ملخص
بين الأعمال الادبية الكبيرة التي طال انتظار ترجمتها إلى العربية رباعية "يوسف وإخوته" للكاتب الألماني الحائز جائزة نوبل توماس مان، وبعد ما يقارب القرن من صدور جزئها الأول عام 1933، أصبحت في متناول القارئ العربي بفضل ترجمة الأكاديمي محمد إسماعيل شبيب، فقد صدرت عن دار الرافدين بأجزائها الأربعة، وقد بذل المترجم محمد إسماعيل شبيب جهداً كبيراً في عمله الدؤوب مكرساً أربع سنوات من عمره لنقل هذا العمل الضخم إلى العربية ومعوضاً انتظاراً دام 91 عاماً، أما توماس مان فقد استغرق 16 عاماً لينجز هذه الملحمة، إذ بدأ كتابة جزئها الأول قبل أن يتوج بجائزة نوبل وسافر إلى مصر بحثاً عن الإلهام واكتشاف المكان بنفسه، ثم واصل كتابتها بعد ذلك في مدن مختلفة خلال منفاه، بعدما جرد من جنسيته الألمانية بسبب موقفه المناهض للنازية.
منذ طفولته كان الروائي توماس مان مفتوناً بالحضارة المصرية بعد أن اطلع على كتاب "بلاد الأهرامات العجيبة القديمة"، وكأن هذا الكتاب كان البذرة الملهمة التي أثمرت لاحقاً عملاً أدبياً يعده أعظم إنجازاته، ثم جاءت المصادفة حين طلب منه رسام من ميونيخ عام 1926 أن يكتب نصاً افتتاحياً لمعرض لوحاته التي كانت تدور حول النبي يوسف وإخوته، وبينما كان مان يكتب ذلك التقديم شعر على ما يبدو بأن لديه كثيراً يقوله مما لا يختزله نص مختصر، بل ملحمة كاملة بإمكانه أن يرويها، ولأجل هذه الملحمة شرع في رحلة جديدة من البحث والتنقيب بين المراجع والسفر إلى مصر لاكتشاف روح المكان الذي شهد محطات مفصلية من حياة يوسف، حيث عاش وسجن ظلماً ثم أصبح وزيراً لمصر.
في البداية استند توماس مان إلى سفر التكوين (37-50) لكتابة الجزء الأول من ملحمته، وتناول قصص النبي يعقوب وعلاقته بوالديه ثم هربه وزواجه من راحيل وإنجابه أبناءه، لكنه لم يكتف بهذا المصدر بل انطلق في رحلة بحث معمقة حتى استعان بعالم المصريات فيلهلم شبيجلبيرغ، كي يقدم ملحمة واقعية ومتسقة مع الروايات الدينية.
وفي الجزء الثالث "يوسف في مصر" يظهر بوضوح تأثر توماس مان بالرواية القرآنية، خصوصاً في الفصول التي تجمع بين يوسف وامرأة العزيز المعروفة باسم زليخة، وهكذا استغرق العمل على هذه الملحمة أكثر من عقد كامل ليخرج بـ "رباعية يوسف وإخوته" التي وصفها قائلاً "إنها تحفة ستتذكرها البشرية مع تقادم الزمن، مع أنها بنيت على ماض لن ننساه أبداً"، أي أن توماس مان كان على يقين بأن عمله سيلقى التقدير في المستقبل حتى لو لم يحظ بالإقبال الفوري، وهو لم يكن منشغلاً بفكرة رواجه بين قراء عصره بقدر ما كان يفكر في الأثر الذي سيتركه بعد رحيله، وهذه الرؤية الاستشرافية جعلته يتجاوز خيبة أمله من قراء عصره وزمانه، وقد عبر عن استيائه خلال مراسلاته مع صديقه الروائي الكبير هرمان هسه، كأن تكشف تلك الرسائل عن نقاش فكري وإنساني عميق بين اثنين من أعظم أدباء عصرهما، فكتب توماس مان لصديقه "لقد صدمت فيهم وأشفقت على جهلهم في الوقت ذاته حينما لمست فيهم هذا الكم من العنت والختان الفكري، عزيزي السيد هسه لقد هزتني كلماتك الرقيقة الواعية حول الرواية، وأشكرك من قلبي على سطور رسالتك".
