ملخص
التجارب التي مر بها السودان تلفت إلى دور الميليشيات الموالية للحكومة والتي تعد سمة بارزة في الحروب الأهلية منذ حرب الجنوب، إلى الحرب في دارفور ثم الحرب الحالية.
يشهد السودان تصاعداً في دور القوات شبه العسكرية والميليشيات في المشهد السياسي والعسكري، مما يعكس تحولات عميقة في طبيعة الحرب الدائرة منذ أبريل (نيسان) عام 2023، إذ استعان الجيش بقوات "درع السودان" وقوات "العمل الخاص" و"القوات المشتركة" في حربه ضد ميليشيات "الدعم السريع"، إضافة إلى قوات جديدة استجابت لدعوة قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان إلى الاستنفار.
وسط هذا الوضع المعقد تتزايد المخاوف من توالد ميليشيات ذات طابع أيديولوجي وإثني، فهذا التصعيد أثار قلقاً من تغلغل الحركة الإسلامية في المقاومة الشعبية المسلحة التي تؤدي تدريباتها على الطائرات المسيّرة وأنظمة التشويش وحرب المدن وسلاح القناصة والمدفعية وسلاح المدرعات في معسكرات تحت إشراف لجان استنفار مركزية في مختلف الولايات، ويطرح تساؤلات حول شرعية العنف واستخدام القوة من قبل هذه المكونات. وبالفعل أصبحت المقاومة المسلحة والميليشيات جزءاً طبيعياً، إن لم يكُن مروعاً، من المشهد الاجتماعي والسياسي السوداني.
في الواقع تشكل الميليشيات جزءاً من المشهد السياسي السائد، بعضها بدوافع أيديولوجية تحركها الحركة الإسلامية التي تسعى إلى الاستيلاء على السلطة مرة أخرى من خلال استخدام هذه الميليشيات، وأخرى تتحدى الهياكل المؤسسية وتعرقلها وتقوضها بما يخدم مصالحها بادعاءات التهميش وغيره.
ومع تداخل المصالح والانقسامات الإثنية والسياسية أصبح الصراع يتخذ طابعاً أكثر تعقيداً، فتتشكل تحالفات انتهازية وتتفاقم حدة العنف ضد المدنيين، وأصبحت الهويات الإثنية نقاط تجمع لمصالح زعماء هذه الجماعات على حساب المدنيين. وبانتشار هذه الميليشيات أصبحت الحرب تختزل في صراع بين ميليشيات تابعة للجيش وأخرى ضده، وعليه تصنف وتسبغ عليها صفات الخير والوطنية أو الشر والخيانة، كل بحسب موقعه وتحالفاته، حتى في حال اتهامها جميعاً بارتكاب جرائم ضد المدنيين.
خطوط فاصلة
للحكومات السودانية تاريخ طويل في التعاقد من الباطن على الأمن والمهمات العسكرية مع جهات فاعلة غير حكومية، ويشهد التاريخ القريب تشكيل حكومة الصادق المهدي إبان فترة الديمقراطية الثالثة في ثمانينيات القرن الماضي قوات "المراحيل" من تحالف يضم 27 قبيلة عربية، مما عرف بـ"التجمع العربي" في مواجهة المجموعات الأفريقية المعروفة بـ"الزرقة". وكانت هذه الميليشيات العربية تعمل كقوة موازية تدعم القوات المسلحة السودانية في مواجهة "الجيش الشعبي لتحرير السودان" تحت شعار "حماية الدين والهوية العربية" ضمن خطاب كانت تروج له الحكومة حينذاك. ففي تلك الفترة كانت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة جون قرنق صعدت عملياتها العسكرية وحققت تقدماً ملموساً في مناطق عدة، متجهة من جنوب السودان إلى منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق، كما سعت إلى التمدد نحو جنوب كردفان.
وظهرت الميليشيات بصورة أخرى من خلال تأسيس قوات "الجنجويد" في عهد الرئيس السابق عمر البشير لمكافحة الحركات المسلحة في دارفور التي تمردت على الحكومة، وأيضاً وفق ثنائية قبائل "عربية" و"زرقة"، وبرع نظام البشير في تأسيس نظام "الأمن الهجين" المكون من السلطات الدينية والعرفية والقوات الخاصة والمنظمات الشعبية والمقاومة الشعبية. وبعد الإجراءات التي نفذها الفريق البرهان عام 2021 برزت نسخة من هذا النظام الأمني في هذه الفترة ونشطت بعد الحرب.
وهذه التجارب التي مر بها السودان تلفت إلى دور الميليشيات الموالية للحكومة والتي تعد سمة بارزة في الحروب الأهلية، منذ حرب الجنوب إلى الحرب في دارفور ثم الحرب الحالية. ومن ضمن الجماعات شبه العسكرية الموالية للجيش وتلك التي تحاربه يبرز النموذج الأول معبراً عن هذا التعاون بين الجيش والجماعة المسلحة، مبتعداً من فكرة تطور الدولة الحديثة ومتجهاً نحو الانغماس والتحول إلى كيان يعزز وسائل العنف. وفي السودان، كما هي الحال في أجزاء أخرى من أفريقيا والعالم، غالباً ما تكون الخطوط الفاصلة بين دور الدولة في توفير الأمن على مستوى المجتمع والاستعانة بهذه القوات، خصوصاً في خضم الحروب والنزاعات، غير واضحة.
