحدى الحكم الاستبدادي، وعنده كذلك أن المرشح الناجح لا يمكنه الوصول إلى السلطة إلا من خلال انتخابات قانونية، ثم لا يمكنه ممارستها بصورة غير قانونية إلا بإعلان حال الطوارئ.

 تتماشى الأفكار المتقدمة مع خطاب الرئيس ترمب، لا سيما حول فكرة استخدام القوة العسكرية ضد من يفترض أنهم أعداء داخل البلاد.

من هو كورتيس يارفين؟ وما أبعاد حركته؟ وهل تمثل بالفعل خطورة على المسيرة الديمقراطية في الداخل الأميركي، وانعكاسات ذلك على بقية أرجاء العالم؟

كورتيس يارفين أم منسيوس مولدباغ؟

كورتيس جاي يارفين المعروف أيضاً باسم منسيوس مولدباغ، هو مدون أميركي، يعرف إلى جانب الفيلسوف نيك لاند، بتأسيس الحركة الفلسفية المناهضة للمساواة والديمقراطية، والمعروفة باسم التنوير المظلم أو الحركة الرجعية الجديدة.

في مدونته Unqualified Reservation التي كتبها من عام 2007 إلى عام 2014، وفي نشرته الإخبارية اللاحقة Gray Mirror، التي بدأها عام 2020، زعم كورتيس أن الديمقراطية تجربة فاشلة، ويجب استبدال نظام ملكي مسؤول بها على غرار هيكل حوكمة الشركات.

في عام 2002 بدأ يارفين العمل على مشروع برمجي شخصي أصبح في النهاية منصة الحوسبة الشبكية Urbit، وفي عام 2013 شارك في تأسيس شركة Tlon للإشراف على مشروع Urbit وساعد في قيادته حتى عام 2019.

وصف يارفين بأنه رجعي جديد، وملكي جديد، وإقطاعي جديد، إذ يرى أن الليبرالية تنشئ نظاماً شمولياً شبيهاً بفيلم "ماتريكس" ويريد استبدال نوع من الملكية التقنية بالديمقراطية الأميركية.

دافع يارفين عن مؤسسة العبودية، وأشار إلى أن بعض الأعراق قد تكون أكثر ميلاً للعبودية من غيرها.

من مزاعم يارفين أن البيض يتمتعون بمعدلات ذكاء أعلى من السود، لكنه لا يعد نفسه قومياً أبيض، ويعد ناقداً لبرامج الحقوق المدنية الأميركية، كما وصف ذات مرة حركة الحقوق المدنية بأنها "صناعة غضب السود".

أثر يارفين على بعض مستثمري "وادي السيليكون" البارزين والسياسيين الجمهوريين، حيث وصف رجل الأعمال بيتر ثيل بأنه "أهم صلة له".

قرأ المتخصص الاستراتيجي السياسي ستيف بانون، مستشار ترمب السابق، أعماله وأعجب بها.

من جهة ثانية أشار نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس إلى يارفين باعتباره مؤثراً في توجهاته، كما ناقش مايكل أنطون، مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية خلال رئاسة ترمب الثانية، أفكار يارفين.

في يناير (كانون الثاني) الماضي حضر يارفين حفل تنصيب ترمب في واشنطن، وذكرت مجلة "بوليتيكو" أنه كان "ضيف شرف غير رسمي بسبب تأثيره الكبير على اليمين الترمبي".

تبدو الجذور الأسرية ليارفين في غاية الإثارة، فقد وُلد عام 1973 لعائلة ليبرالية علمانية.

كان أجداده من جهة والده يهوداً أميركيين شيوعيين. عمل والده هربرت يارفين، لدى الحكومة الأميركية كدبلوماسي، وكانت والدته بروتستانتية من مقاطعة ويستتثر.

التحق يارفين بجامعة براون، ثم طالب دراسات عليا في برنامج دكتوراه علوم الكمبيوتر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي قبل أن يترك الدراسة بعد عام ونصف العام للانضمام إلى شركة تكنولوجيا خلال التسعينيات.

