ملخص
المطاعم البريطانية أمام مفترق طرق مع تغير عادات الزبائن. فعلى رغم أن أعدادهم لم تتراجع تقلص إقبالهم على الوجبات الكبيرة
في زمن سابق كانت زيارة المطعم تعني إطلاق العنان للانغماس في الملذات - من مقبلات إلى أطباق رئيسة وجانبية وحلوى - ووجود قائمة بأصناف نبيذ كثيرة ومتنوعة عليك أن تأخذ قسطاً من الراحة قبل أن تنتهي من قراءتها، لكن الآن بدأ التغيير يتسلل إلى صورة الطلب على الطعام. فقد تختار طاولة من أربعة أشخاص أن تتشارك المقبلات وربما وجبة واحدة من المعكرونة من دون أن تطلب أي شراب كحولي على الإطلاق. فلا يملك النادل المتمرس في فنون الإقناع بتناول مزيد غير التنهد. فهذا ليس سلوك مرتادي المطاعم الذين ينغمسون في وجبة العشاء أو الغداء - بل هي سمة أي غرفة مليئة بمستخدمي "أوزمبيك".
يعد "أوزمبيك" لمن لا يعرفه أحدث أدوية إنقاص الوزن المدهشة. صمم "أوزمبيك" والأدوية الشبيهة به بداية لتنظيم داء السكري، لكن شعبيته تعاظمت باعتباره مساعداً على خسارة الوزن بفضل قدرته على كبح الشهية عبر محاكاة هرمون 1-جي أل بي GLP-1 الذي يبلغ دماغك بأنك شبعت. وما النتيجة؟ خسارة لافتة في الوزن وهبوط في إيرادات المطاعم على حد سواء.
في الولايات المتحدة، حيث ينتشر استخدام "أوزمبيك" والأدوية المشابهة بكثرة، بدأت المطاعم تشعر بتأثير هذه المسألة [الظاهرة]. وجدت دراسة لـ"مورغان ستانلي" أن 63 في المئة من مستخدمي "أوزمبيك" ينفقون أقل عندما يتناولون الطعام في الخارج - ليس لأنهم لا يملكون المال، بل لأنهم غير قادرين جسدياً على تناول وجبة من أطباق عدة كما في السابق.
ولا يقتصر هذا التوجه على الدوائر الهوليوودية ولا على القراصنة البيولوجيين [أشخاص يتوسلون باستراتيجيات لتحسين صحتهم غير متعارف عليها في الطب] المنتشرين على وسائل التواصل الاجتماعي. تواجه المملكة المتحدة أزمة بدانة، حيث يصنف 64 في المئة من البالغين في خانة الأشخاص الذي يعانون إما وزناً زائداً أو بدانة، ويتوقع أن يبلغ عدد البريطانيين الذين يعانون البدانة 50 مليون نسمة بحلول عام 2050 - وهو ما سيكبد نظام الرعاية الصحية 10 مليارات جنيه استرليني سنوياً.
وفيما يتوفر هذا الدواء من خلال هيئة الخدمات الصحية الوطنية لبعض الحالات المحددة، يتهافت الناس على هذا الجيل الجديد من أدوية إنقاص الوزن. وتظهر الدراسات أن واحدة من كل 10 سيدات تستخدمه الآن، فيما حررت 1.45 مليون وصفة طبية توصي به في عام 2023-2024. ولا تعكس هذه الأرقام الحجم الحقيقي، والأكبر، لعدد المرضى الذين يحصلون على الدواء من خلال طرق خاصة (قد تكون غير قانونية أحياناً) أيضاً.
لم تعد المسألة تتناول فحسب مدى تأثر المطاعم البريطانية [بهذه الظاهرة]، بل السؤال هو حول وتيرة سرعة هذا الأثر واتساعه.
