ملخص
قوّض الحكام العسكريون الجدد في دول الساحل الأفريقي الحياة السياسية بعدما منعوا عمل الأحزاب، مما يشير إلى شل الديمقراطية وإطالة أمد المراحل الانتقالية.
يتّجه الساحل الأفريقي إلى "تصحر سياسي" تدفع باتجاهه المجالس العسكرية المنبثقة عن انقلابات، حيث تُستهدف الطبقات الحزبية والسياسية في هذه المنطقة الغنية بثرواتها ومعادنها الباطنية، لكنها لا تعرف الاستقرار في ظل حروب أهلية ونشاط الجماعات المتشددة.
ودعا مؤتمر "إعادة تأسيس الدولة" في النيجر إلى حل الأحزاب السياسية والاقتصار في المستقبل علىل ثلاثة أوأربعة أحزاب فقط، فيما جمدت السلطات الانتقالية في مالي المجاورة نشاط الأحزاب.
وخلال العقود الفائتة، سعت القوى الغربية ومنظمات غير حكومية إلى ترسيخ الديمقراطية والتعددية الحزبية والسياسية في منطقة الساحل، لكن صعود قادة عسكريين يميلون إلى روسيا في دول مثل النيجر وبوركينا فاسو ومالي بدا وكأنه يقوّض هذه الجهود بشكل كبير.
لا ديمقراطية بعد الآن
هذه التطورات المرتبطة بالأحزاب السياسية والتجربة الديمقراطية في الساحل الأفريقي تأتي في خضم هواجس لا تُخفيها كثير من الأحزاب والمنظمات غير الحكومية من إطالة عمر المراحل الانتقالية التي تعرفها دول المنطقة.
وأصدر المجلس العسكري في مالي قبل بضعة أشهر، قراراً بتعليق نشاطات جميع الأحزاب السياسية والجمعيات مما أثار سيلاً من الانتقادات للمجلس ورئيسه، أسيمي غويتا، الذي يحكم البلاد بقبضة من حديد.
ويوجد في مالي نحو 100 حزب سياسي، وفي النيجر 171 معظمها يعارض إطالة أمد المراحل الانتقالية. وفي باماكو دعا 80 حزباً ومنظمة قبل أسابيع إلى تنظيم انتخابات بأسرع وقت ممكن من أجل تسليم السلطة إلى "حكومة مدنية".
وقال الناشط السياسي النيجري، إيساكا مونكايلا، إن "هذه القرارات تعني أنه لن تكون هناك ديمقراطية بعد الآن في دول الساحل الأفريقي التي عرفت انقلابات عسكرية خصوصاً في ظل غياب أي أوراق للضغط على المجالس العسكرية الحاكمة". وأضاف مونكايلا أن "الأحزاب السياسية لم تُدع إلى أي حوارات سياسية أو وطنية أجريت في هذه الدول مما يعكس رغبة في تحجيم نفوذها وتأثيرها في المشهد العام خصوصاً أنه لا توجد إرادة حالياً لتنظيم أي استحقاق انتخابي"، ولفت إلى أن "مثل هذه الإجراءات ستعزز الديكتاتوريات الناشئة وستزيد من الاحتقان السياسي في دولنا ل اسيما أن هناك رفضاً واسعاً لأي إجراءات أحادية تتعلق بحرية العمل الحزبي والمدني".
رفض مُمنهج
وفيما يعتقد كثر أن القرارات التي تستهدف الأحزاب في الساحل الأفريقي تشكل انتكاسةً للعملية السياسية في المنطقة، فإن من غير الواضح ما إذا كانت ستقود إلى احتجاجات أو غير ذلك، خصوصاً في ظل تشديد المجالس العسكرية قبضتها على المشهد العام في دول الساحل.
وقال الباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية، محمد تورشين "أعتقد أن الأنظمة العسكرية الحاكمة في دول الساحل الأفريقي لديها مقاربات مختلفة تماماً عن كثير من الأوضاع التي كانت سائدة قبل قيام قادة هذه الأنظمة بانقلابات"، وتابع تورشين "لذا لا بد من مقاربتها على اعتبار أن الأحزاب السياسية هي امتداد ولها صلات مباشرة أو غير مباشرة مع بعض القوى التي تعمل على زعزعة استقرار دول الساحل سواء في النيجر أو بوركينا فاسو أو مالي، لذا يجب استهدافها". وبين أن "رفض نشاط الأحزاب السياسية في الدول المذكورة سيكون ممنهجاً في اعتقادي وسيمتد ليشمل غينيا كوناكري ويكون نهجاً موحداً بين الأنظمة العسكرية، ولن تكون هناك عملية ديمقراطية وتداول سلمي على السلطة في ظل غياب الأحزاب".