تأثر يارفين بثقافة التكنولوجيا الليبرالية في "وادي السيليكون"، كما قرأ في تلك الفترة أعمال اليمين والمحافظة الأميركية، وقد كتب يارفين كثيراً تحت اسم مستعار "منسيوس مولدباغ".

الطريق الفكري للعداء لليبرالية

والسؤال الآن: كيف تحول يارفين من المسار الليبرالي إلى العداء له؟

من الواضح أن قراءات متعددة، ومسارات عقلية سابقة، تركت انطباعات مثيرة في ذهن يارفين، وعملت على تحويل مساره، إن لم نقل تحريفها.

على سبيل المثال لا الحصر، اقنعت قراءات يارفين لتوماس كارليل الكاتب والمؤرخ الاسكتلندي بأن الليبرالية مشروع محكوم عليه بالفشل دون إدراج الاستبداد، كما رسخ لديه ما قاله هانز هيرمان الاقتصادي الأميركي، الألماني المولد، عام 2010 من أن الديمقراطية هي الإله الذي فشل.

كانت تلك بمثابة بدايات قطيعته مع الديمقراطية، وكان تأثير جيمس بيرنهام، الفيلسوف والمنظر التروتسكي الأميركي الشهير، عليه واضحاً لا سيما حين أكد أن السياسة الحقيقية حدثت من خلال تصرفات النخب، تحت ما سماه الخطاب الديمقراطي أو الاشتراكي الواضح.

ولعل ما جرى في بدايات العقد الأول من القرن الـ21 على صعيد السياسات الأميركية، وإخفاقاتها في بناء أمة حداثية، لا سيما بعد غزو أفغانستان والعراق، عزز من أفكار يارفين الرافضة للدمقرطة والليبرالية المنفردة، ولاحقاً جاءت الأزمة المالية الأميركية في 2008، لتقطع بأن هناك خطباً جللاً، ثم انتخب الأميركيون باراك أوباما، مما جعل يارفين يوقن بأن اليسار الأميركي هو الحال لا محالة.

في هذا التوقيت، وبالتحديد في 2007، بدأ يارفين ما يمكن أن نسميه حياته الرسائلية، عبر مدونته الشهيرة للترويج لأفكاره وآرائه السياسية.

وقبل خمسة أعوام، أي في 2020، بدأ يارفين بتدوين آرائه عبر صفحة حملت اسم "المرأة الرمادية"، وفيها نشر "تأملات في الانتخابات المتأخرة"، و"ثورة الفراشة"، وهي تجارب فكرية حول كيفية تحقيق انقلاب أميركي واستبدال صورة جديدة من الملكية بالديمقراطية، وهي أفكار وصفها النقاد بأنها "فاشية".

على أن الإرث الكبير والخطر ليارفين هو ذاك المتعلق بأفكار وآراء ما يعرف بالحركة الرجعية الجديدة، والتنوير الظلامي، وهو تضاد لغوي يصعب فهمه، إذ إن النور ضد الظلمة، وبهذا لا يمكن أن يكون التنوير ظلامياً بحال من الأحوال.

الرجعيون الجدد والتنوير المظلم

يكاد يكون الأمران صنوين، فالتنوير المظلم يسمى كذلك الحركة الرجعية الجديدة، ويتم اختصاره أحياناً إلى NRx، وهي حركة فلسفية معادية للديمقراطية والمساواة، ويعد مصطلح التنوير المظلم رد فعل على عصر التنوير ودفاعاً عن المفهوم الشعبي للعصور التي يطلق عليها المظلمة.

ما الذي تقدمه أو ترفضه هذه الأيديولوجية؟

باختصار مفيد ترفض الأيديولوجية بصورة عامة التأريخ اليميني، والمفهوم القائل إن التاريخ يظهر تقدماً لا مفر منه نحو مزيد من الحرية والتنوير، والذي بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية والملكية الدستورية، لمصلحة العودة إلى البنيات المجتمعية التقليدية وصور الحكم، بما في ذلك الملكية المطلقة وصور القيادة القديمة الأخرى مثل الكامبرالية (فن إدارة الدولة).