أطباق أصغر ومحفظات أخف
لم يكن حجم الوجبات يوماً مشكلة في التقليد البريطاني - كثيراً ما فضل البريطانيون الكميات الكبيرة من اللحوم المشوية والفطائر الغنية والحلويات التي يحتاج المرء إلى قيلولة بعد استهلاكها. لكن هذا المشهد يتغير وأصحاب المطاعم يلاحظون هذا التغيير بالفعل.
لاحظ نيما صفائي، صاحب مطعم 64 شارع أولد كرومتون، و40 شارع دين والمطعم الجديد في 27 شارع أولد كرومتون تغيراً لافتاً في سلوك الزبائن.
ويشرح أن "معظم الزبائن يأتون لتناول المشروبات فقط أو يطلبون صنفين من المقبلات ليتشاركوها فيما بينهم، وقد انخفض عدد الوجبات الثلاثية الأطباق. أحياناً نتساءل لماذا يدخل الناس المطاعم إن لم يكونوا جائعين فعلاً، لكننا نتفهم أن الموضوع متعلق بالتجربة الاجتماعية وبالاستمتاع بجلسة مسائية مع الأصدقاء".
وتعد النقطة الأخيرة جوهرية، إذ إن المطعم ليس مكاناً مرتبطاً بالطعام نفسه فقط - بل هو المكان الذي يحتضن العلاقات الاجتماعية والاحتفالات والأعمال، لكن حين يصبح الطعام نفسه أمراً ثانوياً لا غير، يبدأ النموذج المالي نفسه بالترنح. ويقر صفائي بأن التغيير يؤثر في قيمة الإنفاق لكل طاولة، "حصل تأثير، ولا سيما عندما يطلب الزبائن وجبات أقل أو يتشاركون الطعام على نحو أكبر. وفيما قد يكون الإنفاق العام لكل طاولة قد انخفض في بعض الأحيان، نجد أن الناس ما زالوا يرتادون المكان لتناول الطعام، لكنهم يقاربون الموضوع بصورة مختلفة".
يظهر هذا التغير في تقرير "مورغان ستانلي" الأخير الذي وجد أنه فيما يطلب مستخدمو "أوزمبيك" كمية طعام أقل، فهذا لا يعني بالضرورة أنهم يرتادون المطاعم مرات أقل. بالتالي، لم يتحقق الخوف من أن يلزم الناس منازلهم بسبب أدوية كبح الشهية التي تمنعهم عن ارتياد المطاعم تماماً - أقله ليس إلى الآن. لكن في المقابل، تتغير عادات تناول الطعام خارجاً بطرق أقل وضوحاً.
لا يزال عديد من مستخدمي "أوزمبيك" يحجزون الطاولات، لكن مقاربتهم للطعام تغيرت. فقد يختارون صنفين من المقبلات بدلاً من وجبة كاملة أو يميلون نحو خيارات غنية بالبروتين أو يركزون ببساطة على الجانب الاجتماعي للأمسية بدلاً من أن يركزوا على تناول الطعام.
وهذا يمثل تحدياً لقطاع الضيافة: كيف يحافظ المرء على الربح فيما تستقبل المطاعم العدد نفسه من الزبائن، لكنهم يستهلكون حصصاً أصغر من الطعام.
احتساء الكحول يتراجع
لا يقتصر هذا التراجع على طلبات الطعام نفسها - بل على الطلب على الشراب كذلك. يفيد عدد كبير من مستخدمي "أوزمبيك" عن تقلص رغبتهم بتناول الكحول، وهو أثر جانبي بدأ يظهر في المطاعم والحانات. لاحظ صفائي الأمر كذلك. ويقول "بعض الزبائن يحتسون كميات أصغر إجمالاً، ولا يطلبون أي مشروبات قبل العشاء، أو يختارون مشروبات أخف فيها نسبة كحول أدنى [من غيرها] أو أصناف نبيذ تحوي نسبة أقل من الكحول أيضاً. ومع ذلك لا يزال الناس في حاجة إلى الاستمتاع، ولم يختف الجانب الاجتماعي من جلسة تناول كأس مع الأصدقاء - بل يتطور".
