تضم منطقة القاهرة القديمة كنوزاً معمارية من التراث الإسلامي، تتنوع بين مساجد وسبل وتكايا وخانقاوات، لا تزال رغم مرور الزمن تبهر زائريها، حيث تضم "الجمالية" أحد أقدم أحياء القاهرة واحدة من أجمل الآثار الإسلامية وهي "خانقاه بيبرس الجاشنكير" الواقعة قُرب شارع المعز لدين الله الفاطمي، الذي يعتبر أكبر متحف مفتوح للآثار في مصر، وما أن يدلف الزائر إلى داخل الخانقاه عبر بواباتها الضخمة ذات النقوش حتى تسوده حالة من السكينة بفضل جمال المعمار وأسراب الحمام التي تتخذ من هذا المكان دون غيره ملجأً.
مكان لتعبد المتصوفين
وتميزت فترة الحكم المملوكي لمصر بازدهار العمارة الإسلامية، وبقيت العديد من الآثار التي تعود لفترة حكم المماليك، والتي تزخر بها منطقة القاهرة القديمة، شاهدة على ذلك، ورغم أن الخانقاه فقدت وظيفتها الأساسية في كونها مكاناً ينقطع فيه المتصوفون للعبادة، فإن إقامة الصلوات في موعدها لم تنقطع في هذا المكان حتى الآن، على مدار نحو 700 عام، وهو عمر خانقاه بيبرس الجاشنكير.
وللتعرف إلى طبيعة الخانقاه أو الخانكاه ووظيفتها في هذا العصر والهدف من إنشائها، يقول الخبير الأثري، سامح الزهار، لـ"اندبندنت عربية" إن "الخانقاه هي المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة، ومن ثم اقتضت وظيفتها أن يكون لها تصميم خاص، فهي تجمع بين تخطيط المسجد والمدرسة، بالإضافة إلى الغرف التي يختلي أو ينقطع بها المتصوف للعبادة، والتي عُرفت باسم (الخلاوي)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتابع "يشرح المقريزي الخوانك فيقول إنها جمع خانكاه وهي كلمة فارسية معناها بيت الأكل، وقيل أصلها خونقاه أي الموضع الذي يأكل فيه الملك، وقد نشأت في الإسلام في حدود القرن الرابع للهجرة، وجُعلت ليتعبد فيها المتصوفة، أما في مصر فلم تظهر إلا في القرن السادس الهجري، وكانت العمارة الإسلامية قد بدأت ببناء المساجد والأربطة فالمدارس والمصليات والخوانق والأسبلة والتكايا".
أجمل خانقاه في القاهرة
وتعد خانقاه بيبرس الجاشنكير من أجمل خانقاوات القاهرة، حيث تبهر زائريها بعظمة عمارتها الإسلامية وطرازها المعماري الفريد، وعن مكانها ومواصفاتها يوضح الزهار "تقع في شارع باب النصر بمنطقة الجمالية، وتعد أقدم خانقاه لا تزال قائمة في القاهرة، ولها منارة ذات طراز فريد، وبدأ بيبرس في بنائها عام 1307م قبل أن يتسلطن وأنهى تشييدها في عام سلطنته 1309م، وقد وصفها شيخ مشايخ مؤرخي العصور الوسطى المقريزي بأنها أجمل خانقاه في القاهرة، ويميزها الشباك الكبير الذي تتبين عليه أبهة الخلافة، والذي حمله الأمير البساسيرى من بغداد إلى القاهرة بعدما استولى المغول على بغداد في عام 1258م".
ويضيف "كانت تضم مطبخاً يوزع كل يوم اللحم والخبز والحلوى على الصوفية والفقراء المقيمين بها، وكان القرآن يُتلى فيها من دون انقطاع، وكان الحديث النبوي يُدرس تحت قبتها، وقد أغلقها السلطان الناصر محمد وأزال اسم بيبرس من طرازها بعد القبض على الأخير وقتله، ثم أعيد فتحها بعد عشرين سنة".