كان هرمان هسه يتابع ملحمة "يوسف وإخوته" منذ كتابة مان جزءها الأول، واستمر في دعمه وتشجيعه عبر ملاحظاته وانطباعاته على مر الأعوام أثناء كتابة مان الأجزاء التالية، وفي إحدى رسائله إليه كتب معبراً عن إعجابه قائلاً "اتسم العمل بالاتساق والتناغم الداخلي العميق، ناهيك بأن الكتاب يمثل هدية من السماء في ظل الأحداث الحمقاء التي نشهدها اليوم"، مضيفاً "أشكرك شكراً جزيلاً على المتعة الحقيقية التي غمرتني بعد قراءة الكتاب، في العمل تفاصيل كثيرة خلبت لبي وتستحق الإشادة والتعليق، ومن أهمها توازن النص وعدم انقطاع الأحداث، إضافة إلى تماسك النسيج الروائي للعمل والنية الصادقة في بناء شكل سردي متكامل".
يوسف وإخوته: القصة الكاملة
تعد رواية "يوسف وإخوته" مرجعاً تاريخياً مهماً وأحد أضخم الأعمال التاريخية في القرن الـ 20، وهي تروي سيرة النبي يوسف ووالده يعقوب بأسلوب ملحمي يجمع بين الرواية التوراتية والقرآنية، إضافة إلى تفاصيل مستوحاة من الميثولوجيا المصرية، وقد بذل توماس مان جهداً بحثياً هائلاً ليستحضر ويصف بواقعية ملامح العصر البرونزي الذي ازدهرت فيه حضارات عظيمة مثل حضارة بلاد الرافدين والحضارة المصرية، لذا فإن القارئ الذي يسعى إلى الاطلاع على سيرة مفصلة للنبي يوسف بتفاصيلها الدقيقة يمكنه اعتماد هذه الرواية التي تختصر أمامه رحلة البحث في مصادر عدة، وتذكر الرواية أن يوسف كان في الـ 28 من عمره حين تولى منصب الوزير في عهد الفرعون أخناتون، مما يعني وفقاً للتقويم المصري أنه ولد عام 1380 قبل الميلاد.
ويرتكز الجزء الأول من الرواية على سيرة يعقوب كما وردت في سفر التكوين (37-50)، فيسرد توماس مان علاقة يعقوب بوالديه وهربه وزواجه من راحيل وإنجابه أطفاله، وفي الجزء الثاني المعنون بـ "يوسف الفتى" ينتقل السرد إلى يوسف في صباه، فيبدو مميزاً عن إخوته بوسامته وذكائه ورؤاه الغامضة التي دفعتهم للتآمر عليه، فيقررون التخلص منه عبر استدراجه إلى وادي دوتان بحجة التنزه خلال رحلة تستغرق خمسة أيام، وهناك يلقونه في بئر جافة ليعودوا لوالدهم من دونه، ويعقوب المفجوع بفقدان ابنه يعاني حزناً أليماً يدفعه إلى التفكير في صنع تمثال يحمل ملامح يوسف، آملاً في أن يبث فيه الحياة.
وفي الجزء الثالث يأخذنا توماس مان إلى حياة النبي يوسف في مصر، حيث يباع في سوق العبودية بثمن بخس ليصبح ساقياً وقارئاً في منزل أحد الوجهاء والمعروف باسم بوتيفار، وهناك تغرم به زوجة سيده وتحاول إغواءه بنظراتها وكلماتها ثم تتودد إليه جسدياً، وعندما يتمنع من الاستجابة لها تتهمه بمحاولة اغتصابها فيزج به في السجن.
أما في الجزء الرابع فيلتقي يوسف في السجن أسيرين كانا يعملان في البلاط، أحدهما خباز والآخر عمل ساقياً لفرعون، وإذ يفسر لهما أحلامهما يخبر الخباز بأنه سيعدم بعد ثلاثة أيام، بينما ينبئ الساقي بأنه سيفرج عنه، ولاحقاً عندما يعجز الجميع في بلاط فرعون عن تفسير حلم أخناتون حول سبع بقرات سمان وسبع عجاف، يُستدعى يوسف لتفسيره فيوضح يوسف أن الحلم يشير إلى سبعة أعوام من الرخاء تليها سبعة أعوام من الجفاف، ويقترح خطة لتخزين الحبوب واتخاذ تدابير وقائية، وبفضل حكمته وذكائه يعينه أخناتون وزيراً للزراعة ويُلقب بالعائل المشرف، فيدير موارد مصر بحكمة ويقوم بإصلاحات واسعة بما فيها بناء الصوامع لغرض التخزين استعداداً لأعوام القحط.
واختتم توماس مان "رباعية يوسف وإخوته" بفصل قوي ومؤثر يصور فيه اللحظات الأخيرة في حياة النبي يعقوب، فيعرض مشاهد مفصلة لبركة يعقوب الشهيرة حيث يبارك أبناءه وأسباطهم قبل أن يرحل عن الحياة، وتتناول الرواية تفاصيل وفاته ومراسم جنازته في ختام ملحمي يعكس عمقها وسردها التاريخي.