ملخص
كان أول ذكر لما يمكن وصفه "بورصة" في التاريخ المعروف ما ورد في مسرحة شكسبير "تاجر البندقية"، أما البورصة كما نعرفها الآن فبدأت في بلجيكا في القرن الـ13، بل إن الاسم يعود إلى تاجر المنسوجات روبرت فان دير بورص الذي وفر للتجار البلجيكيين مكاناً يقايضون فيه ويتبادلون التجارة في ما بينهم وجهاً لوجه
في الوقت الذي ما زالت هناك أسواق مالية ناشئة في مرحلة التطور لتصبح أعمق وأوسع نطاقاً بحجم رأس المال وعدد الشركات المسجلة فيها بطرح أسهم وكمية ما تتداوله من سندات وأوراق مالية أخرى، تبدو البورصات التقليدية أو أسواق الأسهم والسندات أو أسواق المال الكبرى في حال تراجع، حتى أن واحدة من أعرق المجلات الاقتصادية في العالم الـ"إيكونوميست"، نشرت تحليلاً في مارس (آذار) 2024 بعنوان "لماذا تختفي أسواق الأسهم؟".
لكن دروس التاريخ على مدى قرون طويلة ماضية تشير إلى أن النظام المالي العالمي لا يمكنه الاستغناء عن "البورصة" أو "سوق المال التقليدية"، حتى في الفترات التي شهدت انهياراً للأسهم والسندات وغيرها من المشتقات الاستثمارية لم تختف البورصة، بل عادت وأحياناً بصورة أقوى.
مع ذلك، وفي ظل ما يشهده العالم حالياً من تغييرات تبدو جذرية نتيجة السياسات المالية والاقتصادية للإدارة الأميركية الجديدة للرئيس دونالد ترمب، ليس هناك ما هو مستبعد تماماً، خصوصاً أن سياسات إدارة ترمب لا تقتصر على تغيير نظام التجارة العالمي في السلع والبضائع، بل ربما ينسحب ذلك إلى تجارة الخدمات، بما فيها الخدمات المالية، وهذا ما يمكن أن يسرع من تدهور أسواق المال أو البورصات التقليدية وأسواق الأسهم والسندات.
البورصة وأسواق المال
كان أول ذكر لما يمكن وصفه "بورصة" في التاريخ المعروف ما ورد في مسرحة شكسبير "تاجر البندقية"، أما البورصة كما نعرفها الآن فبدأت في بلجيكا في القرن الـ13، بل إن الاسم يعود إلى تاجر المنسوجات روبرت فان دير بورص الذي وفر للتجار البلجيكيين مكاناً يقايضون فيه ويتبادلون التجارة في ما بينهم وجهاً لوجه، ثم كانت أقدم بورصة في أمستردام بهولندا في القرن الـ16.
ولم تتطور البورصة إلى تداول سندات الدين وأسهم الشركات بالصورة التي نعرفها الآن إلا في الربع الأخير من القرن الـ18 مع بروز بورصتي لندن ونيويورك.
ويظل اسم "بورصة" شائع الاستخدام في أوروبا، وبدأ مع "بورصة باريس"، وفي بعض المناطق في آسيا وغيرها، لكن مع تطور تداول الأسهم والمشتقات الاستثمارية وسندات الدين المختلفة وغيرها من المشتقات الاستثمارية والأوراق المالية أصبح اسم "سوق الأسهم" أو "سوق الأوراق المالية" أكثر شهرة لاستخدام بورصة نيويورك ثم لندن له.
تطورت البورصات بنهاية القرن الماضي من كونها ساحة للمتعاملين أو سماسرة الأوراق المالية الموجودين بصورة مادية يبيعون ويشترون إلى "التداول الإلكتروني" الذي أصبح تقريباً معمولاً به في معظم أسواق الأوراق المالية حول العالم، إذ يمكن الآن للمتعاملين من شركات ومؤسسات وأفراد التداول من أجهزة الكمبيوتر في أماكن وجودهم، أو حتى من هواتفهم الذكية سواء كان تداولاً مباشراً أو عبر وسطاء.
في النهاية تعبر هذه التسميات كلها عن شيء واحد هو مكان يجتمع فيه التجار والمستثمرون لتداول عقود البيع والشراء لكل ما يباع ويشترى من أسهم شركات وسندات دين وسلع وغيرها.