لكن بالنسبة إلى المطاعم تشكل هذه النقطة مصدر قلق أكثر من تقليص طلبات الوجبات الرئيسة. فمبيعات الكحول هي التي تدر المدخول الأكبر وغالباً ما تعزز هوامش الربح الضئيلة التي يدرها الطعام. ويحذر نائب رئيس مستشاري منطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا في "مورغان ستانلي" توبي كلارك من احتمال أن يكون هذا التغيير أحد أهم التغييرات التي تحدث في القطاع، "يبدو أن عقاقير 1-جي أل بي GLP-1 قد تشكل تهديداً حقيقياً للقطاع، ولا سيما نظراً إلى التقارير الكثيرة عن تراجع استهلاك الكحول لدى المستخدمين. فالكحول محرك رئيس للربح في معظم المطاعم، لذلك قد تتعرض لضربة مزدوجة تخفض مدخولها من المأكولات والمشروبات على حد سواء".
مع تراجع عدد الأشخاص الذين يحتسون المشروبات الكحولية أو يطلبون وجبات كاملة، أصبحت المطاعم تواجه مشكلة لا يمكنها حلها ببساطة عبر تجديد قائمة الطعام.
بين وجبات تاباس خفيفة وتغييرات صغيرة
بدأت بعض المطاعم الفاخرة في نيويورك ولوس أنجليس بتعديل قوائم الطعام بالفعل، وطرح نصف وجبات بنصف الكمية وأطباق أصغر و"مقبلات فاخرة" (مثل الكانابيه والكافيار والمحار) التي تلبي رغبات زبائن ينشدون النوعية وليس الكمية. وفيما لم يقدم أي مطعم في المملكة المتحدة نفسه على أنه "صديق لمستخدمي أوزمبيك" بالطريقة نفسها التي قد يتعامل فيها مع أنظمة غذائية مثل الكيتو أو الطعام الخالي من الغلوتين، فإن التحول نحو تقديم الطعام على صورة وجبات التاباس الإسبانية الخفيفة أو تقديم وجبات غنية بالبروتين أو العناصر الغذائية جارٍ على قدم وساق.
لا شك في أن لندن كانت تواجه قبل ظهور "أوزمبيك" بكثير اتجاهاً جديداً في تناول وجبات أصغر يمكن لمرتادي المطاعم تشاركها، وقد قوبل هذا التفضيل الجديد بحماسة وبانزعاج على حد سواء. وقد غيرت هذه المقاربة للعشاء - التي عززها أمثال راسل نورمان وجوزيه بيزارو في أوائل الألفية الثانية - أسلوب تناول الطعام في الخارج. فبدلاً من الصورة التقليدية القائمة على ثلاثية مقبلات - طبق رئيس - حلوى، تبنت المطاعم مقاربة أكثر مرونة وقابلية للمشاركة.
لكن مع التغيير الهادئ الذي يدخله "أوزمبيك" في مقاربة الناس للأكل في الخارج، قد تجد المطاعم نفسها الآن أمام مفترق طرق. فمن جهة، تلبي الأطباق الأصغر أساساً رغبة الزبائن الباحثين عن تجربة عشاء أخف وأكثر تنوعاً. ومن جهة أخرى ما يترتب على الهامش الضئيل [هامش الربح القليل] في عالم الأعمال هو أنه في حال تناول مزيد من الأشخاص كميات أصغر من الطعام، ستضطر المطاعم إلى إعادة التفكير في سعر الوجبات وحجمها وفي الربحية.