الرجعيون الجدد هم مجتمع غير رسمي من المدونين والمنظرين السياسيين الذين نشطوا منذ العقد الأول من القرن الـ21. ويعد ستيف سيلر رائداً معاصراً لهذه الأيديولوجية، التي استوحت أيضاً تأثيرها من فلاسفة مثل توماس كارليل الاسكتلندي، ويوليوس إيفولا الروحاني الإيطالي الشهير.

يعتقد يارفين أن السلطة السياسية الحقيقية في الولايات المتحدة تمسك بما يطلق عليه "الكاتدرائية"، وهي مزيج غير رسمي من الجامعات والصحافة السائدة، وكلها متواطئة في التأثير في الرأي العام.

وفقاً ليارفين، تهيمن طبقة اجتماعية تسمى "البراهمة" في إشارة إلى طبقة البراهمة في نظام الطبقات الهندية، وطبقة البراهمة الأميركية تتمركز في بوسطن، وتبشر بالقيم التقدمية للجماهير.

من أين ينشا هذا المفهوم؟

من الواضح أنه ينبع من التشبيه الاجتماعي الديني، ومن آراء يارفين أن الأيديولوجية التقدمية للكاتدرائية تنقل إلى عامة الناس وتستوعب لديهم بالطريقة نفسها التي توصل بها السلطات والمؤسسات الدينية العقائد الدينية إلى المتعصبين.

ويؤكد يارفين وحركة التنوير المظلم أن التزام الكاتدرائية بالمساواة والعدالة يقوض النظام الاجتماعي، ويدعو إلى "ملك" أميركي يحل المؤسسات الأكاديمية النخبوية ووسائل الإعلام خلال الأشهر القليلة الأولى من حكمه.

ومن أفكار يارفين زعمه أن المجتمع يحتاج إلى "إعادة ضبط شاملة"، أو "إعادة تشغيل" وليس إلى سلسلة من الإصلاحات السياسية التدريجية. وبدلاً من النشاط، فإنه يؤيد السلبية، مدعياً أن التقدمية ستفشل من دون معارضة اليمين، ووفقاً له ينبغي على أتباع الحركة الرجعية تصميم "هياكل خروج جديدة بدلاً من الانتظام في نشاط سياسي غير فعال".

يرى يارفين أن الحكومات الديمقراطية غير فعالة ومبذرة، ويجب استبدال شركات مساهمة سيادية بها، وينتخب "مساهموها" (كبار الملاك) رئيساً تنفيذياً بسلطة مطلقة، ولكن عليه أن يخدم حسب رغبتهم.

يستطيع هذا الرئيس التنفيذي، غير المثقل بالإجراءات الديمقراطية الليبرالية، أن يحكم بكفاءة عالية، تماماً مثل رئيس تنفيذي ملكي.

يكن يارفين إعجاباً كبيراً بالزعيم الصيني دينغ شياو بينغ، لسلطويته البراغماتية والموجهة نحو السوق، ويبدو معجباً كبيراً بسنغافورة كمثال على نظام استبدادي ناجح، كما يرى الولايات المتحدة متساهلة في مكافحة الجريمة، وتقع تحت سيطرة أوهام اقتصادية وديمقراطية.

هل كان الرئيس السابق جو بايدن من الذين لفتوا الأنظار في خطابه الوداعي إلى المخاوف التي تتهدد أميركا من جراء هذه الحركة وأنبيائها الجدد؟

أوليغارشية أميركا وتدمير الديمقراطية

من دون الاستفاضة فيما تكلم عنه الرئيس السابق بايدن، قبل مغادرته البيت الأبيض بساعات قليلة، نجد أن الرجل قد حذر مما سماه "الأوليغارشية التقنية"، أو "المجمع الصناعي التقني" الموازي للمجمع الصناعي العسكري الأميركي في زمن أيزنهاور أو ربما تجاوزه.

هل كورتيس يارفين هو المدخل الطبيعي لهذه الأوليغارشية عبر أفكاره الساعية إلى كتابة السطر الأخير في مسيرة الديمقراطية الأميركية؟

يخشى الكثر في الداخل الأميركي أن يكون ذلك كذلك قولاً وفعلاً، لا سيما أن حركة NRx أو الحركة الرجعية الجديدة، تدافع عن الاستبداد التكنولوجي، أي أن تحكم المجتمعات من قبل رئيس تنفيذي ملكي، مثل شركة هرمية للغاية، حيث يكون المواطنون بمثابة مساهمين حقيقيين.

