لعب الشارع في تونس دوراً بارزاً في رسم منعرجات حاسمة في مسار البلاد السياسي في تاريخها المعاصر، بدءاً بأحداث 26 يناير (كانون الثاني) 1978 التي واجهت فيها حكومة الهادي نويرة سخط العمال، ما أدى إلى مقتل العشرات حين واجه الجيش التونسي الذي نزل لأول مرة إلى الشارع المتظاهرين بالرصاص، وصولاً إلى أحداث الحوض المنجمي 2008 ثم احتجاجات 17 ديسمبر (كانون الأول)، 14 يناير 2011، التي أطاحت نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وحتى بعد 2011 ما زال الشارع ينبض ويضبط بوصلة المشهد السياسي بتأطير من الجهات السياسية الضاغطة في اتجاهات محددة.
فهل ما زال الشارع يملك خيوط اللعبة في تونس، بعد 25 يوليو (تموز) 2021، أين تتصارع القوى السياسية بين رافض لمشروع قيس سعيد ومؤيد له؟ أم أن النخب السياسية هي التي تملك الحل لإخراج تونس من أزمتها؟
لم يهدأ الشارع التونسي، وبخاصة شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة، حيث تتنافس القوى السياسية المتصارعة حول "الشرعية" التي تريد كل جهة تعزيزها بقوة اكتساح الشارع، بينما يعرف المشهد السياسي انقسامات حادة، طرفاها معارض لقيس سعيد ومؤيد له وما بينهما.
وبينما يعول أغلب التونسيين على الحوار الهادئ، ومحاسبة من أخطأ في حقهم، يمضي رئيس الجمهورية في خطه السياسي الرافض للحوار مع الأحزاب السياسية والدخول بالبلاد إلى ما سماها جمهورية جديدة بدستور ونظام سياسي جديدين.
المنظمة النقابية تنجد تونس عند الضرورة
وبالعودة إلى دور الشارع في المسار السياسي، ندرك أهمية الدور الذي اضطلعت به المنظمات الوطنية، وبخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل، والأحزاب اليسارية التي أسهمت إلى جانب عمادة المحامين، في تأطير تلك التحركات التي أدت إلى إسقاط نظام زين العابدين بن علي، الذي حكم البلاد لمدة 23 سنة، ويؤكد العضو السابق في المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، محمد علي البوغديري أن "الاتحاد كمنظمة جماهيرية ضاربة في تاريخ تونس، وممتد في جغرافيتها، من يملك القدرة على تعبئة الشارع، كلما استدعت القضايا الوطنية ذلك"، مشيراً إلى أن "الاتحاد يجمع كل المشارب والتوجهات الفكرية والسياسية، ويضم 100 ألف منخرط، ونحو 60 ألف نقابي، ويتلازم دوره الاجتماعي مع دوره الوطني، من أجل المصلحة الوطنية العليا". ويضيف البوغديري أن "الاتحاد نجح في تأطير تحركات الشارع، ضد منظومة حكم بن علي قبل 2011، وأيضاً من خلال تجميع القوى السياسية حول طاولة الحوار سنة 2014 عندما كادت البلاد تنزلق إلى حرب أهلية إثر الاغتيالات السياسية".
ويصف المسؤول النقابي السابق ما يحدث في الشارع اليوم بـ"العبث"، مضيفاً، "أصحاب المصالح السابقة والمرتبطون بالأجندات الأجنبية يريدون توظيف الشارع مثلما حدث في اعتصام الرحيل في 2013، إلا أن السياق مختلف تماماً هذه المرة". ويؤكد أن "الوضع اليوم مختلف تماماً، لأن السلطة الحاكمة حالياً في تونس تستمد قوتها من الشارع وتتفق أغلب شرائح المجتمع على الرغم من الصعوبات والظروف الاقتصادية الاجتماعية على أن ما يقوم به رئيس الجمهورية قيس سعيد هو في صالح البلاد"، ويرى أن "العودة إلى ما قبل 25 يوليو 2021 هو انتحار"، معتبراً أن "مسار تونس الجديد جنَّب البلاد تجاذبات سياسية عنيفة، كانت ستدفع بها إلى الانهيار".
