Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

حكاية فتاة فلسطينية "وحيدة كغرفة مزدحمة"

الروائية بدار سالم تعتمد فن الرسائل لتكتب رواية الحياة بسخرية سوداء

لوحة للرسام الفلسطيني ماهر ناجي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

 في سياق الروايات الفلسطينية الجديدة التي تصدر تباعاً، تبرز رواية الكاتبة الشابة بدار سالم التي تحول حياة فتاة فلسطينية إلى كوميديا سوداء في 29 رسالة.

من المتعارف عليه في زمننا اليوم أن التقدم لنيل منحة أو وظيفة في أية جامعة أو مؤسسة مهمة يجري عبر إرسال رسائل شخصية وسير ذاتية عملية تمثل المرء أفضل تمثيل أمام لجنة التحكيم، إلا أنه يبدو أن الأمور قد التبست على بطلة الكاتبة والمحررة الفلسطينية بدار سالم، ففي روايتها الأولى "وحيدة كغرفة مزدحمة" (دار الآداب - 2024) تختار سالم أن تبني سردها بأكمله على مجموعة رسائل ترسلها بطلتها مجدل كريم إلى البعثات والجامعات والمؤسسات العالمية، طالبة منها نيل المنح المعروضة إنما بطريقة مضحكة ظريفة خفيفة، تفضح شيئاً من العبثية المبطنة ومشاعر الانهزام والوجع الوجودي.

وبأغرب الطرق وأظرفها، وبشكل ساخر لا يخلو من الفكاهة السوداء، ترسل مجدل كريم رسائل التقدم لنيل منح ووظائف معربة فيها عن أعمق مشاعرها وأحلك أفكارها، وعلى رغم ما يظهر من ظُرف وخفة فإن رسائل مجدل كريم تفضح حميميات حياتها العائلية والعاطفية والنفسية، وتفضح تفاصيل عبثية العيش في رام الله ومأساة فقدان الأم وألم العيش في وحدة لا تُكسر، مما يخلق بينها وبين القارئ شعور تحالف وتآزر، فلا يستطيع المتلقي الامتناع من التعاطف مع هذه الراوية الغريبة العاجزة عن الإمساك بحبال الحياة، وهي التي تقول بنفسها عن نفسها "مجنونة أنا، ربما هذه هي الحقيقة، ولا منحة في العالم يمكن أن تغير ذلك" (ص:82)

ويلاحظ القارئ أن ثيمة الوحدة موجودة في نص بدار سالم منذ عنوان الرواية، وهي وحدة عفوية قصرية حتمية لا مفر منها، فتقول الراوية عندما تتحدث عن أصدقائها وهم "صديقة واحدة" فرضت نفسها عليها، "لم أتمكن من تكوين علاقات ناجحة "سوى غصب عني" في حياتي الشخصية" (ص:97)

الوحدة والإزدحام

ويظهر كذلك تناقض واضح في العنوان بين كلمتي "وحدة" و"مزدحمة"، وهو تناقض مقصود ويعكس ما في شخصية البطلة من تعارضات، وهي التي تقول في أحد مواضع السرد عن زملائها في الجامعة "هم مثلي متناقضون ومشوشون" (ص:23)

29 رسالة مضحكة خفيفة ظريفة عفوية يستشعر فيها القارئ مشاعر العبثية والغربة، رسائل طلب نيل منح ووظائف من جامعات أو مؤسسات أو بعثات تظهر كلها فكهة جذابة مليئة بنواقص البطلة ومثالبها، وليس مناقبها ومآثرها كما هو متوقع، في صراحة وعفوية وظُرف تجتذب القارئ وتجعله حليف الراوية، وهي التي تصف نفسها بأنها "عنيدة، باردة، غريبة الأطوار،" (ص:80)

يستغرب القارئ أن تكتب فتاة فلسطينية إلى جهات رسمية بهذه الحميمية والأريحية من دون أن تسلم رسائلها من سخرية سوداء لاسعة تجاه الواقع، فتخبر مجدل قصة حياتها وقصة عائلتها بطريقة ساخرة، لتقول مثلاً في رسالتها إلى أعضاء لجنة زمالة الصحافة في مؤسسة "رويترز"، "والدي في حال نفسية سيئة، فزوجته الأولى ماتت جراء أزمة ربو حادة، وزوجته الثانية انتحرت، في وقت هناك فيه ألف طريقة للموت في فلسطين" (ص:66)، ثم تضيف في آخر الرسالة نفسها عن علاقتها السيئة بزوجة والدها "لحسن الحظ أننا نعيش في بلد محتل، ليست فيه رفاهية أن تفكر البنات بقتل زوجات أبائهن" (ص:68)

وتتجلى بطلة هذه الرواية فتاة غريبة عن نفسها ومحيطها وعائلتها، فهي منذ ولادتها لا تتأقلم وتعجز عن إيجاد مكانها، فتكتب في إحدى رسائلها "لم أتمكن من عيش الحياة الجامعية والتي ربما كانت فرصتي الأخيرة لأكون شخصاً طبيعياً، ولكن كيف لفتاة اسمها مجدل أن تكون طبيعية أصلاً، بينما تحمل اسم قرية ووطن لم يعودا موجودين؟ لماذا كان علي أن أحمل هذا العبء طوال الوقت؟ لماذا لم يفكر والدي بتسميتي أمل أو فرح أو حتى ليلي؟" (ص:21)