هذه أفكار محاطة بهالة خفية غامضة وكئيبة لها صلة باليمين البديل، والخوف الكبير من أنها قد تكون قد تسللت بالفعل إلى إدارة ترمب عبر أقطاب "وادي السيليكون"، الذين ظهروا بوضوح خلال تنصيبه.

على أن ما يخيف بأكثر قدر في الأوساط الأميركية العقلانية، هو أن حركة اليمين البديل، أو الرجعيين الجدد، ليس لها قادة بارزون ولا منظمات راسخة، ولا دعم رسمي من مراكز الأبحاث، بل تظهر أفكارها في التجمعات المحافظة، أو المدونات الصوتية الهامشية.

يقول مايك ويندلينغ، مؤلف كتاب "اليمين البديل: من فور تشان إلى البيت الأبيض"، "من الصعب العثور على أكثر من حفنة من الأشخاص خارج الحركة المحافظة ممن يعرفون هذه الأفكار المحافظة"، غير أنه يعتبر الأمر ميزة، ما يدخل الجميع إلى دوائر العمل السري المؤدلج، ومن هنا تتبدى خطورة المشهد.

يكتب الصحافي الإسباني سيرغي. سي. فانجول، موضحاً ملامح مشهد كورتيس يارفين ورفاقه يقول، "إن التأثير الحقيقي للحركة الرجعية الجديدة ليس وجودها بحد ذاته، بل الطريقة التي تسللت بها بخبث إلى مناطق مختلفة، من (وادي السيليكون) إلى حركة (ماغا)، وذلك من خلال عالم العملات المشفرة، أو الحزب الجمهوري".

في مقدم هؤلاء الذين حولوا أفكار كورتيس يارفين إلى واقع عملي حي، يأتي الفتى المعجزة إيلون ماسك، وهو المثال الأكثر بروزاً، وإن كان هناك عديد من الآخرين.

يميل هؤلاء الأشخاص إلى الاعتقاد بأنهم سادة الكون، إنهم يريدون لوائح أقل، بينما يتطلعون إلى الاستفادة من العقود الحكومية.

ويبدو كذلك أنهم وراء دعوات الرئيس ترمب لوقف تيار الهجرة إلى الداخل الأميركي، إذ ينظرون إلى المهاجرين على أنهم عمالة موقتة وعابرة بدلاً من الفكرة التقليدية لأولئك الذين يصلون سعياً وراء الحلم الأميركي، وهنا نجد يارفين يتفاخر بأن موقفه هو دائماً عكس موقف نعوم تشومسكي.

أحد الأسئلة المهمة التي تتقاطع مع تيار الحركة المحافظة الجديدة أو الـNRx هو: هل كان جورج بوش الابن سبباً مباشراً في نشوء وارتقاء هذا التيار؟

الشاهد أنها نشأت نتيجة للسخط على اليمين الأميركي التقليدي، وقد بدأ هذا في المراحل الأخيرة من إدارة جورج دبليو بوش الابن (2001 - 2009)، عقب الغزو الأميركي للعراق وفي خضم الأزمة المالية كما سبق وأوضحنا.

يوضح جورج هاولي الأستاذ في جامعة آلاباما ومؤلف كتاب "اليمين البديل: ما يحتاج الجميع إلى معرفته" الصادر عام 2008، تلك الظروف التي أفرزت هذا التيار بقوله "بدا أن هذه الظروف تشير إلى أن رؤية بوش للمحافظة قد فقدت صدقيتها، وأتاحت الفرصة لبدائل يمينية".

من هذه الأرض الخصبة، انبثقت حركة حزب الشاي، التي واجهت باراك أوباما بشراسة في إطار ليبرالي وشعبوي، ولكن من دون أن تحيد بعيداً من الإطار اليميني المعتاد. في الوقت نفسه بدأت أفكار رجعية جديدة هامشية بالظهور، مقتنعة بأن اليمين التقليدي عاجز عن تحقيق تغييرات هيكلية.