متذوق طعام السلطان
من يكون بيبرس الجاشنكير؟ وماذا تعني كلمة جاشنكير وما طبيعة هذه الوظيفة وأهميتها في أثناء فترة الحكم المملوكي لمصر؟ عن هذا الأمر يقول الخبير الأثري "كان هذا الرجل من أصل شركسي ومن مماليك السلطان المنصور قلاوون، وتدرج في المكانة فأصبح أميراً ثم جاشنكير، وهي كلمة من أصل فارسي من كلمة چاشني وتعني التوابل، وهي وظيفة في الدولة المملوكية كان صاحبها يقوم بتذوق طعام السلطان للتأكد من أنه غير مسموم، وبعد وفاة قلاوون خدم بيبرس الجاشنكير كل من ابنيه السلطانين الأشرف خليل والناصر محمد".
يتابع "في فترة حكم الناصر محمد الثانية تقلد منصب الأستادار، وهو رئيس الخدم السلطاني، ولعب دوراً في إخماد تمرد وقع في صعيد مصر، كما كان أحد قادة الجيش المصري الذي هزم المغول في معركة مرج الصفر، وتولى بيبرس الجاشنكير السلطنة لفترة قصيرة، حيث كان السلطان المملوكي الثاني عشر، وشهد حكمه العديد من الصراعات التي انتهت بقتله، ولم يدفن في الخانقاه التي تحمل اسمه، حيث قُبض عليه وحُمِل إلى الناصر مقيداً بالحديد، فعدّد له ذنوبه وأقر بها بيبرس وطلب العفو، لكن الناصر أمر بخنقه، وقد دُفن خلف القلعة".
عتبة فرعونية
أكثر ما يلفت انتباه الداخل إلى خانقاه بيبرس الجاشنكير، وجود عتبة فرعونية على مدخلها تحمل نقوشاً فرعونية، وهي مقتطعة من أحد المعابد ومستخدمة في البناء كما كان شائعاً في ذاك العصر من استخدام بعض الأحجار الفرعونية في التشييد. وتعليقاً على ذلك يقول الزهار "هذه القطعة الفرعونية ذات النقوش البديعة من ضمن الآثار المنقولة كحال أغلب المساجد التي تمثل نموذجاً لمزيج الحضارات المتعاقبة في مصر، والعتبة تحمل ثلاثة مناظر للملك رمسيس التاسع راكعاً ومُقدماً لأواني الخمر، ونقوشاً هيروغليفية تسجل اسمه".
ويضيف "لم يقتصر التواجد الفرعوني في الخانقاه على ذلك، فهناك جزء من مائدة قرابين من البازلت تحمل نقوشاً هيروغليفية، وتعود إلى عهد الدولة المتأخرة، وهذه القطعة نُقلت إلى المتحف المصري".
حكاية البغدادي
"حادي بادي سيدي محمد البغدادي"، عبارة شعبية قديمة يتغنى بها الأطفال في أثناء لعبهم، ربما من دون معرفة بصاحبها ولا بحكايته، فالبغدادي له علاقة بخانقاه بيبرس الجاشنكير، وهكذا يوضح الزهار "إنه محمد أمين البغدادي شيخ الطريقة الصوفية النقشبندية، القائم ضريحه في الخانقاه، والمولود ببلدة السليمانية في العراق عام 1286هـ، فقد نشأ يتيماً وترعرع في حضانة والدته فحفظ القرآن وتبحر في العلم وكان حُجة في الفقه الشافعي، وكان يجيد العربية والتركية والفارسية، وعاش شبابه زاهداً بعيداً عن مباهج الحياة وزخارفها وكان جواداً كريماً يحب العزلة والانفراد بعيداً عن الناس، وخُتمت حياته بأن دفن في مصر في خانقاه بيبرس".