ولاعتبارات الوضوح فحسب، سنستخدم هنا مصطلح "بورصة" أو "السوق" للتفرقة بين أسواق المال التقليدية وأسواق المال الأخرى الحديثة مثل صناديق رؤوس الأموال الخاصة وأسواق الائتمان بالإقراض المباشر بين الدول والمؤسسات وغيرها، أي ببساطة، البورصة هي سوق الأوراق المالية أو السوق المالية التقليدية، وتلك التي يشار إليها هنا في معرض تقدير ما إذا كانت وصلت إلى نهايتها ويمكن أن تختفي أم لا؟
مؤشرات التدهور
مطلع فبراير (شباط) الماضي نشرت كلية القانون بجامعة أوكسفورد ورقة عن "تراجع أسواق الأسهم في بريطانيا... هل القيود التنظيمية هي المشكلة وهل التخلص منها هو العلاج؟".
وعلى مدى العام الأخير كثرت التحليلات والتعليقات حول تدهور بورصة لندن مع تفادي الشركات التي تقوم بطرح أولي للأسهم لندن والطرح في بورصة نيويورك، وحتى انسحاب بعض الشركات من مؤشر بورصة لندن والتسجيل في نيويورك.
ويعود تدهور بورصة لندن، التي كانت يوماً ما أهم وأقوى بورصة في العالم، إلى عوامل كثيرة معظمها له علاقة بأوضاع داخلية منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" عام 2020 والهزات التي تعرض لها الاقتصاد البريطاني، بما فيها أزمة فقدان الثقة نتيجة الموازنة الكارثية لحكومة ليز تراس التي لم تستمر في الحكم سوى ستة أسابيع، إلا أنه يعد أيضاً مؤشراً إلى تدهور الأسواق التقليدية في ظل تنامي أسواق بديلة لرأس المال، منها على سبيل المثال "صناديق رأس المال الخاص".
هناك عامل مهم، وإن لم يحظ بكثير من الاهتمام في تحليلات وتعليقات الاقتصاديين وهو توجه عدم الاهتمام بالسوق في الأعوام الأخيرة، إذ بدأ الأمر بالبنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة التي تتمتع باستقلالية عن الحكومات ومهمتها وضع السياسة النقدية، فقبل أزمة وباء كورونا كانت البنوك المركزية تأخذ في الاعتبار تحركات السوق وأداء مؤشرات البورصة وتوقعات المستثمرين وردود فعلهم في الاعتبار عندما تقرر السياسة النقدية (تحديد سعر الفائدة والتحكم في السيولة عبر شراء أو بيع السندات لدى البنك المركزي).
إنما في الأعوام الأخيرة أصبحت البنوك المركزية تهتم أكثر بعوامل غير وضع السوق، وتحديداً مؤشرات الاقتصاد الكلي من معدل التضخم (وظيفتها الأساس ضبطه وكبح جماح ارتفاعه) وأرقام سوق العمل والنمو الاقتصادي وغيرها، هذا التجاهل للبورصة من قبل البنوك المركزية أصبح الآن موجوداً أيضاً عند واضعي السياسات المالية في الحكومة، خصوصاً الحكومة الأميركية الجديدة.
فمطلع هذا الشهر، وتعليقاً على هبوط مؤشرات الأسهم في البورصة الأميركية نتيجة قرارات فرض التعريفة الجمركية على شركاء أميركا التجاريين، قال وزير الخزانة سكوت باسينت بوضوح إن إدارة ترمب لا تعبأ بهبوط أو ارتفاع مؤشرات الأسهم وأن ذلك لن يثنيها عن الاستمرار في سياساتها، هذا عكس ما كان عليه الوضع في فترة رئاسة ترمب السابقة، إذ إن الرئيس يفاخر دوماً بارتفاع مؤشرات السوق باعتباره إنجازاً لإدارته الأولى.
أسواق مال بديلة
لا تقتصر مؤشرات التدهور على موقف البنوك المركزية، المسؤولة عن السياسات النقدية، أو موقف الحكومات ووزارات الخزانة فيها المسؤولة عن السياسات المالية، بل إن هناك عوامل مهمة أخرى تدعم حجة من يرون أن "البورصات التقليدية انتهى دورها"، ففي معرض الإجابة عن تساؤل اختفاء البورصة التقليدية، أشار تحليل الـ"إيكونوميست" العام الماضي إلى أن شركات كبرى حول العالم مثل "بايت دانس" و"أوبن أي آي" و"سترايب" اختارت أن تظل شركات خاصة لا تطرح أسهمها في البورصة.