أفكار يارفين ومستقبل الرئيس ترمب

ومن الأسئلة المطروحة: هل أفكار يارفين تخدم مشروعات الرئيس ترمب وأفكاره وبرامجه، ليس هو فحسب، بل بقية طاقم إدارته؟

هذا سؤال مشروع، لا سيما أن هذه الحركة تصور الرئيس ترمب على أنه بطل "مسياني" مقدر له إنقاذ البلاد مما يسمى "الدولة العميقة" التي تعد معتدية على الأطفال وشيطانية.

يحاجج التيار الليبرالي بأن فوز ترمب عام 2016 بدا بطرق استبدادية، وبرحيله عن القيم المحافظة الراسخة، وتحديه لوسائل الإعلام والمعايير السياسية، منسجماً مع مبادئ NRx، ومن المرجح أنه سعيد بتشجيع هذه الأفكار.

من هنا تعتقد الحركة أنه من الضروري مكافحة تكتل يمارس السيطرة الأيديولوجية، والتي يشار إليها أحياناً بـ"الكاتدرائية"، حيث تلتقي وسائل الإعلام الرئيسة والجامعات والمؤسسات النخبوية الأخرى للحفاظ على الوضع الراهن.

يتندر البعض بأن يارفين قدم لأميركا "الحبة الحمراء" التي تساعد الأميركيين على الهرب هذه الأيام من أزماتهم الداخلية.

والشاهد أن أفكار هذه الجماعة باتت تقفز وتتجاوز الجغرافية الأميركية إلى ما وراء الأطلسي، ولا يزال عصر التنوير عدو اليمين المتطرف في القرن الـ21. وقد تجلى ذلك جليا في رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، أو الفيلسوف القومي الروسي ألكسندر دوغين.

كان الأمر كذلك في القرن الـ20 أيضاً مع الفيلسوف اليميني الإيطالي يوليوس إيفولا، والصحافي الفرنسي الآن دو بينوا العضو المؤسس لحزب اليمين الجديد في فرنسا.

لكن الليبرالية بترويجها للفردية والتنافسية أثرت سلباً في قيم الرفاه الاجتماعي والإخاء، وبانحيازها إلى عدم المساواة شوهت القيم الديمقراطية.

والثابت أن تيار الحركة الرجعية الجديدة يزعم احتضان فكرة انهيار الغرب وسيادة قوى الفوضى.

لكن هناك آراء عدة ترى أن قوى الفوضى هذه لا يمكن حتى لهم السيطرة عليها، وأن خطأهم الرئيس هو محاولة استخلاص نظام ما قبل الحداثة من المستقبل، لكن الفوضى تنتج دائماً جديداً، لذلك، لا يمكن تحديد مسارها بأي شكل من الماضي، ومهما ينتج من الفوضى أو انهيار النظام العالمي، فلن يكون كما يتوقعه الرجعيون.

جي دي فانس وسحر أفكار يارفين

على النقيض من الرئيس ترمب، الرجل الذي ليس له دالة على الأعمال الفكرية أو الثقافية، والمنبت الصلة بالنظريات السياسية، يظهر نائبه جي دي فانس على سطح الأحداث، بوصفه قادماً من عالم الكتب والروايات، ومن خلال قاعات البحث والدرس، والمثاقفة مع كبار الإنتلجنسيا الأميركية، ومن الغريب أن كورتيس يارفين، وبحسب المقال المهم الذي قدمه إيان وارد، من مجلة "بوليتيكو" الأميركية، يبدو أحد المفكرين السبعة الذين شكلت نظرتهم العالمية بعضاً من رؤى جي دي فانس.

قال فانس إنه يعد يارفين صديقاً، واستشهد بكتاباته فيما يتعلق بخطته لطرد عدد كبير من موظفي الخدمة المدنية خلال إدارة ترمب الثانية.

عام 2021 قال فانس عبر بودكاست محافظ، إن هناك "رجلاً يدعى كورتيس يارفين كتب عن بعض هذه الأمور"، مضيفاً "أعتقد أن ترمب سيترشح مجدداً عام 2024، وأعتقد أن ما يجب على ترمب فعله، لو كنت أنصحه بنصيحة واحدة: طرد كل موظف بيروقراطي متوسط المستوى، وكل موظف مدني في الدولة الإدارية، واستبدال موظفينا بهم".