اتساع التحالفات
وعاشت منطقة الجزيرة في وسط السودان إضافة إلى شماله وشرقه بمعزل عن الحروب التي اجتاحت جنوبه وغربه، بحيث بقيت هذه الأقاليم ذات الاقتصاد الزراعي مستقرة ومزدهرة نسبياً، مما أثر في طبيعة سكانها المسالمة.
ومع اندلاع الحرب أعلن قائد "درع السودان" أبو عاقلة كيكل الذي ينتمي إلى سهل البطانة انضمامه إلى "الدعم السريع"، وهو ضابط متقاعد في الجيش وأحد الإسلاميين داخل المؤسسة العسكرية خاض معارك في منطقة النيل الأزرق مع القوات الحكومية ضد "الجيش الشعبي لتحرير السودان" وتمكن في وقت سابق من جمع قوات وأسلحة من قبائل عدة في البطانة، وهي المنطقة الممتدة من ولاية الجزيرة وسط السودان إلى نهر النيل شمالاً وولاية كسلا شرقاً، وأسس قوات "درع السودان" عام 2022 رفضاً لـ"اتفاق جوبا" 2020 الذي رأى أنه همش مناطق الوسط والشمال والشرق لمصلحة الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.
برز "درع السودان" ضمن تشكيلات مسلحة مطالبة بإنهاء التهميش الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي تعانيه مناطق وسط السودان ودمجها بالجيش أسوة بـ"الدعم السريع"، وأثار ظهور القوات العلني جدلاً واسعاً، إذ اعتبرت أداة استخباراتية لإفشال "اتفاق جوبا" وخلق توازن مقابل لحركات دارفور المسلحة. كما ورد أن نشأتها أتت بديلاً لحركة الجنرال الصوارمي خالد سعد، المدعومة من جهاز الأمن والاستخبارات ضمن مخطط كان يستهدف الترتيبات الأمنية في "اتفاق جوبا" ويسعى إلى إغراق القوات المسلحة بعناصر تنظيم "الإخوان المسلمين". وسبب الإعلان عن الخطة حرجاً للمؤسسة العسكرية أوان تحالفها مع المدنيين ودفعها إلى اعتقال قادتها وإطلاق سراحهم لاحقاً، ثم استبدلت بقوات "درع السودان" لتنفيذ الخطة ذاتها.
وامتلك كيكل معرفة عميقة بطرق التهريب عبر الحدود الإثيوبية، مما عزز دوره في تأمين الإمدادات العسكرية وقاد السيطرة على ولاية الجزيرة، مما دفع قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى تعيينه والياً عليها، لكنه انشق في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024 وعاد للجيش بصفقة استخباراتية، مما أدى إلى هجمات انتقامية من "الدعم السريع" ضد المدنيين في الجزيرة. لكن بعد سيطرة "درع السودان" على مناطق وقرى الجزيرة في يناير (كانون الثاني) الماضي انضمت كيانات من الإقليم إلى هذه القوات، مما ينذر باتساع رقعة التحالفات العسكرية وسط السودان.
أبعاد معقدة
ونشرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن قرية كمبو طيبة بولاية الجزيرة تعرضت للهجوم في التاسع من يناير الماضي بطائرات مسيّرة، وفي اليوم التالي تحول الهجوم إلى تصاعد دموي نتيجة لهجمات الجماعات والميليشيات المتحالفة مع الجيش السوداني ضد بعض المجتمعات في الجزيرة التي استعادها الجيش من "الدعم السريع". واستهدفت القوات بما فيها "درع السودان" و"كتيبة البراء بن مالك" وميليشيات محلية تجمعات اعتقدوا بأنها مؤيدة لقوات "الدعم".
وتجاوز الهجوم على كمبو طيبة كونه مجرد اشتباك عسكري في الصراع ليكشف عن أبعاد اجتماعية معقدة تتمثل في الاستهداف الموجه ضد إثنيات معينة، مثل "التاما" و"البرغو" و"المراريت"، وهم جزء من المجتمعات الزراعية المعروفة بـ"الكنابي"، وسكانها معظمهم من إثنيات غير عربية من غرب السودان واستقروا في منطقة الجزيرة منذ عقود ويواجهون تهديدات تشمل محاولات محو هويتهم الثقافية والإثنية.