ويقول صفائي "نحن لا نكف عن التفكير في حجم الوجبات والخيارات المتاحة ومع تغير عادات الطعام، قد نرغب في طرح نصف وجبة لبعض الأطباق. وهذا الأمر يسهل فعله مع أطباق المعكرونة (وهو الطبق الرئيس الذي يقدمه في مطعمه الجديد) التي يمكن تقديمها بكميات مختلفة، لكننا نفتخر بكرمنا في تقديم الحصص بأسعار منافسة، ولا نريد أن نساوم على هذه المسألة [لا نريد أن نتراجع]".
يتوقع كلارك أن يتبنى القطاع مقاربة "قليل يغني عن الكثير"، فتصبح الكميات الأقل وقوائم الطعام الأكثر مرونة هي الوضع السائد. ويقول " سيساهم تقديم الوجبات الصغيرة في تخفيف بعض الحيرة التي تحيط بطلبات الطعام حين تكون شهية البعض حول المائدة قد خفت كثيراً، بينما يرغب آخرون في تناول وجبة كاملة"، لكن ذلك كفيل بتوليد مستوى جديد تماماً من الإرباك في نهاية الوجبة، كما يعلم أي شخص حاول تقسيم فاتورة طعام على مجموعة أصدقاء تختلف عاداتهم في تناول الأكل بصورة كبيرة.
ضمور مرتقب في قطاع الضيافة؟
بعيداً من دواعي القلق الآنية المتعلقة بحصص الطعام ومبيعات الكحول، يثير صعود "أوزمبيك" سؤالاً أكبر: هل نتجه نحو تغيير دائم في طريقة تناول الأشخاص للطعام في الخارج؟ من المتوقع أن تبلغ أرباح سوق دواء إنقاص الوزن 150 مليار دولار (81 مليار جنيه) بحلول عام 2030، مما يعني أنه ليس اتجاهاً قصير الأمد فحسب. وتسهم شركة "نوفو نورديسك" الدنماركية لتصنيع الدواء، التي تنتج "أوزمبيك" و"ويغوفي"، في رشاقة المستخدمين لكن شعبية الدواء تسمن [تغذي وتشكل رافد عائداًت له] اقتصاد الدنمارك برمته.
يعتقد كلارك أن صعود أدوية GLP-1 سيسرع الاتجاهات الموجودة أساساً من دون أن يخلق اتجاهات جديدة. ويقول "من المرجح أن يسرع كثير من آثار عقاقير 1-جي أل بي الاتجاهات الموجودة. رأينا تغييراً في مقاربة الصحة بين الأجيال فيما أصبحت فكرة 'الأطباق الصغيرة' على شاكلة التاباس الخفيفة متجذرة في ثقافة الذواقة".
وما يعنيه ذلك بالنسبة إلى المطاعم هو إما التكيف أو التخلف عن الركب. فربما تحتاج إلى رفع الأسعار للتعويض عن تراجع الاستهلاك. وربما تضطر إلى وضع قوائم طعام أكثر مرونة، تفسح المجال أمام الوجبات الغنية والمقبلات الخفيفة في آنٍ واحد. وربما نشعر بعد فترة قصيرة أن وجبة العشاء الثلاثية الأقسام قد ولى زمنها، شأنها في ذلك شأن أقسام التدخين.
لا يقضي "أوزمبيك" على قطاع المطاعم - بل يغير قواعده. والسؤال المطروح هو، هل يتكيف قطاع الضيافة في بريطانيا مع هذا الوضع أم يظل معلقاً بين حالين كما الحلوى نصف المأكولة [غير المستهلكة بالكامل]؟
لكن المؤكد هو التالي: على الطهاة وأصحاب المطاعم أن يقاربوا قوائم الطعام بشيء من الإبداع لأن الطعام نفسه ما عاد الأهم بالنسبة إلى عدد متزايد من مرتادي المطاعم. ولو كان مستقبل تناول الطعام في الخارج هو فعلاً تشارك المقبلات وتناول كوكتيل سبريتز الكحولي الخفيف... سوف تكون الفاتورة سهلة الهضم [أصغر].
© The Independent