هل تشي هذه الكلمات بأمر ما؟

مؤكد أنها تعطينا فكرة عن وجود تخطيط مسبق لعودة ترمب إلى البيت الأبيض مرة جديدة، لكن هذه المرة عبر روافع أيديولوجية مثيرة وخطرة في المقدمة منها كورتيس.

غير أن المشهد مخيف بالنسبة إلى جي دي فانس، والذي يبدو بالفعل أحد أهم محركات البيت الأبيض السياسية، بل إن بعض الأصوات الأميركية اعتبرته "كلب الحراسة" الوفي للرئيس ترمب، اعتماداً على مشهد لقاء الرئيس الأوكراني في البيت الأبيض، وكيف أنه قام بهجوم مكثف عليه، دعماً للرئيس ترمب.

غير أن ما يخص دي فانس، لا يتعلق بالحال فحسب، بل يمتد كذلك إلى الاستقبال وبقوة، لا سيما أن الأحاديث الآن تدور حول التخطيط المبكر جداً لترشحه لرئاسة الولايات المتحدة، عام 2028.

يفترض كورتيس أن النظام والاستقرار السياسيين يجب أن يقدما على مبدأ الحرية السياسية، وهو من أشد مشجعي فكرة "البرلمانية الجديدة" أو نظام إدارة الدولة بفكرة الشركات، معطياً الأولوية للكفاءة والحوكمة التي يديرها التكنوقراط أو القادة الأكفاء وليس للمسؤولين المنتخبين.

والثابت أن أميركا برمتها، تدار بفكرة "الدولة الكربوراتوية" أي مفهوم الدولة الأقرب إلى الشركة بالفعل، والتي يرى البعض أن مجمعات الضغوط المتباينة، هي أذرع تلك الدولة، ومن هذا المنطلق فإن طروحات كورتيس تعمق من فكرة حكم الأقلية سواء التكنوقراطية أو الرقمية، ناهيك بإمكان انضمام مزيد من تيارات اليمين الجديد إلى بوتقة كورتيس وشركائه.

كورتيس وإعادة إحياء اليسار الأميركي

هل يمكن لكورتيس أن يضحى حجر زاوية في بناء اليسار الأميركي الجديد؟

عندما سُئل يارفين عمن يعده "مستنيراً" بنظريته السياسية، أجاب "بالنسبة إليَّ، الاستنارة التامة تعني خيبة أمل تامة".

يتحدى يارفين الأساطير السياسية والتاريخية لليسار من منظور متعاطف، ويتناول المحرمات الأخلاقية التقدمية.

يطفو كورتيس على سطح الأحداث أخيراً في توقيت يعاني فيه الحزب الديمقراطي هزيمة ساحقة ماحقة جرت على يد أنبياء اليمين الأميركي الجديد.

وفي الوقت عينه يعاني الحزب الديمقراطي صراعات داخلية، لا سيما بين الديمقراطيين الليبراليين، إن جاز التصنيف، وبين الجماعة الأخرى المغرقة في يساريتها، والتي غالباً ما كانت السبب الرئيس والمباشر في هزيمة ثقيلة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.

بعد الهزيمة، على الديمقراطيين اختيار إحدى رغبتين، إما الرغبة في تكرار الشعارات الأخلاقية السائدة في العقد الثاني من القرن الـ21، أو الرغبة في الفوز. إذا اختاروا الأولى، فسيستمرون في فقدان مكانتهم لدى الرأي العام والحكومة والمؤسسات الثقافية. أما إذا اختاروا الثانية، فقد يضطرون إلى مراعات منظور يارفين لإعادة بناء قدرات الدولة.

فهل ستكون أفكار كورتيس يارفين طريقاً وجسراً يعبر من خلاله الديمقراطيون مرة جديدة إلى البيت الأبيض؟

ربما يكون حلم صاحب "الحبة الحمراء" أخطر من ذلك بكثير، إنه يسعى إلى أميركا أخرى مُغايرة عن تلك التي نعرف.

المزيد من تقارير