وتسلط هذه الأحداث الضوء على دور الميليشيات في الحرب وتداخل العوامل الإثنية والسياسية والعسكرية، ويمثل الهجوم على قرية كمبو طيبة أحد نماذج تصاعد العنف الذي يرافق هذه الحرب، وقبلها الهجوم على قبيلة "المساليت" في دارفور، حيث يزداد استهداف المدنيين من قبل طرفي الصراع، فضلاً عن أن هذا يشير إلى أن الصراع تطور ليأخذ طابعاً إثنياً، مما يزيد من تعقيد الحلول السياسية المستقبلية.
تصريحات الجيش السوداني في شأن هذه الهجمات ووصفها بأنها تجاوزات فردية ولا دليل على تورط قوات "درع السودان" بها قد تحسب كمحاولة لتوجيه الرأي العام نحو التقليل من حجم الانتهاكات وخفض المسؤولية الجماعية. وهنا يبرز الدور الذي تؤديه الميليشيات والجماعات شبه العسكرية في استنادها إلى استراتيجية تضمن الهروب من المساءلة الذي يكون أسهل في حال قامت بها نيابة عن القوات الرسمية مقابل الاعتراف بها وإشراكها في السيطرة على أدوات العنف.
دوافع الصعود
وتعود دوافع صعود الميليشيات لعوامل عدة هي أولاً، انسحاب الدولة وخفض مسؤوليتها أمام عسكرة العاصمة الخرطوم بعد "اتفاق جوبا" للسلام بنقل الحركات المسلحة التي تنتمي إلى إقليم دارفور ومنطقة جبال النوبة إلى الخرطوم لدمجها في القوات المسلحة وفق بند الترتيبات الأمنية المختلف حوله، مما حفز نمو جماعات مسلحة وميليشيات في مناطق كانت من قبل خالية من مظاهر العسكرة.
ثانياً، أتاح فراغ السلطة فرصة للسودانيين في الوسط والشمال للتصرف بناء على دوافع تبني قضايا التهميش والمظلومية، وهي القضايا ذاتها التي أوصلت قادة حركات دارفور وجبال النوبة المسلحة إلى المشاركة في السلطة وفق محاصصة سياسية.
ثالثًا، انعدام الأمن حفز من دور المجتمع المحلي الذي عمل على تفعيل المؤسسات المجتمعية غير الرسمية مثل الإدارات الأهلية التي ضعف دورها أمام تيارات العسكرة فانطلقت مؤيدة للمقاومة الشعبية ونتجت من هذا الجو السائد فروع ميليشيات ريفية.
رابعاً، استجابة الشباب الذين انضموا إلى "المقاومة الشعبية" والجماعات المسلحة للتفسير التقليدي الذي يحاول من خلاله الحفاظ على واقع أبوي تقليدي يتجلى بصورة خاصة في وحدات الدفاع عن النفس والأرواح والممتلكات الموجودة في الريف والتعبير عنها بالمواجهة المباشرة. ودفع سكان الوسط ثمناً باهظاً في المواجهة بداية من دون حماية من الجيش، فكان أن قرروا بعدها حمل السلاح والانضمام إلى قوات "درع السودان".
وهذه الدوافع هزت واقع احتكار الدولة للاستخدام المشروع للقوة بدرجة تلاشى معها التمييز الواضح بين المدنيين والجنود النظاميين في ضوء التعقيدات المتزايدة للحرب في السودان، فبينما يضع القانون الدولي إطاراً صارماً للتمييز بين المدنيين والمقاتلين تكشف الوقائع عن أن الخط الفاصل بين الفئتين غالباً ما يكون غير واضح، إذ يجد المدنيون أنفسهم في وضعيات إجبارية أو طوعية تفرض عليهم حمل السلاح مما يجعلهم عرضة لفقدان الحماية.
حكم الميليشيات
نظراً إلى العلاقة التي تربط بين المؤسسة الرسمية وهذه الميليشيات، مهما كانت دوافع الأخيرة، فإن مصالح هذه الجماعات المسلحة ووجودها كعنصر فاعل لا ينسجم مع دعم التحول المدني الديمقراطي، حتى لو نشطت في وقت الحرب فقط لأن الإصلاح السياسي يسعى إلى إعادة التوازن ويمكن أن يضعف نفوذها عبر الانتخابات والمشاركة المدنية، مما يقلص سلطتها ويحد من مكاسبها، وهذا الصراع بين التحول الديمقراطي والنظام العسكري يعكس تفضيل قادة الميليشيات للبقاء ضمن الأنظمة الانقلابية التي تضمن لهم نفوذاً.
ويمكن ملاحظة أن مشروع التحول المدني الديمقراطي يمثل تهديداً مباشراً لقادة الميليشيات الذين يستفيدون من الحرب لبناء قوتهم. أما تحقيق السلام وبناء دولة المؤسسات من خلال سيادة القانون والتداول السلمي للسلطة فإنه يقلل من إمكان استمرار نفوذهم، لذلك تعمل هذه الجماعات على الحفاظ على مصالحها عبر التحالف مع المؤسسة العسكرية، مما يخلق مشروعاً سلطوياً بديلاً يستند إلى التسوية على حساب الاستقرار والسلام والديمقراطية.