تمزج الراوية بين مأساة العيش وروح النكتة في مخاتلة أحزانها، فيكتشف القارئ فتاة تكره أن تحتفل بعيد ميلادها وتكره المرايا وتشعر بأنها تخيب أمل عائلتها بها وأنها دون الآخرين شكلاً ومضموناً، حتى إنها تقول في موضع من رسائلها "لم أر نفسي أبداً شخصاً جميلاً" (ص:120)، لتعود وتقول في موضع آخر "سيخيب أمل أبي في للمرة المئة" (ص:35)

الوجودية واللامتوقع

أزمات وجودية إنسانية تواجهها الراوية بشيء من الظرف الذي تتسلح به لتنكر الواقع وتحجبه وتتملص منه عبر توظيف الفكاهة والعفوية وإدراج كلمات بالإنجليزية والعامية وتوظيف اللامتوقع، فتخلق مجدل جوا من إنكار وجعها والاختباء منه أو ما يُسمى بالـ denial، إذ تعري الراوية نفسها في ما يناهز 159 صفحة في ما يظهر بأنه ظرف وفكاهة، لكنه في الواقع وجع من العيش، لتكتب مجدل عن نفسها قائلة "رأيت نفسي كشيء، لا أختلف عن الكرسي سوى بأنني يمكنني أن أتحرك وحدي" (ص:121)

وقد تبرر هذه الجملة بحد ذاتها صورة الغلاف التي تُظهر كرسياً مرمياً أرضاً في غرفة فارغة، ليصبح الكرسي هو الراوية بانكساراتها وأوجاعها ومآزقها الداخلية، لكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد بل تمعن الراوية في وصف دواخلها قائلة "الحياة لم تناسبني يوماً، لم أفهمها، وعندما وجدتُ نفسي أفكر برد فعل الآخرين لم أعد كرسياً، لكنني تحولت إلى قفص" (ص:122)

اقرأ المزيد

وقد يظن القارئ أن الراوية تؤثر الأشياء على البشر، فهي التي تشبه نفسها بالكرسي حيناً والقفص حيناً آخر، لكن الأشياء نفسها ترفض هذه الفتاة وتحديداً المرايا والأبواب، ولمجدل قصتها مع المرايا والأبواب فهي تكره المرايا وتقول إن "المرايا أسوأ ما حدث للنفس البشرية" (ص:81) أما الأبواب فمصيبتها أكبر، فالأبواب التي تفتح بشكل أوتوماتيكي كلما استشعرت حركة لا تفتح أمام مجدل وكأنها ليست بشراً، فتكتب الراوية عن مأزقها هذا قائلة "وحدها تلك الأبواب الزجاجية التي تفتح تلقائيا تعلم أنني لستُ حقيقية، هذه الأبواب تصيبني بأزمة وجودية" (ص:82) لتتحول بطلة بدار سالم إلى شيء، إلى كرسي أو قفص أو شيء لا تعكسه المرايا ولا تُفتح له الأبواب ولا يجد مكانته في الواقع.

"وحيدة كغرفة مزدحمة" رواية مقتضبة بديعة غريبة غير متوقعة وجميلة بكل ما فيها من جمل ومعان وأساليب وابتكار، فهي رواية الواقع الشبابي الفلسطيني ورواية النفس البشرية الحزينة التي تضحك لمأساتها، ورواية الواقع الفلسطيني المكبل الذي فقد الأم وزوجة الأب والشقيقة والصديقة والحبيب، لكنه ما يزال يجد في نفسه القدرة على الضحك والسخرية ونقد الذات، لتكتب بدار سالم بأجمل وأبسط وأحدّ ما في اللغة "لو كان باستطاعتي أن أنسى، لو كان باستطاعتي أن أكون أخرى" (ص:158)

ويلاحظ متتبع الرواية الفلسطينية المعاصرة أن رواية "وحيدة كغرفة مزدحمة" جزء من موجة أصوات روائية فلسطينية جديدة مبدعة تنقل الواقع الفلسطيني بسردية جديدة وتقنيات وفضاءات وأبطال يختلفون عما كان موجوداً في السردية الفلسطينية سابقاً خلال القرن الـ 20، فبعيداً مما عرفه الأدب مع غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، تظهر اليوم أصوات جديدة بتقنيات ووجهات نظر جديدة كمثل ابتسام عزام في روايتها "سفر الاختفاء" التي بلغت "بوكر" العالمية بترجمتها الإنجليزية التي قام بها العراقي سنان أنطون، وعمر خليفة الأستاذ الجامعي والباحث في "جامعة جورج تاون قطر" في روايته "قابض الرمل" التي يرفض فيها الفلسطيني أن يعيد سرد النكبة كما هو متعارف عليه، أو كذلك مع شذى مصطفى في "ما تركتُ خلفي" والتي تطرح فيها أسئلة ما كانت موجودة في أدب القضية خلال العقود السابقة، وما كان كاتب يجرؤ أن يطرحها، لتكون الرواية الفلسطينية اليوم عند منعطف جديد من تاريخها وفي طريقها إلى العالمية بحلة سردية حديثة ومشرقة.

المزيد من ثقافة