وخلُص المتحدث إلى أن "هذه الأحزاب هي بمثابة الركيزة الأساس لأي عملية ديمقراطية، لذا أعتقد أن هذه المسألة ستؤثر بشكل سلبي في التداول السلمي على السلطة في غرب أفريقيا، وسنشهد أنظمة عسكرية ومستبدة في المنطقة يكون للعسكر فيها اليد الطولى".
احتجاجات مرتقبة
ويشار إلى أن دول الساحل التي شهدت انقلابات عسكرية لا تعرف استقراراً سياسياً منذ فترة، إذ غيرت مالي وبوركينا فاسو حكوماتهما في خطوات لإصلاح ما يمكن إصلاحه ل اسيما في ظل التعثر الاقتصادي والأمني.
وتشهد هذه الدول اضطرابات أمنية لا تنتهي في خضم أنشطة لجماعات مُتشددة مثل تنظيم "القاعدة" و"داعش" الإرهابيين وأيضاً حركات تمرد لا تتردد في شن هجمات دموية.
وقال مونكايلا "يُرتقب أن تقود قرارات المجالس العسكرية، في ما يخص الأحزاب السياسية، إلى احتجاجات لاسيما أنها قوبلت برفض واسع ورأينا في مالي بيانات لشخصيات مؤثرة مثل الإمام محمد ديكو، والقاضي السابق الذي تمرد على المجلس العسكري، محمد شريف كوني، وغيرهما مما يعني أن دائرة رفض هذه القرارات تتسع"، وأردف المتحدث ذاته أن "في المقابل لا تريد المجالس العسكرية الاستماع أصلاً إلى الانتقادات والرافضين لقراراتها، ومن ثم سيلجأ هؤلاء إلى الشارع على رغم الأخطر التي تنطوي على ذلك، لا سيما في ظل غياب إنجازات اقتصادية أو أمنية في الوقت الراهن".
وتُقر السلطات في دول مثل النيجر ومالي بصعوبة تحقيق النصر على الإرهاب أو الجماعات المسلحة حالياً، إذ قال رئيس النيجر الانتقالي، عبدللرحمن تياني إن "القضاء على الإرهاب يتطلب الوقت والصبر".
تحدٍّ عميق للتعددية
وفي ظل توجهها نحو غلق الباب أمام الأحزاب السياسية، يبقى من غير الواضح ما إذا كان ذلك سيمهد لبزوغ فجر أنظمة استبدادية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً أن القادة الانقلابيين هناك تعهدوا في وقت سابق بحماية الحريات السياسية والتعددية في دولهم.
وقال مدير تحرير مجلة "لوديبلومات ميديا"، المؤرخ رولان لامباردي، إن "الدعوات الأخيرة لحل الأحزاب في النيجر، إلى جانب تعليقها في مالي وتراجعها في بوركينا فاسو، تعكس تحدياً عميقاً للتعددية السياسية".
وأوضح لامباردي لـ "اندبندنت عربية" أن "الانقلابيين يُبررون هذه القرارات تحت شعارات السيادة والحفاظ على الأمن الوطني، مدعين أن الأحزاب من شأنها تعزيز الانقسام وعدم الاستقرار".
وشدد على أنه "انطلاقاً من هذا المنطق، يسعى الانقلابيون إلى تحرير أنفسهم من النموذج السياسي والديمقراطي الغربي، الذي يعتبرونه غير مناسب للواقع المحلي، وفوق كل ذلك، فإن الديمقراطيات الغربية المريضة والمستنزفة اليوم لم تعد نماذج، ولم تعد رائجة، والنموذج الذي تتبناه الدول الأفريقية اليوم هو الصيني أو الروسي أو المصري، الذي يتم اعتباره أكثر فعالية في جميع المجالات".
وأبرز لامباردي أن "الانقلابيين يعيدون تنظيم المشهد السياسي وفقاً لمبادئ أكثر استبداداً، ومن الناحية التاريخية، كان رفض الأحزاب في المنطقة يمهد في كثير من الأحيان لإنشاء حركات سياسية منفردة أو مؤسسات انتقالية، ومن هنا فإن الآمال في إقامة ديمقراطية ليبرالية على النمط الغربي قد تضاءلت إلى حد كبير".