وتعتمد تلك الشركات على التمويل من "صناديق رأس المال الخاص" وغيرها من سبل الاقتراض المباشر البديلة للتمويل من طرح الأسهم في السوق التقليدية، وفي أحدث الصفقات من هذا النوع، ما أعلن عنه هذا الأسبوع من تأمين شركة "أوبن أي آي" للذكاء الاصطناعي تمويلاً بنحو 40 مليار دولار بمساعدة "سوفت بنك" الذي يدير صناديق رأس مال خاص للاستثمار في شركات التكنولوجيا الناشئة.
وتعد صناديق رأس المال الخاص أحد أهم البدائل حالياً لأسواق المال التقليدية، وبحسب أحدث الأرقام من صندوق النقد الدولي فإن تلك الصناديق تدير ما يزيد على 15 تريليون دولار.
هذه التريليونات توفر التمويل للشركات الناشئة التي لم تطرح أسهمها في البورصة أو الشركات الخاصة المغلقة على مستثمرين مؤسساتيين محددين وليست مسجلة على مؤشرات البورصة.
كذلك فإن إحدى طرق استثمار تلك الصناديق هي شراء شركات مسجلة في البورصة وسحب تسجيلها وتحويلها إلى شركات خاصة إما لتفكيكها وبيعها محققة أرباحاً كبيرة أو إعادة هيكلتها إذا كانت متعثرة ثم تشغيلها بصورة فضلى أو بيعها بعد تحسين وضعها وتحقيق الأرباح.
هل تختفي البورصة؟
كل ذلك يسحب من دور البورصة التقليدية، طبعاً إضافة إلى لجوء الشركات وحتى الحكومات إلى طرق تمويل بديلة عن طرح الأسهم والسندات، سواء التمويل من صناديق رأس المال الخاص أو من أصحاب الثروات مباشرة، وفي ما بين الدول هناك أيضاً الاقتراض المباشر وسبل الائتمان الأخرى.
إلا أن كل ذلك قد لا يعني نهاية أسواق المال التقليدية، أي البورصات كما نعرفها، ففي النهاية ستظل الشركات والحكومات في حاجة إلى تداول الأسهم والسندات والأوراق المالية والمشتقات الاستثمارية الأخرى في سوق منظمة لها قواعد محددة وتشريعات تضمنها الدول، حتى أدوات الاستثمار البديلة تحتاج أحياناً إلى البورصة والسوق التقليدية أيضاً.
ثم هناك تطورات عدة نتجت من التقدم التكنولوجي تقلل من مسألة احتمال "اختفاء" البورصة التقليدية، فالتداول الإلكتروني وتطبيقات التعامل على الهواتف الذكية زادا من نسبة المستثمرين الأفراد في الأسهم والسندات والأوراق المالية الأخرى، ولم يعد الاستثمار في البورصة قاصراً على مستثمرين أو أصحاب ثروات كبار، بل إن باستطاعة أي شخص الآن أن يفتح محفظة تداول أسهم على هاتفه الذكي وبمبالغ قليلة.
حتى أن الأصول الاستثمارية الجديدة، مثل الأصول الرقمية والعملات المشفرة، سعت بقوة إلى أن تسجل شركاتها ومنصاتها وصناديقها على مؤشرات البورصات التقليدية، وتحسن سوق المشفرات بشدة مع بدء أول تسجيل لصناديق عملات مشفرة في بورصة نيويورك في يناير (كانون الثاني) 2024.
هكذا، ما زلنا نشهد عمليات طرح أولي للأسهم من شركات ناشئة وشركات راسخة كانت شركات خاصة مغلقة منذ فترة.
وبغض النظر عن الزيادة أو الانخفاض في معدلات تسجيل الشركات على مؤشرات السهم في البورصة، إلا أن حجم السوق الأولية (البورصات أو أسواق الأوراق المالية التقليدية) يظل أكبر بأضعاف مضاعفة عن حجم السوق الثانوية أو أسواق الائتمان البديلة.