وبدا البوغديري متفائلاً بالمسار الذي انطلق فيه رئيس الجمهورية منذ 25 يوليو 2021، على الرغم مما "يتعرض له من هرسلة (مضايقة) داخلية وخارجية"، لافتاً إلى "بعض المؤشرات الإيجابية كانتعاش قطاعات الفوسفات والفلاحة والسياحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا أحد يملك الشارع
من جهته، يرى سرحان الناصري، رئيس حزب التحالف من أجل تونس أنه "لا توجد أي جهة سياسية قادرة اليوم على احتكار الشارع لصالحها، لأن الشارع التونسي له مطالب معروفة وواضحة، وهي تحسين المقدرة الشرائية والتحكم في الأسعار وتوفير خدمات صحية وتعليمية ووسائل نقل محترمة". ويضيف أن "تحقيق هذه الآمال لن يتم إلا في ظل الاستقرار السياسي، لذلك فالشعب التونسي مدعو للمشاركة في الاستحقاقات المقبلة من أجل الإصلاح السياسي، لإفراز برلمان يحترم مطالب الشعب التونسي ويكون في مستوى انتظاراته".
إقحام الشارع من أجل الحل السياسي
في المقابل، يؤكد عصام الشابي الأمين العام للحزب الجمهوري، أن "المنطق السياسي السليم في اللحظة التونسية الراهنة يتطلب استدعاء الفرقاء السياسيين والقوى الوطنية إلى الحوار، للبحث عن حلول تشاركية من أجل خلق مساحة مشتركة، إلا أن الوضع الحالي في تونس لا يوحي بذلك، بسبب سلوك النخب السياسية عامة، ولرفض رئيس الجمهورية الحوار والتعاطي مع الأحزاب السياسية". ويدعو الشابي التونسيين والرأي العام إلى "إقحام الشارع كفاعل رئيس في المعادلة السياسية من أجل حل الأزمة الراهنة التي تتجه نحو الإفلاس". ويرى الأمين العام للحزب الجمهوري أن "التجمعات والتظاهرات والاعتصامات المؤطرة في مختلف جهات الجمهورية قد تقلب موازين القوى، وتتفاعل مع الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية، من أجل تغيير المعادلة السياسية والعودة إلى الديمقراطية والمؤسسات". ويحذر الشابي من "انفجار الشارع غير المنظم وبلا قيادة سياسية، ويدعو إلى مزيد من التأطير والنزول بكثافة إلى الشارع لإنقاذ البلاد"، لافتاً إلى أن المعارضة مشتتة إلا أن البوادر الأخيرة في التجميع قد تؤتي أكلها".
نضال وطني ديمقراطي عبر الشارع
في الأثناء، يعتبر الناشط السياسي والقيادي في حزب العمال اليساري، علي الجلولي، أن "الشارع آلية من آليات المشاركة المواطنية، ولا وجود لديمقراطية من دون مشاركة سياسية"، لافتاً إلى أن "الشارع التونسي اليوم يحتضن قوى ومواقف سياسية مختلفة بين معارضة وموالاة لقيس سعيد وما بينهما". ويحذر الجلولي من "مخاطر توظيف الشارع وتغذيته بالشعبوية والمحتوى الاقتصادي والاجتماعي"، لافتاً إلى أن "حركة النهضة نكلت بالشعب التونسي طيلة عشر سنوات، وهي اليوم تعمل على توظيف الشارع لصالحها، من خلال الاحتجاج على الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور، وهي في الواقع المسؤولة المباشرة عن هذا التدهور". كما يحمل القيادي في حزب العمال، الدستوريين (التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل والحزب الدستوري الحر) مسؤولية ما آلت إليه البلاد طيلة عقود ما قبل 2011، حين تم اضطهاد الشعب التونسي والنقابات والطلبة". معتبراً أن "التباكي على هموم التونسيين اليوم يدخل في إطار التوازنات الانتخابية". ويخلص إلى أن "الحل يكمن في نضال وطني ديمقراطي، يضم المنظمات والأحزاب التي تدافع عن حقوق التونسيين عبر تعبئة الشارع وشحنه بمضامين تقدمية وقضايا اجتماعية عادلة".
بين تخوف من انفجار الشارع من دون تأطير سياسي أو توظيفه لأغراض ضيقة، تراقب فئة واسعة من التونسيين الوضع، على أمل أن يتوصل الفرقاء إلى حل يضع حداً للنزيف الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي نتيجة غلاء الأسعار وارتفاع التضخم وتدهور القدرة الشرائية، بينما تتقلص تدريجاً الثقة في السياسيين وقدرتهم على التعبئة وابتكار حلول ناجعة لحال البلاد المتدهور على أكثر من صعيد.